الأحد، 30 نوفمبر 2014

الطــلاقُ ملياران

الطــلاقُ ملياران

مصعب المشـرّف
29 نوفمبر 2014م

-         هل الإشهاد واجب عند الطلاق والرجعة أم عند الرجعة فقط؟

-         مقتضى الحال في الحياة الراهنة يدعو إلى ضرورة "الإشهاد" قبل إيقاع الطلاق.

-         ويجب أن يكون الإشهاد كتابةً في حضور موثق رسمي تابع للدولة.

-     لماذا نصبر على إبرام عقد الزواج سنوات . ولا نصبر على الإشهاد وتوثيق عقد الطلاق ساعة؟

-         متى نضع الحد بقوة القانون وعقابه ما بين هذا "الطلاق العبثي" ، و"الطلاق الشرعي"؟

-         تفسير قوله عز وجل [وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ].

-         تفسير قوله عز وجل : [وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم].

-         تنظيم مهنة "المأذون الشرعي" وتطويرها أصبح ضرورةً.

..............................................

الذي يلفت النظر ويدعو للتأمل العميق هو كثرة ما نسمعه من أسئلة وإستفسارات عن أحكام الطلاق خلال البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون .

والذي يخلص إليه المرء من بين كل هذه الأسئلة التي يشارك بطرحها المرأة والرجل ؛ أننا كمسلمين قد وقعنا في شر أعمالنا حين ذهبنا إلى التشدد في توثيق عقد الزواج .. والتساهل الذي يصل إلى حد اللامبالاة في إيقاع أمر الطلاق... وكل ذلك يجري في الوقت الذي أشار فيه المولى عز وجل إلى أن العلاقة الزوجية "ميثاق غليظ" بين طرفيها الرجل والمرأة .. فكيف نستسهل والحال كذلك أن ينفرط عقد هذا "الميثاق الغليظ" ببساطة أقل ما يقال فيها أنها حماقة؟
وفي الوقت الذي تعقدت فيه الحياة . وأصبح التوثيق لازماً موجباً مطلوبا في كافة التصرفات والعقود ومتطلبات الإثبات ؛ إبتداءاً من شهادة ميلاد الإنسان مروراً بدراسته ووظيفته ومسكنه ومركبه ... وإنتهاءاً بشهادة  بوفاته ... فإننا لا نزال نطلق للطلاق العنان بلا أوراق ومستندات لإثبات وقوعه ... فقط يكفي الرجل أن ينطق بكلمة الطلاق فيقع منه كل شيء.....
وكل هذا في الوقت الذي لا نتنازل قيد أنملة عن الإشهار والتوثيق والشهود المثنى والأربعة وحتى الألفين عند الزواج.




وحين تناقش بعض الفقهاء في هذا الأمر يتمسكون بأن هذه كانت سنة الأولين في فجر وصدر الإسلام .. لا بل ويزيد بعضهم بالقول أن الطلاق بالثلاثة جائز وقوعه في المجلس الواحد .. وأن الحكمة من ذلك "تأديب" الرجال حتى لا يجعلوا من كلمة الطلاق لبانة في أفواههم .... سبحان الله ؟ ... ومنذ متى كان الطلاق بالثلاثة أو غير الثلاثة تأديبا للرجال؟
أل يعلم أمثال هؤلاء أن أول ضحايا "الطلاق العبثي" هذا إنما هم النساء والأطفال .. وكل هذا يأتي في زمان أصبحت فيه كل شاة معلقة من عرقوبها؟

على أية حال فقد كفانا إبن تيمية وإبن القيم رحمهما الله بالفتوى في عدم جواز الطلاق بالثلاثة في مجلس واحد أو عدة واحدة لقوله عز وجل (فطلقوهن لعدّتهن) .. ولمن أراد التوسع فبإمكانه الرجوع إلى تفاصيل هذه الفتاوي المشار إليها.

