الأحد، 3 يناير 2010

جدار الحصار المصري لشعب غزة المسلم ... لماذا؟

جدار الحصار المصري لشعب غزة المسلم ... لماذا؟


مصعب المشرّف:


ماكان أحد عاقل أو مجنون وفي أسوأ الظروف والأحوال يتخيل أو يتوقع أن تعمد سلطات مصرية إلى إقامة جدار حصار وتجويع فولاذي أسمنتي بينها وبين دولة وشعب مسلم عربي آخر ..... لا بل وليس أي شعب وإنما الشعب الفلسطيني الأعزل المظلوم المغتصبة أراضيه والمغلوب على أمره جملة وتفصيلا . بل ووصل الأمر إلى المتاجرة بأعضاء أبنائه البشرية وبيعها في مزادات علنية لأعلى الأسعار داخل وخارج إسرائيل. وهو ما لم يتجرأ حتى النازي في ظلام الثلث الأول من القرن الماضي على إتيانه أو فعله من جرم إنساني مخجل يندى له جبين التاريخ على مدى العصور القادمة. .....وللتذكير بتاريخ لم يمضي عليه الكثير ، فقد كان قطاع غزة قبل نكسة يونيو 1967م تحت الانتداب والحماية المصرية إثر الإنسحاب الإسرائيلي منه ومن شبه جزيرة سيناء في مارس 1957م ... وفي 16 مايو 1967م طالبت الحكومة المصرية على لسان جمال عبد الناصر بإخلاء قوات الأمم المتحدة (UNEE) لقطاع غزة ... ولكن سرعان ما إكتسحت إسرائيل القطاع في حرب يونيو 1967م وإحتلته من أيدي القوات المصرية ... وبالتالي فإنه تقع على الحكومة المصرية مسئولية أخلاقية وتاريخية خاصة تجاه قطاع غزة وأهله وبما يستلزم إلتزامها بالحفاظ على حقوقهم وصيانتها لأمنهم وإستقرارهم بدلا من المساعدة على حصارهم وتجويهم لمصلحة الصهاينة. والمؤسف أن الرئيس المصري السابق أنور السادات وعند مفاوضاته مع الصهيوني رجل العصابات مناحيم بيجين في كامب ديفيد من أجل إستعادة سيناء. لم يفكر أو يرغب في إجهاد نفسه للمطالبة بإعادة القطاع من فوره إلى أهل فلسطين أو تحت الحماية المصرية وفق ما كان عليه الحال عشية النكسة . وذلك على الرغم من المسئولية التاريخية والأخلاقية التي تستوجب ولا تزال مسئولية مصر الكاملة عن هذا القطاع منذ أن وضعت عليه يدها خلال حرب 1948م.والآن تتخلى الحكومة المصرية بشكل مثير للتساؤل والاستغراب عن أهل غزة من الفلسطينيين أجمعين. وهي تحسب أنها بذلك تعاقب السلطة الحمساوية وتجبرها على الخنوع وتقديم تنازلات مجانية على الطريقة العباسية لإسرائيل نتنياهو وليبرمان. أو أن يؤدي في حال إصرارها على الصمود في وجه الصهاينة إلى إسقاطها خاوية على عروشها ..... ولا غرو أن كثير من العرب قد تناسى أن مثل هذه الأساليب التي إتبعتها الإمبريالية العالمية سابقا ضد شعوبهم لم تفلح ولم تأتي بأكلها ولم تسقط أنظمة بقدر ما ساهمت في إتقاد شعلة الوطنية والعروبة وكرست زعامات نضالية تاريخية بوزن عبد الناصر وحسن نصر الله وحافظ الأسد وصدام حسين .... وأما في بلدان وظروف أخرى ومنها حالتي ليبيا والعراق على سبيل المثال فإنها لم تساهم سوى في قتل الأطفال وتجويع النساء وكبار السن...... ربما يكون شيمون بيريز ونتنياهو وشارون وشاؤول مفاز ومن خلفهما الصهيونية ، ثم بوش الإبن ودونالد رامسفيلد ومن ورائهما المحافظين الجدد .... ربما يكون هؤلاء لهم دينهم وديدنهم وأصولهم العرقية البعيدة كل البعد عن أية مسئوليات أخلاقية وتاريخية ودنيوية تجاه العرب والمسلمين من أعدائهم وفق تصنيفهم لنا ....... والجدار الفولاذي في حد ذاته ومفهومه ومقصده واضح أنه فكرة أمريكية إسرائيلية سبق بناؤه من قبل في فلسطين المحتلة على يد شارون ثم تكرر بناؤه في بغداد على يد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد.