الخميس، 14 نوفمبر 2013

صقور السفارة وجديان المغتربين في السعودية


صقور السفارة وجديان المغتربين في السعودية

 
مصعب المشرّف:



 الحديث عن الإغتراب والمفاهيم الرسمية والشعبية المحيطة به في الداخل والخارج يظل ذو شجون .. وحلقة برنامج المحطة الوسطى الذي قدمته الشروق مساء أمس الأربعاء 13 نوفمبر بدأ وكأنه هزة إرتدادية لزلزال حلقة مماثلة من برنامج "حتى تكتمل الصورة" الذي قدمته النيل الأزرق وكشف عن مهازل ومساخر بشعة تجري وتمارس في سفارة السودان بالمملكة العربية السوانية بوجه خاص. ثم وضبابية  وميوعة سلطات ومهام جهاز خدمة المغتربين بالخارج . وهو ما جعل منه جثة هامدة و جهاز صنمي بسماحة جمل الطين ... ولغرض ذر الرماد في العيون لاغير.

لفت نظري من هذه الحلقة بوجه خاص وفي مداخلة لمغترب بالسعودية حول ظروف المساجين لجرائم شتى وبعض المعتقلين السودانيين قيد الترحيل هناك وأعدادهم . أن مقدم الحلقة قاطع  صاحب المداخلة بالقول في إستسلام وقناعة تأصـلت في النفس:

-         ناس السفارة قالوا ما بيعرفوا العدد بالضبط .... ما بيعرفوا

يعني المسألة أصبحت عادية ؛ ولم يعد الإهمال يثير الدهشة والإستغراب والإستنكار حتى .... أو كأنّ جهاز الكمبيوتر الرشيد لم يدخل سفاراتنا بعد.
 
 
الخروقات في سفارة السودان بالمملكة العربية السعودية تعتبر الأخطر من نوعها لسبب أنها منوطة بتوفير خدمات قنصلية ، ورعاية لأعداد من المغتربين السودانيين تناهز ألـ  590 ألف شخص .. أو بما يعني أنهم أكثر من تعداد مواطني بعض الدول العربية ودول أخرى في العالم ... ولكنهم في نظر السفارة السودانية أقل قيمة من حبات الرمال ؛ على الرغم من أن النفس الآدمية الواحدة أعظم عند الله وأعز من الكعبة المشرفة التي تجاورها هذه السفارة وقنصلياتها.
ونظراً لطبيعة مكونات وشرائح المغتربين السودانيين في السعودية التي تتفاوت ما بين الغفير والراعي والعامل والموظف والمهني والمدير .. كل هذا جعل من هذه السفارة وقنصلياتها كما وصفها واحد من المغتربين السودانيين بها في مداخلته أثناء بث برنامج المحطة الوسطى .. وصفها بأنها ســوق بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.... وحيث تكثر وتتكاثر في الأسواق الشياطين.

وعلى وقع الظروف الداخلية التي مرت بها ليبيا مؤخراً .. ثم والإجراءات التي إتخذتها السعودية بشأن تنظيم العمالة الأجنبية لديها . فقد تكشفت مأسي وإنكشفت عورات وسوءات كثيرة كانت على لائحة التغاضي والمسكوت عنه فيما يتعلق بأداء السفارات السودانية في هذين البلدين خاصة والسفارات والقنصليات السودانية عامة.

للأسف الشديد لا أحد في حكومة الخرطوم يرغب في مناقشة جادة وعلاج جذري لواقع "سـوق" السفارة والقنصليات السودانية بالمملكة العربية السعودية بالإضافة إلى ليبيا ؛ بوصفهما الأكثر مقصداً ومطلباً للشريحة الكبرى من المغتربين السودانيين.
 
 
والشيء الذي يمكن قوله من آخر السطر؛ أن السفارة في السعودية وتوابعها من قنصليات تعمل ما ترغب به بـ "عين قوية" و دمٍ بارد ؛ لسبب بسيط هو أنها تكتفي ببذل قصارى جهدها لخدمة طالبي العمرة والحجيج من كبار المسئولين وعائلاتهم في السلطة ومنذ تاريخ إستقلال السودان . وليس كما يعتقد البعض أنها ظاهرة مستجدة .. ولكن كل ما في الأمر أن هؤلاء السئولين وأفراد أسرهم وعائلاتهم إزدادوا ، ووصلت أعدادهم إلى أرقام فلكية خلال الفترة ما بين حكومتي أزهري (المبسطة) في الديمقراطية الأولى ؛ وبين حكومة المؤتمر الوطني (الموسـعة) وإمتداداتها المركزية والولائية المترهلة الجارية.