ولكن لا يزال هناك خلاف بين المفسرين والفقهاء حول الإشهاد في الطلاق .. وينطلق الخلاف في تفسير كل منهم لقوله عز وجل في الآية (2) من سورة الطلاق: [ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا].

أفتى ترجمان القرآن "عبد الله بن العباس" رضي الله عنهما بأن (الإشهاد) واجب في الحالتين ... حالة الطلاق ، وحالة الرجعة.
وفي مؤلفه (الأم) أفتى الإمام الشافعي رحمه الله أن الإشهاد في الطلاق واجب. فقال:- (أمر الله عز وجل في الطلاق والرجعة بالشهادة . وسمى فيها عدد الشهادة فانتهى إلى شاهدين فدلّ ذلك على أن كمال الشهادة على الطلاق والرجعة شاهدان فإذا كان ذلك كمالها لم يجـز فيها شهادة أقـل من شاهدين).
كذلك قال الألباني بوجوب الإشهاد في الحالتين الطلاق أو الرجعة. 

أما في الجانب الآخر المتشدد الذي فسر (الإشهاد) في هذه الآية على أنه خاص بالرجعة فقط . فمنه نرصد قول الطبري في تفسيره : أن في قوله عز وجل : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } يقصد به ؛ وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن (وذلك هو الرجعة) ذوي عدل منكم .
وقال إبن كثير والقرطبي في تفسيرهما أن (الإشهاد) هنا إنما المقصود به في حالة (الرجعة) على الوجوب .. وأنه مندوب ليس إلاً في حالة الطلاق..... وأن الطلاق يقع بمجرد النطق به.

لي  صديق طفولة وزميل دراسة في خلوة الفكي العَوَضْ . ثم تفرقت بنا السبل فأضعت أنا 16 سنة من عمري في مدارج التعليم الأكاديمي العام ؛ أهلكتُ فيها مالاً لُبَدا .. واستثمر صديقي هذا تلك السنوات من عمره في مدارج الذبح والسلخ وبيع اللحوم الحمراء ومنتجاتها . فأصبح بمرور الأيام قصاباً شهيراً وتاجر مواشي وأعلاف يلعب بملايين الدولارات . ويدخل على دواوين وزراء المالية ، والزراعة ، والثروة الحيوانية متى وكيف شاء ... ومن غير ميعاد.
توقف صديقي هذا بسيارته المرسيدس الحمراء أمام باب منزلي . وشرع يضغط على "البوري" حتى أخرج أطفال وفتيات الحي من بيوتهم . ولم يتوقف إلا بعد أن خرجت إليه . وبعد السلام والسؤال عن الحال والعتاب والتعلل بكثرة المشغوليات وسيول من الطلاقات ؛ فاجأني بدعوته لي حضور حفل زواجه السابع .
تركني مذهولاً ؛ و "داس بنزين" وانطلق بسيارته . ثم  "فرمل" فجأة مثيراً الغبار إلى عنان السماء قبل أن يعود يسوقها إلى الوراء . توقف قبالتي وفتح النافذة . فمال على راسي بجنبه وهمس في أذني قائلا:
-    طبعا الجايي يغني  كمال ترباس .... عليّ الطلاق بالتلاتة بنضُمْ جَدْ  ما بكضِّب .... وكمان حيغني ليكم "جنا الباباي".