ولكن ماذا عن عرب ومسلمين ساسة ومشايخ في مصر يذهبون هذا المذهب الغريب العجيب المريب في مواجهة شعب عربي مسلم جار . دون أن تطرف لهم عين أو خوف من الله. ودون إعتبار لوصايا رسوله صلى الله عليه وسلم . وتناسيا عن عمد لحقيقة أن دم المسلم على المسلم حرام وعرضه وماله وأمنه .... وأن قتل مسلم واحد ظلما أشد على الله من هدم الكعبة المشرفة؟حسنا .... قد يدفع البعض أنه يجب عدم الخلط بين الدين والسياسة ... ولكن هل يعني ذلك إنتفاء المسئولية الفردية والجماعية أمام الله عز وجل عند إتخاذ القرارات المتعلقة بحياة الشعوب أو جزءا منهم؟؟ وهل تبرر السياسة تجويع الخلق وإهلاك الحرث والنسل؟؟؟ وهل تكفي فتوى خوف على المنصب صادرة من موظف حكومي بدرجة شيخ الجامع الأزهر لإخلاء المسئولية أمام الله؟؟؟ هل تعتقد الحكومة المصرية أن حصار الجدار الفولاذي لغزة سيجوع من جرائه إسماعيل هنية وخالد مشعل أو حتى الجندي العادي من فصائل المقاومة في حماس؟؟؟وحيث أن إقامة هذا الجدار لا يشكل سوى حماية ودفاع عن الطفلة المدللة إسرائيل. فإنه لا يوجد على الأرجح سبب مقنع من بناء هذا الجدار المكلف والمرهق لخزائن الحكومة المصرية الخاوية بل وإقتصادها المتباطيء النمو وميزانيتها التي تعاني الأمرين من العجز حاليا؛ سوى أنه خضوع لتعليمات أمريكية أوروبية حازمة مشددة وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور هذه المرة ليس أقلها قطع شرايين المعونات السنوية والإسعافية والإنعاشية . وبما يعني إثارة الشارع المصري وتكرار إنتفاضة الخبز التي واجهها السادات من قبل وأطلق عليها مسمى "إنتفاضة الحرامية"....وقطعا ستتحمل الولايات المتحدة التكاليف المباشرة وغير المباشرة . ثم وأضعاف ذلك سواء عبر زيادة الرقم الحالي للمعونة السنوية ، والإعانات الغذائية المتمثلة بشكل أساسي في القمح الذي يمثل منه الرغيف أو (العيش) والمعكرونة عصب المائدة المصرية ..... يتبقى بعد ذلك مسخرة ومسلسل الفتاوي إياها التي تصدر من الجامع الأزهر الذي أصبح ركوبة وشخشيخة وألعوبة ليس في أيدي الحكومة المصرية وحدها ، بل والإسرائيلية والبيت الأبيض والإتحاد الأوروبي والقوى العلمانية على حد سواء . وهو الأمر الذي أدى به إلى فقدانه كل معناه وإحترامه وهيبته في العصر الراهن بل ومنذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي المواكبة لإتفاقيات كامب ديفيد.ومن ثم فقد نشأت بدلا عنه مراكز فتوى في قطر وباكستان والعراق بل وفي داخل الأزهر تشكلت هيئة فتوى موازية تحت مسمى "جبهة علماء الأهر" بنت مصداقيتها من خلال العمل بعيدا عن قواعد وروتين الوظيفة الحكومية ومسئوليتها التي بات يعمل بها شيخ الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية المثير للجدل حاليا.....