وربما يحتاج تاريخ وأداء السفارات السودانية منذ عهد الإستقلال وحتى تاريخه وما جرى خلال كل هذه الفترة من تغيرات وطرائف وأولويات مصاحبة .. ربما يحتاج إلى بحث متكامل يتطرق إلى واقع والطبيعة (الهزلية) لعمل ومهام السفارات السودانية الأكثر إلحاحاً في كل من القاهرة ولندن وماليزيا والسعودية ودبي خلال الفترة ما بين الإستقلال وحتى تاريخه ... وكيف تحولت من أداء مهام دبلوماسية إلى مجرد أسواق ومكاتب مشتريات ومبيعات ، وشحن وتخليص جمركي وتوظيف خاصة بكبار المسئولين في الدولة... وحيث لا يغيب عن الذاكرة مدى الدور الذي لعبه توب المرأة السودانية في تحديد مهام كل من سفارات السودان في إيطاليا وسويسرا على عهد مايو مثلاً ...
 
 
ربما كان الأمر قديماً يأخذ جانب المساعدة والمرافقة العابرة في جانب إنتقاء طبيب حاذق والتوسط لمقعد في كلية الطب بجامعة ما ... ولكنه تمدد وتشعب لاحقاً ليتخذ أنماطاً غريبة مثل المساعدة في إنتقاء أفضل وأحدث موضات المشغولات الذهبية وإعطاء إستشارات فنية حول آخر النقشات والدقات .. وإنتقاء وشحن الأثاث والأناتيك .. وصولاً إلى خصوصيات الشيلة ومستلزمات العروس من قمصان النوم والملابس الداخلية والريحة اللينة والناشفة ؛ وغيرها من متطلبات الدخلة والرقيص وقطع الرحط والجرتق .. فأصبح هناك متخصصون منهم في مثل هذه الأمور لديهم مصادرهم وخبراتهم المتراكمة التي يحرصون على "تكريسها" و "تطويرها" بوصفها الطريق الأقصر للتقرب إلى كبار المسئولين ، وللحصول على الدعم والمساندة في مراكز إتخاذ القرار بالخرطوم . والأخذ بعين الإعتبار عند صدور كشوفات الترقيات وإستثناءات الإستبقاء فترات أطول بالخارج برواتب وإمتيازات إستثنائية.
 
 
ولأجل هذا وذاك فقدت هذه السفارات إهتمامها بالمواطن السوداني العادي فرادى وجماعات على إعتبار أنه يأتي (إن أتى أصلاً)  في ذيل القائمة . لا بل ويتطلب حصوله على الخدمة القنصلية تكبد رسوم وضرائب فادحة ؛ وتحقيق إستفزازي مهين . وإنتظار يخضع لإجراءات سلحفائية.
الطريف أن ذلك المغترب المتداخل الذي شكا من أنه ظل مغترباً في السعودية طوال عشرين سنة . ودفع حتى تاريخه أكثر من 25,000 دولار من ضرائب وزكاة ومساهمات .... كشف هذا المغترب أنه لم يحصل حتى اليوم على قطعة أرض من الحكومة السودانية ضمن خططها الإسكانية . كل هذا في الوقت الذي يحصل فيه المواطن السوداني في الداخل على أكثر من قطعة أرض سكنية دون أن يدفع الكثير من الرسوم مقابلها ، ودون أن يتحمل أعباء ضرائب ، ولمجرد أنه يمتلك واسطة .....

والمحزن أن جهاز رعاية المغتربين في الخرطوم يظل يتمسك دائماً في مثل هذه الحالات بأنه ليس معنياً ولا مختصاً بتوفير هذه الخدمة أو تلك .. وبما يجعل المغترب في نهاية المطاف مثل كرة الجلـد التي يتبادل اللاعبون في منافسات كاس الأمم الأوروبية ركلها وتمريرها بمهارة وإتقان بين أقدامهم .
 
