الأحد، 24 أبريل 2016

هل يوقع السودان وأثيوبيا إتفاقية دفاع مشترك؟

هل يوقع السودان وأثيوبيا إتفاقية دفاع مشترك؟

مصعب المشرّف
24 أبريل 2016م
في محاولة حمقاء يائسة غير موفقة من الحكومة المصرية التغطية على تنازلها عن جزر إلى المملكة العربية السعودية . وبهدف إيقاف موجة الغضب الشعبي والحد من المظاهرات وأعمال الشغب المحتجة على هذا التنازل . فقد سارعت حكومة السيسي إلى رفع ورقة حلايب وشلاتين وإرسال قوات مصرية إلى هذه المنطقة لإجراء مناورات عسكرية بطول حدودها السياسية معنا ؛ دون أن تعي أن نهر النيل يتجه من الجنوب إلى الشمال وليس العكس ... وأن السودان قادر على ضرب مصر في كبدها ..... وأن التصعيد الغير مبرر ضد السودان قد يفتح الطريق سالكا ؛ ويمهد إلى توقيع السودان إتفاقية دفاع مشترك نافذة (ضد أي طرف ثالث) مع جارته اللصيقة الحميمة أثيوبيا ؛ والعودة مرة أخرى إلى المعسكر الإيراني الخميني ؛ فتخسر مصر بذلك السقط واللقط من سد النهضة الأثيوبي العملاق..... ويتم إغلاق باب المفاوضات الثلاثية حول هذا السد إلى الأبد .. وعلى المتضرر أن يشرب من ماء البحر إن لم يعجبه الحال والأمر.

إن على كافة الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر اليوم أن تدرك جيداً أن توقيع إتفاقية كامب ديفيد الإستراتيجية للتطبيع مع إسرائيل قد تلاشت بسببها وتمزقت كل عرى العلاقات والإلتزامات العربية العربية ...... أصبح الحديث عن التضحيات محض خرافـة ....  ولم تعد هناك سوى المصلحة الصفراء السافرة هي التي تحكم العلاقات بين البلدان العربية ..... وأن من حق السودان أن ينشد ترتيب أولويات علاقاته حسب ما يتوافق مع مصلحته الوطنية.

بنود ومواد إتفاقية الدفاع المشترك التي تأمل بها أثيوبيا أن ترتفع بعلاقتها الأزلية مع السودان جاهزة على الطاولة ...... وما على السودان سوى الإشارة ولو بغمزة عين.


إننا وعلى واقع فشل الجيش المصري حتى يومنا هذا في حربه ضد تنظيم داعش والجماعات الجهادية الأخرى في شبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية ؛ نستغرب أن تتعامل الحكومة المصرية إزاء هذا الفشل بنقل العبء إلى السودان ؛ وإستعراض عضلاتها في أراضيه التي تحتلها وعلى طريقة (اللي غلبته مراته راح يأدب حماته) .....

وإذا كانت الحكومة المصرية ضعيفة الذاكرة . فلا مناص هنا من التذكير بنيران الحطب والقش في المتمة .... ومعركة شيكان .... وتحرير الخرطوم .... ثم ومعركة توشكي التي لم يتمكن الخديوي الألباني الأصل من إيقاف تقدم عبد الرحمن النجومي بجيش المهدية نحو عمق مصر ؛ إلا بعد تدخل القوات البريطانية بقوة إلى جانبه بأوامر مباشرة من لندن....... ولا ننسى حتى كارثة حـرب اليمن.

بالطبع لا يخيفنا تهديد أو وعيد أجوف .. ولكن على الحكومة المصرية أن تدرك جيداً أنها إذا كانت تستخدم ورقة حلايب وشلاتين للإستهلاك المحلي ، وإلهاء شعبها عن متابعة حلقات مسلسل الفشل الإقتصادي والأمني ؛ والإعتماد المزمن على ستجداء الإعانات والمعونات التي لا تغني ولا تسمن من جوع . فإننا نؤكد أن مثل هذا التهويش الفارغ لن يكون له في نهاية المطاف من فائدة سوى إرتفاع أسهم النظام الحاكم في السودان ، وإلتفاف الشعب السوداني حول الرئيس عمر البشير.




السبت، 23 أبريل 2016

منتصر الهلالية وأغنيات مصطفى سيد أحمد

منتصر الهلالية وأغنيات مصطفى سيد أحمد


مصعب المشرّف

بثت قناة النيل الأزرق مساء يوم الخميس 21 أبريل 2016م الحفل الغنائي الساهر الذي أقامه المطرب المبدع الشاب "منتصر هلالية" في المسرح القومي بأمدرمان .

المطرب والملحن منتصر الهلالية 
يأتي هذا الحفل على صدى إعلان منتصر الهلالية مسبقاً أنه سيتغنى فيه بأغنيات للمطرب الراحل مصطفى سيد أحمد ..... وهو الإعلان الذي أثار حفيظة البعض في مختلف الوسائط الإعلامية . وذلك على خلفية وواقع أن مصطفى سيد أحمد ولأسباب تتعلق بميوله السياسية ومعاداته للنظام الحاكم ؛ وإلى حين وفاته قد تحول إلى "قضية" يتقاذفها المعسكر الحاكم  مع الطرف المعارض في الميدان الثقافي .