وقد أكد الشيخ القرضاوي بحرمة بناء هذا الجدار . كما أفتت "جبهة علماء الأزهر" بحرمته بل وذهبت إلى أن الفتوى التي صدرت من "مجمع البحوث الإسلامية الحكومي" غير شرعية لأنها تتناقض مع قرارات سابقة لمجمع البحوث الإسلامية الحكومي نفسه صدرت في العامين 1965م و 1970م حث فيها على الدفاع عن فلسطين وتقديم المساعدات لهم. ثم وأنه إذا كانت مشيخة الأزهر تحلل بناء الجدار الفولاذي بزعم أنه يحمي حدود مصر الشرقية من الأعداء ، فإن السؤال المطروح هو هل الشعب الفلسطيني العربي المسلم هو عدو مصر أم أن إسرائيل هي العدو التاريخي لها منذ الأزل ؟ .... وطالما كان الأمر كذلك فلماذا لا تقيم مصر جدار فولاذي على الحدود الشرقية بينها وبين إسرائيل (حسب الموضح في الخريطة المرفقة) من رفح مرورا بصحراء النقب وحتى طابا ؟؟؟ .......... وهل نحن في عصر الجيوش التي تحارب بالخيول والسيوف السهام والرماح حتى تكون الجدران هي الواقي من الأعداء المسلمين (الفلسطينيين) وهجومهم؟؟؟ ...... اي منطق وأي ضحك على الدقون وإستهتار بالعقل تذهب بنا إليه مشيخة الأزهر الحكومية هذا ؟؟



ولكن الذي يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن الجامع الأزهر وموظفيه الحكوميين لايمتلكون صكوك غفران أو حق إلهي يقفزون به فوق كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .... وبالتالي فإن فتوى هذا الجامع لا تعني بأية حال من الأحوال تحليل حرام حرمه الله ورسوله . أو تحريم حلال حلله الله تعالى ورسوله ..... ومن ثم فهي لا تعفي متخذ القرار من مسئولياته أمام الله عز وجل قبل الخلق والنفس اللوامة أو الأمارة بالسوء على حد سواء.بل أنني على قناعة يقينية بأنه لو إستفتت الحكومة المصرية البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريارك الكرازة المرقسية في إقامة هذا الجدار لحصار المسلمين في غزة لمصلحة اليهود ، لأفتى لهم من فوره بحرمته تماما كما أفتى لهم قبل ذلك بحرمة السفر إلى إسرائيل ...... والسبب يعود بالطبع إلى أن منصب البابا في الأسكندرية لا يتم الوصول إليه بالتعيين الحكومي وإنما بإنتخاب الكرادلة فقط . كما لا يمكن عزل البابا بأي حال من الأحوال . وهو ما يختلف عن حال شيخ المشيخة وكبار هيئة علماء الجامع الأزهر الذين يخضعون جميعا بمن فيهم شيخ المشيخة للتعيين والإقالة معا من جانب رئيس الوزراء بمجرد التوقيع على القرار .... ولأجل ذلك عادة ما يضع هؤلاء أياديهم في جيوبهم وفوق أمعائهم وتـجـحـظ عيونهم نحو مصالحهم الدنيوية الشخصية عند الطلب منهم إصدار الفتاوى لمصلحة الحكومة أو ضد المعارضة السياسية.إن الفتوى التي أصدرتها مشيخة الأزهر إنما تعني بكل وضوح أنه يحل للمسلم حصار المسلم وتجويعه وإرهاقة وقتل أفراد وجماعات منه نتيجة لهذا الحصار بهدف إجباره على الإستسلام (بنحو خاص هنا) لمشيئة اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء والرسل والذين لا يزال جنودهم يسيئون للمصحف الشريف بوضعه تحت أرجلهم وفي مراحيضهم ... ومن ثم فلاشك أن مخرج هذه الفتوى ومن وقع عليها سيسأله الله عنها في قبره صباح مساء قبل مبعثه ثم يوم الحساب والموقف العظيم لأن كثير من أرواح المسلمين الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن من أبناء فلسطين ستزهق من جرائها ويذهبون ضحايا لها.