كل هذا يعزز أن الفلسفة التي تتعامل بها السلطات السودانية المعنية من سفارات في الخارج ؛ وجهاز (رعاية شئون) المغتربين في الداخل إنما ينبني على قناعة أن المغترب ليس سوى بقرة حلوب ومواطن سائح في بلاده ... دمه وماله حلال .. وأنه خلق ليدفع دون أن يحصل على مقابل .. وأن أسهل طريقة للتعامل معه هو إبتزازه بكل ما يمكن وصفه من مسخرة وجبن وسفالة وندالة عبر إمساكه من يده التي توجعه ؛ والتي تتمثل في حرمانه من تجديد صلاحية جواز سفره وعدم منحه تأشيرة الخروج .. وتمطيط وزحلقة أجل الموافقات على طلباته ومعاملاته حتى الدقائق الأخيرة من تاريخ إنتهاء إجازته السنوية ، بحيث يضطر هذا المغترب إلى اليأس وإلغاء متابعة حقوقه ومطالبه ، والإسراع بالعودة إلى دولة الإغتراب لمواصلة عمله خوفا من فصله أو إنتهاء صلاحية تأشيرة عودته أو إقامته ......
 
هي إذن مافيا في السفارات والقنصليات بدول الإغتراب من جهة ؛ ومافيا أخرى في السودان تعملان في أموال وحقوق المغترب كما المطرقة والسندان.

حتى البعض (وإن كان قليلاً) من عامة المواطنين السودانيين فعلوا ويفعلون بالمغترب السوداني الأفاعيل لجهة سلب أمواله بالنصب والإحتيال والغش ؛ لاسيما مغتربي السعودية حيث يتوافد عليهم البعض خلال فترة الحج والعمرة لجمع التبرعات بزعم بناء مسجد وخلوة ومدرسة وشفخانة ودعم نادي لكرة القدم . ثم تختفي أموال التبرعات في جيوب هؤلاء (المبعوثين) وخزائن بعض المسئولين الذين يمدونهم بشهادات وأوراق مختومة مزورة تمنحهم تصاريح جمع التبرعات وأنها لغرض خيري وإنساني نبيل جداً.. ولا حول ولا قوة إلا بالله من هؤلاء الذين يسرقون بإسم الله ، ويأكلون أموال الناس بالباطل دون أن تطرف لهم عين.
 
 
والمغتربون من جانبهم لهم يد في تمكين الغير من إستغلالهم وإبتزازهم والنصب عليهم . ومعظمهم يظل غير مواكب للتطورات وللعديد من السلبيات التي طرأت على المجتمع السوداني وقناعاته ، وتفشي بعض الظواهر والممارسات الإجرامية في الداخل لسبب أو لآخـر خلال الفترة الماضية والجارية .. وأن الحذر والتدقيق في هذا الجانب يظل واجباً.
..............
أطرف ما يتداوله المغتربون ومن خلال تجربتهم ؛ أنهم يوصون بعضهم بأنه وحين الذهاب إلى جهاز المغتربين في الخرطوم ولأجل تخليص معاملاتهم وأوراقهم بسلاسة وسرعة سلاحف النينجـا الأسطورية ؛ فما عليهم سوى دخول الكنتين الملحق بمبنى الجهاز وإلقاء نظرة خاطفة على أطباق ومأكولات العاملين فيه خلال فسحة الفطور .. فإذا كان الموظف بالجهاز يضع أمامه صحن فول عادي ؛ فهذا يعني أنه موظف كحيان غير واصل ولن يخدمك .... أما إذا كان الموظف أنيق لامع الحذاء ويضع أمامه صحون الكبدة والكمونية واللحمة .. فهذا يعني أنه واصل وسيخدمك ويخلص لك معاملاتك في أقل من لمح البصر حالما تجلس أمامه أو إلى جواره وتدفع عنه حق الفطور أو تعده بـ "إكرامية" رطبة .... وحيث أصبحت الرشوة في بلدنا هذا وزماننا هذا ؛ وأعرافنا السائدة هذه  مجرد "هدية" و "إكرامية" .. ومن يحتج ويعترض على هذه القناعة (الحضارية) فعليه أن يلحس كوعه ويحمد الله على أن المسألة وقفت عند هذا الحد ، ولم تتطور إلى مرحلة إتهامه بالإساء والإعتداء باللفظ ووالإشارة والفعل على موظف حكومي أثناء تأديته لمهام عمله . ثم فتح بلاغ رسمي ضده ومحاكمته والزج به في غياهب السجن بعد جلده.
 