وعند حضوري أجلسني في طاولة مستديرة ضخمة في مقدمة القاعة ؛ أحسبها مخصصة لكبار زملائه من تجار المواشي والجزازير من فئة ألـ VIP في مجتمع مهنتهم هذه .. ولم يتركني وينصرف إلا بعد أن أوصاهم بي خيراً.
وحين اكتمل عقدها ، وحمي وطيس الجدال بينهم في الدولار والمذبوح والصادر والوارد والجمارك والمحاجر .. وذلك الموظف الذي يعرقِل وذاك الذي يمرِّر ... ثم وما بين هلال ومريخ .. وهذا اللاعب وذاك الهدّاف . وفرق مجلس ود ملاح من مجلس ود البرير .. وفضل محمود علِي الحاج علَى كمال ترباس .. وخروج الأخير على مدرسة محمود  فلاح ؛ حتى إنهالت الطلاقات من أفواههم كحبّات أمطار عِيِنة الطرفة في عــز الخريف .
لم أرغب في مشاركتهم وفضلت الإستماع . وحاولت في البداية الإنشغال بحساب عدد الطلاقات بأصابع يدي فلم تكفي . ثم بإستخدام حاسبة الموبايل الذكي ؛ فأحسست بالإرهاق ونزل مستوى شحن البطارية حتى يئست في نهاية المطاف بعد أن توقفت عند العدد ستة آلاف وثمانمائة ثلاث وتسعين .. ولا أخال عدد الطلاقات  إلاّ وقد وصلت عند نهاية الحفل إلى المليارات.
ولم أرجو وقتها سوى لو كان الطبري ، وإبن كثير ، والقرطبي (رحمهم الله) في تلك الليلة بيننا.... أو على مقربة من تلك الطاولة بالذات .

ومن بين أبرز الإجتهادات في زماننا هذا ، والتي تطالب بضرورة الإشهاد ..لا بل وشهادة العدول في الطلاق شرطاً لإنفاذ أثره ؛ نطالع رأي الدكتور "عبدالمعطى بيومى" .

وفي السودان خاصة نلاحظ تأثر (أغلب) المفسرين والفقهاء بالرأي الذي يقر وقوع الطلاق صحيحا بلا قيد أو شرط دون الحاجة للإشهاد وبمجرد النطق به . ولا نشك في أن هؤلاء يرغبون من ذلك إلى الأخذ بقاعدة "الحيطة والحذر" التي دائما ما يتبناها كل من لا يثق في علمه أو قدرته على الإستنباط  وتحمل المشاق .. ويظن بذلك واهما أنه يخلي مسئوليته.

بعض الفقهاء حين فطنوا إلى واقع جريان القسم بالطلاق في الحياة اليومية من بيع وشراء ونقاش وإثبات وإنكار في الأسواق ؛ اجتمعوا على إعتباره يمين كاذبة يتم تكفيرها بصيام ثلاثة أيام .... ثم وفطنوا بعد ذلك أنه لو إلتزم معظم الأزواج بصيام ثلاثة أيام لتكفير حلفانه بالطلاق . فإن معظمهم سيضطر إلى الصيام ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً في السنة .. ولن يكفيه ذلك .

فعاد الفقهاء وتراجعوا خطوة أخرى . فاعتبروا  هذا الحلفان مجرد لغو ؛ يمكن التوبة منه بالإستغفار . .... وعلى هذا النسق يفتي اليوم معظم علماء أهل السودان من خلال إجابتهم على أسئلة المشاهدين والمستمعين في الراديو والتلفزيون.

ولكن الذي لا يزال  يتمسك به أو يحار فيه هؤلاء العلماء من وقوع الطلاق يبرز عندما يتوجه إليهم زوج أو زوجة بإستفسارات عن مواقف أخرى لحالات قسم بالطلاق  تتلخص معظمها في الآتي:
1)   أن زوجها أقسم عليها بأنها طالق لو خرجت من باب المنزل.
2)  أن زوجها أقسم عليها بالطلاق لو أنها ذهبت لمناسبة إجتماعية ما . أو عادت مريضا ما من الأهل أو الجيران.
3)  أن زوجها أقسم بالطلاق أن لا يشتري لها تلفزيون جديد أو ثوب أو خروف العيد ثم تراجع وإشترى.
4)   أن زوجها قال لها : "فوتي أمشي أهلك".
5)   أنه حلف على زوجته بالطلاق ثلاثة.
وهناك مواقف وأحوال متعددة أخرى .... ولكن الذي نلحظه ؛ أنه يجمع بينها أن الزوج نادم على تسرعه وتوريطه لنفسه بعد أن زال عنه الغضب وعاد إليه رشده .... وأن الزوجة لاترغب في خراب بيتها وتشريد أطفالها

على أية حال فقد رأينا أن ردود علماء الدين هذه الأيام تتمحور في الذهاب إلى سؤال الزوج عَمّا إذا كان ينوي بهذا القسم التهديد والتخويف لزوجته ؟ أم أنه يعني ما يقول ؟ .. أو أن يطلب منه الحضور لمقر هيئة العلماء والفتوى للتحري معه قبل إطلاق الحكم الشرعي .