السبت، 2 يناير 2010

هل كان السودان ومصر بلد أو شعب واحد؟


بمناسبة عيد الإستقلال
هل كان السودان ومصر بلد أو شعب واحد ؟

أول يناير من كل عام تحل علينا ذكرى الإستقلال المجيد .. ولا نكاد نستقي منها العبر ونسترجع الماضي الناصع المفرح أو الباهت الكئيب ..... ولكن الذي قد يستحق التوقف عنده هذه السنة بمناسبة حلول هذه المناسبة الوطنية هو التطرق لمقولات ومزاعم بشأن الماضي بين السودان ومصر ؛ وهل كان البلدان دولة واحدة والشعبان واحد كما يقال . أم أن المسألة لا تعدو مجاملات جيران ومسلك عرب وتبويس لحى بين كل مناسبة وأخرى سرعان ما تنقلب إلى الضد عند حدوث أي خلاف في الرأي ووجهات النظر وتناقض مصالح حتى لو كانت بدرجة مباراة في كرة القدم؟

تطور العلاقة التاريخية بين السودان ومصر:

قبل الإسلام لم يكن يجمع السودان ممثلا في ممالك نوبية متفرقة أو مملكة نبتة ثم مروي وسوبا من جهة ، والممالك المحلية أو العائلات الأجنبية التي سادت مصر وحكمتها سوى الهاجس الأمني لكليهما ... وحيث يخطيء من يظن أنه كان هاجسا أمنيا لمصر وحدها دون السودان.
كان الهاجس متمثلا لدى حكام مصر آنذاك ولايزال ممثلا في الآتي:
1) ضمان تدفق مياه النيل.
2) حماية حدودها الجنوبية من هجمات قطاع الطرق من بدو الصحراء ومملكة البجا الذين يباغتون الأهالي والأسواق عبر هجوم خاطف ثم يسارعون العودة بالغنائم إلى جوف الصحراء دون أن يجرؤ أحد على مطاردتهم فيها أو اللحاق للمساس بهم والقصاص منهم.
3) الخشية من لجوء المعارضة السياسية إلى السودان والعمل من هناك لضعضعة أركان النظام الحاكم القائم في مصر أو إزالته .. وقـد كان (على سبيل المثال لا الحصر) لسابقة الملك المصري الأصل (أحمس) الذي لجأ إلى ملوك مملكة نبتة وتزوج منهم ثم أعانوه على طرد الهكسوس من بلاده المثال العملي الصارخ لجدية هذا الهاجس الأمني . ثم لجوء بعض قادة المماليك إلى السودان بعد مذبحة القلعة الشهيرة التي دبرها لهم محمد علي باشا .. وإنتهاء بمحاولة إغتيال الرئيس محمد حسني مبارك بواسطة جماعات مصرية جهادية إسلامية أصولية متطرفة لجأت فترة إلى السودان وتسللت منه إلى أديس ابابا.

وحين غامر الملك الفارسي قمبيز (مؤسس الأسرة 27 الحاكمة في مصر) عام 525 ق.م بالتوجه للسودان لحرب البجا على جيش من 50,000 إنتهى بهم الأمر إلى أكل من يموت منهم وفريسة للثعابين والدفن أحياء تحت الرمال .... فما كان منه سوى أن قفل عائدا بمن نجا يجرجر أذيال الهزيمة والخزي والعار.