....................
في جلسة خلال مناسبة إجتماعية مّـا ؛ أخبرنا أحد السودانيين المغتربين في السعودية أنه ظل يعمل مساعداً ملازماً مع أحد رجال الأعمال السعوديين مدة خمسة عشرين سنة كاملة ولا يزال . أدخله خلالها الرجل بيته وإئتمنه على أمواله وعرضه . وأصبح كأنه واحد من أبنائه .....

قال لنا هذا المغترب أنه إلتحق بالعمل لدى هذا الرجل بعد إكماله المرحلة الثانوية بنجاح وعمره وقتها لا يتجاوز الثامنة عشر ... واكتسب طوال سنوات عمله الخمسة والعشرون خبرات في مجال الصرافة والمعاملات التجارية الحـرة ، والإدارة والمقاولات على أفضل وأحدث مستوى .. وتزوج خلال هذه السنوات الخمسة والعشرين من قريبته ، وجاء بها إلى السعودية لتقيم معه ثم كان لهم أبناء ترعرعوا ونشاؤا مع أسرة وأبناء رجل الأعمال السعودي هذا الذي كان في البداية مجرد تاجر عادي قبل أن ينجح في أعماله ويتحول إلى أصحاب المليارات .

وواصل المغترب السوداني قائلاً:

-    خلال السنوات الماضية نشطت الحكومة السودانية في جانب جذب الإستثمارات الخارجية إلى السودان . وأنشأت وزارة وأنفقت ملايين العملات الصعبة للتأسيس وللترويح لهذا المنشط .... ويبدو أن كفيله رجل الأعمال السعودي قد إرتآى أن يكافئه على إخلاصه وأمانته بأن يستثمر بعض ملياراته في السودان على أن يبدأ بفتح مكتبً له في الخرطوم لإدارة  أنشطته الإستثمارية وتعيينه مديراً لهذا المكتب براتب خرافي يصل إلى ثلاثة أضعاف راتبه في السعودية.

ثم يصف أخونا المغترب هذا ما جرى لاحقاً عند مرافقته رجل الإعمال السعودي إلى (سـوق) القنصلية السودانية بمدينة جدة . وكيف أن السماسرة والصقور من موظفي القنصلية بدأوا في التحليق والشمشمة حول رجل الأعمال السعودي الذي كانت آثار النعمة والمليارات بادية على هيئته وتصرفاته .. وهي سمات بات يعرفها صقور وسماسرة السفارة بحكم خبرتهم الطويلة سواء في التعامل مع الكتاكيت المغتربين أو أصناف وفصيلة ضيوف السفارة أو القنصلية السعوديين .

وعلى طريقة الشبيحة السوريين وبلطجية روض الفرج المصريين ؛ اختطف هؤلاء الصقور رجل الأعمال السعودي في أقل من لمح البصر ، ودخلوا به عبر الأبواب المغلقة قبل أن يتمكن صاحبنا السوداني من ملاحظة ذلك ، وقبل أن يتمكن الملياردير السعودي من فتح فمه وسحب مكفوله السوداني في يده لمرافقته إلى الداخل .....

توارى به السماسرة وشبيحة سوق السفارة في أحد قاعات الإستقبال الفاخرة . وجاءوا له بالبارد والشاي والكيك والتمور البركاوي والقونديلة ، وطفقوا يتمسحون بعباءته الغالية ، وأقبلوا عليه وأعينهم تفيض من الدمع ؛ يستفسرون منه عن الغرض من الزيارة والخدمة التي أتى من أجلها . ويطمئنونه بأنها مجابة سلفاً حتى لو كانت بندرة لبن الطير أو في بلاد الواق واق.

إلتقط الملياردير السعودي بعض أنفاسه ثم نظر حوله يبحث عن "إبنه" السوداني الذي ظل يعمل لديه مدة عشرين سنة فلم يجده وسط الوجوه الغريبة وأصحاب الإيتسامات الصفراء من حوله . فسأل عنه فقالوا أنهم لا يعرفونه . وطمأنوه بأنه حتما سيكون في "الحوش" أو أمام الباب الخارجي ، وربما لم يسمح له الأمن بالدخول لأنهم لا يعرفونه .. وسارعوا بالقول أن عليه أن لا يقلق بشأنه طالما أنه سوداني . فهو حتماً بخير داخل أسوار القنصلية أو أمام أبوابها المغلقة . وأنه في كل الأحوال يظل واقفاً بين أخوانه ومواطنيه ، وأن الظفر لا يخرج من اللحم ولا يخاف على السوداني في بيته ؛ وعلى إعتبار أن السفارة والقنصلية إنما هي (بيت) السودانيين جميعاً وبدون فرز.