واقع الحال فإننا لو طلبنا من كل زوح أقسم على زوجته بالطلاق أن يذهب ويتحرى من لجان الفتوى .. وأن كل زوج قام بتنفيذ هذا المطلب .. فإن مبنى هذه الهيئة الشرعية سيصبح من الزحام بمكان.
وربما لجأ الزوج إلى الكذب والحنث باليمين أمام اللجنة ؛ وهو يبرر لنفسه ذلك بالقول "أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" بعد أن عاد إليه رشده وأدرك وبال أمره . وما يعنيه وقوع الطلاق من هدم للأسرة وتشريد للأطفال .. إلخ من ذيول سلبية جعلته بالفعل "أبغض الحلال إلى الله"..... وجعلت إبليس اللعين يضعه على رأس قائمة أولولياته ، وكيده المطبوع طوال مسيرة عدائه لبني آدم.

جميعنا يدرك أن المجتمع الإسلامي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدر الإسلام لم يكن على هذا النحو من التعقيد الذي أصبح عليه . وذلك على النحو الآتي:
1)  كان كل مجتمع يعرف أفراده معرفة تامة . فلا حاجة إلى شهادة ميلاد وجنسية أو بطاقة شخصية ورقم وطني ، وجواز سفر.
2)  كان الشهود العدول متوفرون وعلى معرفة تامة بالزوجين . ومن ثم كان إثبات علاقة الزواج والطلاق ونسب الأطفال حتى بعد وفاة الزوج أو الزوجة ممكناً وبكل شفافية أمام القاضي ، في حالة التخاصم على الميراث أو محاولة إنكار النسب.
3)  كانت علاقة الأرحام على نحو من القوة والمسئولية التامة . فلم يكن الأخ يتخلى عن أخوته أو أبناء إخوته ، وزوجات وأزواج إخوته بهذه البساطة التي أصبح عليها الحال اليوم عندما يدخل على الخط ملايين ومليارات سائلة ، وأموال منقولة ، وممتلكات ثابتة تركها لهم والدهم أو والدتهم بعد الوفاة .. خاصة وفاة الفجأة التي أصبحت ملح الوفيات في هذا العصر السريع الإيقاع ... فيصل الحال إلى إنكار الزواج ونسب الأولاد ... أو إستئجار شهود زور يقسمون على وقوع طلاق زوجة الأب أو زوجة الأخ ، وزوج الأم  قبل الوفاة .... إلخ مما لا يعد ولا يحصى من صور ونماذج يندى لها الجبين.

إن أصول الفقه تقتضي من العالم أو الإنسان العادي القدرة على " الإستنباط " .... ومن ثم فإن الإستنباط الفقهي هنا يذهب حتما إلى ضرورة البحث والحرص على توثيق الطلاق كتابة مثلما هو عليه الحال في الزواج .
وأن يكون التوثيق أمام مأذون شرعي بمحرر "طلاق رسمي" بحضور الزوج وشهادة ممثل من أهل الزوج وممثل من أهل الزوجة ؛ عملاً بقوله عز وجل في الآية (35) من سور (النساء) [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا]......... وذلك قياساً بأن الطلاق هو حالة تندرج ضمن قائمة الشقاق والخلاف بين الزوجين لا محالة... لا بل هو قمة الشقاق.
ونلاحظ في هذه الآية المشار إليها أعلاه قوله عز وجل في نهايتها (إن الله عليما خبيرا) .... وهو ما يجب الحرص معه على ضرورة أن تكون واقعة الطلاق معلومة موجبة للحقوق والواجبات بالتوثيق والإخبار".
فالعلم ضد الإخفاء ... والخبير هو العالم بالخبر .. وجميع ذلك يصب في ضرورة العلم بـ (الإستخبار)  الذي يلزمه (التوثيق) في عالم البشر.