وفي عام 23ق.م وبعد احتلال الرومان لمصر حاول الإمبراطور أوغسطوس قيصر إحتلال السودان فتصدت له الملكة المروية (الكنداكة) التي دوخت جيوشه وأجبرته على عقد إتفاقية صلح وسلام معها هي الأولى في تاريخ الإمبراطورية الرومانية المتغطرسة إزاء علاقاتها مع شعب أفريقي أو على شواطيء البحر الأبيض المتوسط ... وحيث وقع لها أوغسطوس على بياض دون أن يخفي إعجابه بفروسيتها ومواهبها القتالية التكتيكية ، وقراءتها الصحيحة للأوراق التي تمتلكها هي وتلك التي يمتلكها الرومان في مصر . وهو الأمر الذي جعلها تتوصل إلى إتفاقية لا تحتوي على أية تنازلات مجانية .... وهي للأسف أوراق لم يحسن قراءتها نظام سوداني حاكم منذ الإستقلال وحتى تاريخه.

إذن ولدى ممالك نبتة ومروي ثم سوبا كان الهاجس يتمثل في أن الخبرات السودانية المتعاقبة منذ الأزل قد أدركت بحكم التجربة العملية أن مصر هي البوابة الأسهل والمفضلة التي يدخل بها المستعمر إلى أراضي السودان ...ولأجل ذلك كان حرص الملك النوبي السوداني بعنخي في بسط الحماية العسكرية على مصر ليس طمعا في خيراتها ؛ وإنما صيانة لمملكته في أرض السودان. ونسج على هذا المنوال خلفه من ملوك نبتيين أشهرهم ترهاقا الذي دافع عن حدود مصر الشمالية الشرقية ضد الغزاة الطامعين فيها.
وكذلك كان الحال خلال سيادة دولة مروي على شمال السودان ... ولكن وعلى الرغم من كل هذه التداخلات بين حكام السودان وحكام مصر بحسب قوة وضعف الآخر فقد ظل لمصر شعبها وللسودان شعبه دون أن تضيع معالم أحدهما تحت جلباب الآخر ....
وببزوغ فجر الإسلام ودخول عمرو بن العاص مصر (18هـ / 640م) وبسط حكم العرب عليها لم يستطع تجاهل أمر السودان ومملكته النوبية فبدأ السجال مرة أخرى حين أرسل عبد الله بن سعد بن أبي السرح عام 21هـ / 642م على راس عشرين ألف جندي ولكنه وجد أن الحرب مع السودان لاتعني سوى الإستنزاف لثروات مصر وتشغله عن مواجهة العدو الحقيقي المتمثل في الرومان وتهديدهم الدائم للأسكندرية .... وبعد أن تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة دفع عبد الله بن أبي السرح الذي أصبح واليا على مصر بكل ثقله العسكري والدبلوماسي لتوقيع إتفاقية البقط الشهيرة بما لها وبما عليها ؛ والتي كان من أهم حصادها الإيجابي السماح بدخول العرب إلى السودان في كتل ومجاميع ضخمة بكامل ثرواتهم وعتادهم العسكري وتزاوج هؤلاء بنساء وفتيات النوبة وما أدى إليه لاحقا من لحمة إجتماعية شكلت النسيج الأساسي لمجتمع الشمال العربي النوبي المسلم في شكله المعاصر.
ولكن وعلى الرغم من أن هؤلاء العرب والمسلمين قد دخلوا إلى السودان من مصر إلا أنه لم تتشكل منهم أية إندماجات عرقية مع رصفائهم الذين فضلوا البقاء في مصر ..... وبالتالي كان أن ظفر السودان بالعرب والإسلام وإبتلعهم في جوفه ومنحهم لونه وهويته الخاصة بعيدا عن الذوبان في مصر ولا يزال الأمر حتى تاريخه اللهم عدا العلاقة الكائنة بين أبناء النوبة في البلدين وبعض الزيجات القليلة لسودانيين جنوبيين ونيليين من بنات الفلاحين في القاهرة والدلتا .... وكذلك القشور الخفيفة الثقافية والاجتماعية الإحتفالية المستوحاة من الأفلام والمسلسلات على علاتها وبغـثها وسمينها.