صمت محدثنا لفترة كأنه يستجمع شتات أحزانه وقنوطه ثم قال لنا:

-    بعد فترة ليست بالقصيرة خرج كفيلي رجل الأعمال السعودي من الداخل وهو متجهم الوجه وعلى غير الملامح التي دخل بها ... لم يتحدث معي كلمة وإنما أشار إلي أن أتبعه . ثم دخلنا السيارة وأمر السائق أن يتحرك سريعاً من المكان . كأنه يحاول التخلص من هواء سام ورائحة نتنة تعبق أجوائه. وظل صامتاً طوال أيام دون أن أجرؤ على مفاتحته في الأمر إحتراماً لصمته.

ثم كانت المفاجأة عندما إختتم صاحبنا حديثه بقوله:

-    صارحني كفيلي السعودي بعد فترة أنه قد صرف نظر عن زيارة "العاصمة المثلثة" وتفعيل خططه بشأن الإستثمار في السودان ... السودان الذي عشقه من لساني وكان يراه من خلال عيوني .....  وعلل ذلك بأن مقابلته مع البعض في القنصلية لم تكن مريحة . وأنه إشتم من أقوالهم رائحة فساد لم يعهدها من قبل . وأنه حين صرح لهم بأن لديه شخص سوداني يرغب في إرساله للخرطوم وإدارة مكتبه هناك إذا بهم ودون سابق معرفة بهذا السوداني (الذي هو محدثنا) يخوفونه بأنه ربما يكون حرامي وفاسد وغير جدير بالثقة . ثم كيف يرضى بتعيين خريج ثانوي مديراً لمكتبه في الخرطوم وفي السودان حملة دكتوراة وأساتذة جامعات سيكونون رهن إشارته وطوع بنانه هذا غير الخريجين من أولاد الوزراء والوكلاء وحكام الولايات والسفراء . وأن عليه فوق ذلك أن يعتمد عليهم وحدهم بوصفهم يمثلون الحكومة ومحل ثقتها في عملية ترشيح من يرونه "القوي الأمين" لإدارة مصالحه في السودان . وأن لا يكشف أوراقه لغيرهم ؛ وأن لديهم أراضي ومشاريع و "سكرتارية" مرافقة جاهزة وإتصالات مباشرة . ويمتلكون مفاتيح ذهبية وشراكات نافذة نائمة بالعمولة في الخرطوم .. وأنهم سيعرفونه لاحقاً إلى سعادة السفير . ومن خلال إتصالاتهم سيحددون له موعداً لمقابلة رئيس الجمهورية بجلالة قدره في القصر الجمهوري ويبث اللقاء عبر شاشات التلفزيون ..... وأنّ.. وأنّ .. وأن .... بما أعطى لرجل الأعمال هذا الإنطباع المبدئي بأن الإستثمار في السودان إنما تكتنفه الكثير من المخاطر والتعقيدات ومراكز القوى والنفوذ ، والتدخلات في صميم رغبات وقناعات المستثمر الشخصية ، بالإضافة إلى عدم الشفافية. ويستلزم من البداية وبدون نهاية تكبد أعباء ومشاق رحلة من الفساد والرشاوي والعمولات أين ما سار وحيثما حل ....

وكان آخر ما قاله محدثنا :

-    كل هذا كان ساهلاً . ولكن المصيبة أن هذه الإنطباعات التي ترسخت في عقلية كفيلي الملياردير قد إنتقلت منه إلى الكثير من أصدقائه ومعارفه وشركائه من رجال الأعمال .. ولا أشك في أن كل واحد من هؤلاء قد تأثر سلباً بهذه الإنطباعات التي تكونت في عقلية رجل أعمال ناجح ، ولا أشك في أن كل واحد من هؤلاء قد نقلها بدوره مباشرة أو من خلال الونسة العابرة إلى آخرين سواء في جانب رجال الأعمال أو المسئولين الرسميين .