ويقول الله عز وجل في الآية (28) من سورة (الأحزاب) :[يا أيُّهَا النبيُّ قُلْ لأزواجِكَ إنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنيا وزينَتَهَا فَتعَالَيْنَ أمَتِّعَكُنَّ وأُسَرِّحَكُنَّ سَرًاحَاً جَمِيلا] .
والذي يفهم من هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل يأمرنا بتخيير الزوجة ما بين الطلاق أو الإستمرار في الزواج عندما يتعلق الأمر بعدم قدرة الزوج المالية على الوفاء بكل مطالب الزوجة خاصة (وهذا أكثر أسباب الخلاف بين الأزواج إنتشاراً) .... وحين نقول التخيير . فإننا هنا نتصور سيناريو من الهدوء وإعمال العقل والحكمة دون إستعجال أو إنفعال وحماقة.

وفي ذلك تقول السيدة عائشة أم المؤمنين وبنت الصديق رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه ، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت : ثم قال : " وإن الله قال : (يا أيها النبي قل لأزواجك ) إلى تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . [أورده البخاري]

إذن فإنه وقبل إيقاع الطلاق ؛ يلزم أن تكون الزوجة أعلم به قبل إيقاعه . وأن يخيرها زوجها مباشرة بين طاعتة أو أن يدفع لها حقوقها ، ويطلقها بالحسنى والمعروف ..
وهناك حالات أخرى نادرة تتعلق بحق الزوجة في (الخُلع) لسبب عدم كفاءة الزوج الصحية أو المالية .. إلخ . ولكنها تظل نادرة من بين الحالات الأخرى الشائعة.



ويقول الله عز وجل في الآية رقم (2) من سورة الطلاق :[ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]
ومعنى "وأقيموا" الواردة في هذه الآية هو "التثبت" و التثبيت" على وجه الدوام . يعني في كافة الأحوال ... ومنها جاء قوله عز وجل "وأقاموا الصلاة" أي داوموا عليها ....

كذلك فإن واقع الحياة اليوم لابد أن يفتح النقاش حول مسألة "الشهود العدول" .... ذلك أن توافر هؤلاء في زمان ومكان واحد في حالة ذهنية وعقلية وصحية مواتية يعتبر من قبيل المستحيل ...
تفشت شهادات الزور .. والنكوص عن الشهادة .. ولم يعد إستقرار البشر في مكان واحد متيسراً . وإزدادت معدلات الإغتراب المؤقت أو الهجرة الدائمة التي تصل في أحيان أخرى إلى تخلي الإنسان عن جنسيته الأصلية وإكتساب جنسية دولة أخرى .. فلم يعد الشهود تحت الطلب وقيد الإستدعاء كما كان عليه الحال من قبل.

وقد إستعاضت جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية اليوم بمكاتب "الكاتب العدل" و "الموثقين" في إدارة حكومية رسمية مختصة تابعة لوزارات العدل . وعلى مختلف مسمياتها من " إدارة التوثيق" و "الكاتب العدل" و "الشهر العقاري" و "التسجيل" .... وجميعها تعني بأمر "توثيق العقود" ... ومكتب الماذون الشرعي هو أيضا جزء من هذه الإدارات المعنية بالتوثيق .... ومعظم الدول تفرض على المأذون الشرعي أن يكون له سجل تجاري موثق ، ومكتب معروف بلافتة توضح إسمه ورقم الترخيص الممنوح له وعنوان العقار الذي يقع فيه مكتبه .