المثير للإنتباه قبل كل شيء أن الدولة العربية الإسلامية الكبرى التي نشأت في السودان (عام 1505م) لأول مرة وهي دولة سنار أو ما سمي بالسلطنة الزرقاء .... هذه الدولة القوية الشوكة ، وذات التأثير الثقافي والاجتماعي الذي لا يزال ماثلا حتى يومنا المعاصر في داخل السودان .. نشأت هذه الدولة من تحالف ثلاثي فريد من نوعه ضم نسل بني أمية النازحين إلى السودان من الجزيرة العربية عبر أثيوبيا بعد سقوط دولتهم على ايدي العباسيين من جهة وبين أخوالهم من قبائل الفونج في جنوب النيل الأزرق وبين قبائل عربية نقية الدم في الشمال على رأسها قبيلة العبدلاب . وإستطاع هذا التحالف القضاء على مملكة سوبا النوبية جنوب الخرطوم تأسيس مملكة عربية سودانية خالصة كان لها وهج معنوي وصيت عسكري إمتد من الحجاز شرقا إلى مراكش غربا مرورا بالأزهر الشريف .......
في عام 1801م أرسلت الدولة العثمانية جيشا لطرد الفرنسيين من مصر وكان من بينهم جندي ألباني طموح هو محمد علي إبراهيم أغــا ؛ الذي عرف لاحقا بإسم محمد علي باشا ...... وكان محمد علي يشغل منصب نائب الكتيبة الألبانية في الجيش التركي المؤلفة من 300 جندي لاغير ..... وإن هي إلا سنتين في مصر حتى تمكن محمد علي من تدبير مؤامرة لإقصاء قائد الجيش التركي خورشيد باشا ليصبح هو القائد الأوحد ثم يدبر للماليك مذبحة القلعة الشهيرة عام 1805م وينفرد بحكم مصر وينال رضا السلاطين بالرشاوي والهدايا النفيسة للحاشية والمستشارين في الباب العالي ومواظبته في إرسال الخراج السنوي الأمر الذي مكن له تعيينه رسميا واليا على مصر بفرمان صادر من الإستانة رغم أنه ليس بتركي الدماء .....
وكعادة كل من يحتل مصر ويحكمها من المغامرين العسكريين الأجانب عنها توجهت أنظار محمد علي باشا مباشرة إلى السوادن. وبدأت الهواجس الأمنية تتجاذبه لضرورة تأمين الحدود الجنوبية لمملكته ... وتصادف في خضم ذلك أن تعرف إليه معتوه فرنسي يقال له "كايو" وطفق في تشجيعه وتغذية الإنطباع لديه بأن منطقة بني شنقول السودانية متخمة بمعدن الذهب النفيس . وأن عموم البلاد تزخر بالثروات الحيوانية والغابية والمحاصيل الغذائية والرجال الأشداء في ممارسة الحرب والقتال ؛ قام محمد علي بتوجيه إبنه الثالث في الترتيب (إسماعيل) على رأس جيش لغزو وإحتلال السودان ..... وكانت هذه هي البداية الحقيقية لعلاقة صنفت في خانة الإستعمار المصري لأجزاء واسعة من السودان دامت (64 سنة) مابين 1821م و 1885م.
ولكن وعلى الرغم من مرور هذه السنوات ألـ 64 للتواجد المصري في السودان لم تفلح كل المحاولات في إيجاد صيغة تعايش رضائية أو خنوعية بين البلدين بقدر ما كانت العلاقة سلبية في أقصى درجاتها لا تعدو أن تكون بين جيش مستعمر غاصب حاكم ، وأهالي مغلوب على أمرهم بسبب خلافات داخلية قبلية والافتقار إلى تنظيم وتسليح عسكري حديث بقدرات نارية ذات تدمير مؤثر.
وكان أن لابد للوتر المشدود أن يعود إلى حالته الطبيعية طال الزمان أو قصر . فنشبت الثورة المهدية بزعامة الإمام محمد أحمد المهدي عام 1881م .... ودون خوض في تفاصيل تضيع المعالم وحاصل الجمع النهائي فقد إجتمع حول هذه الثورة أهل السودان قاطبة (عدا بعض الأسر والعائلات المنتفعة من مصر) . وأفلحت الثورة في مراميها الرئيسية المتمثلة في غرس بذور الوحدة الوطنية وتحرير أرض السودان وإنشاء أول دولة سودانية مركزية ضمت كل القبائل العربية وغير العربية وصهرت أجزاء واسعة منها في بوتقة عرقية وإثنية واحدة عاصمتها مدينة أمدرمان إمتدت خلال الفترة من عام 1885م وحتى 1898م.

وعودة إلى مصر فقد كان المسرح هناك يكتنفه العديد من التناقضات والأزمات وذلك على إثر سياسات الخديوي محمد توفيق المستسلمة للغرب لأسباب تتعلق بالتركة المالية والسياسية المثقـلة التي وضعت على كاهل مصر جراء سياسات وأحلام ومشاريع إسماعيل باشا الفاشلة وهو يرمي اللحاق بركب الغرب (المتحضر) على حد زعمه وبساطة تفكيره.
وكان أن أدى ذلك إلى إستسلام مصر لما يسمى بقوانين الإمتيازات الأجنبية نتيجة غرقها في الديون ..
وعليه فقد أدت هذه الملابسات باللواء إبن الفلاحين المصري (أحمد عرابي) إلى إعلان ثورته الوطنية الشهيرة عام 1881م بهدف إنهاء السيطرة الأجنبية ولكن الثورة سرعان ما تم إجهاضها من الطابور الخامس العميل في الداخل قبل الخارج وأدى فشلها إلى إحتلال الإنجليز لمصر عام 1882م.

وإن هي إلا سنوات حتى كان على الإنجليز مثلهم مثل كل المحتلين الأجانب في تاريخ مصر أن يفكروا في غزو وإحتلال السودان لنفس الأسباب النمطية وهي تأمين الجانب الأمني والإتصال بمنابع نهر النيل في وسط أفريقيا عند خط الإستواء ؛ ولا بأس من إحتكار ثروات سودانية كمواد خام رخيصة تمثل جزءا من مكونات الصناعة البريطانية في ذلك العهد.
ووجد الإنجليز الرغبة والإذغان معا لدى الخديوية المصرية فساوموها تكبد معظم نفقات الحملة العسكرية لغزو السودان وعامة الجنود من فسيفساء الجيش ابمصري آنذاك الذي كان متخما (إلى جانب قلة من الفلاحين المواطنين) بمرتزقة ومستوطنين إنجليز وأتراك ونمساويين وصرب وأرناؤوط وشركس وألبان وقوقاز ويونان وأرمن وشوام وهلم جرا من كل جنس وعموم شعوب البلقان ... أما القيادة وهيئة الأركان لهذا الجيش الغازي فقد كانت للإنجليز وحدهم وعلى رأسهم الجنرال كيتشنر.
وفي يوم الجمعة الموافق لتاريخ 3/9/1898م كانت موقعة كرري بين جيوش المهدية بدائية التسليح في مواجهة أحدث ما أنتجته الترسانة الحربية للإمبراطورية البريطانية آنذاك من اسلحة فتاكة ؛ حيث أفلح الجيش الغازي في القضاء على دولة المهدية وإعادة إحتلال السودان تحت ما سمي بإتفاقية الحكم الثنائي (البريطاني المصري).
وفي عام 1956م وبعد أن تلاقحت المفاهيم والدعوات والتوجهات الوطنية المنادية بالسودان للسودانيين بتلك المنادية بالإتحاد الإندماجي مع مصر خلص الجميع في نهاية الأمر ؛ وبعد أن حشدت الجماهير السودانية المنادية بإستقلال السودان بعيدا عن مصر الملايين منها في العاصمة الخرطوم . خلصوا إلى تغليب خيار الإستقلال وعدم الإندماج في وحدة مع مصر ... وكان للشعب ما أراد ، وتم إعلان إستقلال السودان في 1/1م1956م.
من كل ماتقدم يتضح جليا أن العلاقة بين كل من السودان ومصر لم تكن عبر تاريخها الطويل سوى علاقة بلدين وشعبين متجاورين ببعضهما ؛ وبما يؤدي إليه هذا الجوار اللصيق من تجاذبات وتناقضات إقتنصادية وأمنية ونفسية تستدعي في الأغلب الأعم محاولة أحدهما الهيمنة على مقادير وتوجها ت الآخر لمصلحته العليا هو.