وطالما كان الأمر كذلك . وفي ظل المستجدات التي فرضتها الحياة العصرية . فإنه يصبح من الضرورة والوجوب الشرعي بمكان أن لا يتم الطلاق ويعتبر شرعا إلا  " بعــــــد " الإشهاد أولاً ثم توقيع الزوج أمام الموثق توطئة لختمه وتوثيقه رسميا ، وتسجيله في إدارة التسجيل المختصة حتى تحفظ الدولة (ولي الأمر) لكل ذي علاقة من زوجات وأبناء يتامى وقاصرين حقوقهم في النفقة والميراث والنسب .. لا بل وتحفظ لغير الزوجة المطلقة حقوقهم ... فمثلما يكون لإثبات الطلاق من دوافع ومنافع  لدى البعض . يكون لإنكار الطلاق دوافع ومنافع لدى البعض الآخر .

غريب أن نهتم بتوثيق ملكية أرض وأيلولة عقار من الزائلات في الحياة الدنيا . ونغفل عن توثيق طلاق يؤدي إثباته زوراً إلى تفتيت أسرة وتشتيت أطفال وضياع حقوقهم بين الورثة . أو هضم لحقوق الغير من الورثة في حالة إنكاره.

عجيب أن نهتم بتوثيق عقد بيع سيارة وركشة وكشك سجائر وليمون . ونغفل عن ضرورة توثيق طلاق يؤدي التلاعب في إثباته عبر شهود الزور إلى ضياع حقوق بشر. وعلى نحو قد برمي بهم إلى الشارع ويذهب بهم إلى طريق الخطيئة والضياع ونهبا لكلاب السِكك.

إن الذي يطّلع في هذا الزمان الأغبر إلى ملفات القضاء ، وما تشهده ساحاته من ظلم الإنسان لأخيه ولزوجة أبيه وزوجة أخيه واليتامى من أبناء أخيه.  سيهوله ما يحدث من إستغلال البعض لثغرات في القانون وتطبيق وتفسير الشرع في غياب التوثيق . وقدرة بعض معدومي الضمير من الولوج عبر هذه الثغرات لهضم حقوق الغير. 

من المضحك أن يحرص البائع والمشتري في الأسواق على تسجيل إنتقال ملكية حمارة لدى شيخ السوق وكاتب البلدية .. ثم نغفل توثيق طلاق زوجة تنتمي إلى فئة الإنسان ؛ الذي كرمه الله من بين خلقه وحمله الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها.
  
إن أكثر ما يستدعي التفقه والتأمل هو ذلك التدرج الملفت الذي ورد بشأن الفراق بالطلاق في الحياة الزوجية . وذلك عند قوله في سورة البقرة من الآية رقم (225) إلى الآية (227):
فهو عز وجل يقول في الآية (225) :
[لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم]
ثم يقول عز وجل في الآية (226):
[للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤو فإن الله سميع عليم].
ثم يقول عز وجل في الآية (227):
[وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم].
.... فما هو معنى العزم في اللغة العربية؟
العزم هو الجـِدُّ .... ومعنى عزم على الأمر هو : أراد فعله.
وقال الليث :العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله.

ومن ثم فإن الذي يستنبط من كل ما تقدم هو :
1)  أن قوله عز وجل في محكم تنزيله في الآية (229) من سورة البقرة "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) إنما يشكل الإطار العام المنظم للطلاق المشروع.
2)   أن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد .... وفي حضور شهود عدول.
3)  أن الشهود العدول في الزمان الحاضر لايكفي وحده . وإنما يجب أن يكون التوثيق في دائرة رسمية تابعة للدولة (ولي الأمر) . يمثلها (موثق) في وزارة العدل . أو مأذون شرعي تابع لوزارة العدل بحضور شاهدين معروفين معرفة تامة لكل من الزوج والزوجة . وأن يكون التوثيق بالكتابة.
4)  لا يكون الطلاق إلا بعد إعلام الزوجة (على سبيل العلم) . حتى تكون على بينة من أمرها فتنستر وتحصن فرجها من طليقها ، و تحصي عدتها ، وتعرف متى وكيف تطالب بحقوقها المترتبة شرعاً.


(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)