ولكن الملفت للإنتباه والجدير بالترسيخ في الذاكرة التاريخية لهذه العلاقة بين السودان ومصر ، أن الحكومات المصرية منذ عهد أسرة محمد علي باشا وحتى الزمان المعاصر لم تحسن ابدا قراءة الشخصية السودانية على نحو صادق شفاف بقدر ما إعتمدت على الإنطباعات والخرافات والأقاويل المرسلة ومنها على سبيل المثال إنطباعات محمد علي باشا حول ذهب بني شنقول وبأس الرجال والثروات الحيوانية وكأن الأمر لا يعدو أن يحفر ويغرف ويجمع ويرسل هذه الثروات من الجنوب إلى الشمال ليس إلا ؛ وفق ما ذهب إليه إسماعيل باشا حين إجتمع بالمك نمر ودفع في سبيل هذه الإنطباعات الخاطئة حياته بموته إختناقا بالدخان جراء حريق مدبر في عاصمة مملكة الجعليين.
وأما الوجه الآخر للخطأ المصري الرسمي في تعامله مع السودن فقد كان تجاهل مصر الغريب لعموم الشعب السوداني بل وكأنه غير موجود على الساحة والإكتفاء بدلا من ذلك قبل وبعد الإستقلال عام 1956م بالتركيز على رشوة بعض رموز عائلات سودانية محددة ونفر من أصحاب السجاجيد الدينية ؛ وفئة من المتعلمين عبر إمدادهم بأموال وإمتيازات وتخصيص فلل وشقق وخدمات خاصة وسهرات حمراء وتذاكر سفر وإقامة صيفية مجانية في فنادق . وتعليم جامعي مرموق للأبناء وأبناء الأتباع في القاهرة والأسكندرية على نحو خاص . وعلى إعتبار أن ذلك سيكون كافيا لضمان وقوف هذه القيادات والنخب السودانية إلى جانب مصر عند الحاجة .
وفي حقيقة الأمر فقد نجحت هذه السياسة في جذب العديد من المشار إليهم أعلاه من واقع (يقع الطير حيثما ينثر الحب) دون أن يكون لهم ثقل سياسي أو إجتماعي جوهري وسط المجتمع السوداني .. بل وأسهمت في تشكيل أحزاب هامشية وجماعات نفعية وطرق صوفية معلبة خارجية المنشأ ، إرتمت بالكامل في أحضان مصر واسلمت لها العنق واليد واللحية والقياد .... ومن بينها على سبيل المثال حزب الأشقاء وحزب الشعب الديمقراطي وطائفة المبرغنية وكل من دخل تحت عباءتهم من نخب مثقفة ومتعلمة من كلية غردون التذكارية أو الثانويات آنذاك.
لم تحاول مصر إذن وفي كافة االظروف والأحوال بناء علاقات تكاملية أو تضامنية شاملة راسخة أفقية وفي العمق بين شعبها والشعب السوداني فظلت العلاقة بين البلدين وحتى تاريخه سطحية فوقية تتوقف على أحداث الساعة وردود أفعال عرضية بغرض الإستهلاك المحلي وأمزجة فردية ومصالح خاصة ورؤى سياسية أو منهجية لأحزاب حاكمة شمولية في كلا البلدين بعيدا عن توجهات الشعبين.
وقد أدى كل هذا إلى أن يسير البلدان على مر العصور في الإتجاه المعاكس لمصالح الآخر ... ونشأت جراء ذلك حساسيات لا داعي لها وغير مفهومة بين الشعبين لا يدري المراقب لطبيعتها في أخذها وعطاءها ومواقفها المليودرامية بين كل حين وآخر ما إذا كانت تنم عن كراهية لسوء فهم ؛ أو حب إعتياد ؛ أم غيرة وحسد بسبب جوار لا يمكن الفكاك منه؟؟؟