وكان من جراء ذلك التراشق نشوء معسكران ؛ كلاهما للأسف يعملان في الإتجاه السالب المفضي إلى دفن إنتاج مصطفى سيد أحمد الغنائي  داخل العلب القديمة.

فمن جهة النظام الحاكم اليوم . ندرك جميعاً أن "الطيب سيخة" إنما هو الذي حوّل بعنفه المُبير وجبروته وقِصر نظره .. حوّل مصطفى سيد أحمد (دون أن يقصد) إلى كاريزما معارضة ، وضحية من ضحايا نظام الإسلام السياسي الحاكم .... ولفت إليه الأنظار في هذا الجانب حتى أصبح بطلاً و أيقونة من أيقونات الطرح السياسي المعارض بأدوات ووسائل الفنون الجماهيرية الرائجة وعلى رأسها الغناء.
الطيب سيخــة 
 ...... وكان من جملة ما ترتب على ذلك هو مسارعة الأقلام في وسائل الإعلام المحسوبة على النظام الحاكم إلى ركوب موجة بث الكراهية تجاه مصطفى سيد أحمد ومحاصرة إنتاجه ، والحط من شأن تأثيره في ساحة الغناء .... واصدار أحكام مسبقة تسخر من محاولة منتصر هلالية إعادة تقديم بعض إغنياته للأجيال الجديدة.
ولكن ؛ وكالعادة فقد أتت مثل هذه المحاولات (الرسمية) فاقدة للروح والصدق وممجوجةً مكشوفة كدأب إعلام السلطة الغبي دائما  ، فانقلب السحر على الساحر . وأصبح عكس ما يتمناه الطيب سيخة هو الحاصل .. فجاءت الثمرة إيجابية لمصلحة مصطفى سيد أحمد.

ثم أنه ومن  الجانب الآخر ؛ فقد نشأ وتعاظم بدعم حزبي يساري مؤسسي ممنهج ... نشأ وتعاظم معسكر وتيار يصب في خانة تسييس إبداع وأغاني مصطفى سيد أحمد. وتفسيرها على نحو يعري ويفضح مقولات ومزاعم الجهاز الدعائي للنظام الحاكم وتنظيمه السياسي .....
مصطفى سيد أحمــد
وبغض النظر عما إذا كان تحميل إبداع مصطفى سيد أحمد الغنائي مقاصد سياسية وفلسفية قد جاء على نحو أكثر مما يجب . إلا أن الواقع هو ما جرى وكان .. وربما يحتاج الأمر إلى سنوات طويلة بعد زوال نظام الإنقاذ حتى يتمكن الناس من إعادة هذا الإنتاج الغنائي إلى مساره الفني الصحيح ؛ وتفسيره على بصيرة وأسس منطقية لا يلتحفها الإنفعال.

وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا المحمل الذي جرى فيه تصنيف أغنيات بعينها على إعتبار أنها سياسية المغزى وتشكل محاكمة للنظام الحاكم .... ومنها على سبيل المثال أغنية "يا خـائـن" التي تغنى بها إبراهيم عوض خلال حقبة حكم الفريق إبراهيم عبود . وجرى حظرها وملاحقة شاعرها ومطربها ؛ على إعتبار أنها كانت تغمز وتلمز من شخصية اللواء المقبول عضو المجلس العسكري الحاكم .
كذلك كانت أغنية "الساقية" .. الساقية لسا مدورة ... التي تغنى بها حمد الريح خلال عهد المشير جعفر نميري . وجرى حظرها ..... 
وينطبق الحال أيضا على أغنية "ضابط السجـن" التي تغنى بها عبد الرحمن عبد الله . وكاد أن يدخل بسببها السجن لولا مسارعته بالهجرة إلى ليبيا.
والشاهد أن هذه الأغنيات وغيرها قد فقد ألقه السياسي وتأثيرة فور زوال هذه الأنظمة الدكتاتورية والشمولية . وعاد مطربوها والناس يرددونها بوجدان عاطفي بحت.  
إبراهيم عوض

الذي ينبغي التأكيد عليه بقوة هنا هو أن منتصر هلالية ليس بصاحب أجندة أو ميول سياسية .... وأنه ليس بصائد حفلات ومرقص عرائس ومطرب أكل عيش .... ولكنه من الطبيعي أن يكون على دراية ووعي بما يدور حوله ... ولأجل ذلك نراه قد سارع إلى التأكيد في معظم وسائل الإعلام .... التأكيد على أنه إنما قصد من محاولته إعادة تقديم بعض أغنيات مصطفى سيد أحمد التعبير عن إعجابه وحبه الشخصي لهذا المبدع الراحل ....... واللبيب بالإشارة يفهم.

هذا المقال لا يتسول ويستجدي والصدقات للمطرب الشاب منتصر هلالية . فلهذا المبدع الملحن المطرب الشاب إبداع يحميه ويثريه .... ويحمله مضطردا على خطى ثابتة بتؤدة إلى القمة في سلم الغناء السوداني ؛ لما يمتلكه منتصر من رؤية واضحة ونظرة ثاقبة تجلت في حرصه على تقديم إنتاجه الخاص . وبما يحمله من رسائل متصلة بأحاسيس وقضايا جيله في قوالب من الألحان والجمل الموسيقية الحديثة الممتدة الواسعة المترعة بالثراء والصوت والأداء الصادق المفعم بالشجن...
وفوق هذا وذاك فقد جاء منتصر هلالية من ضفاف شرق النيل الأزرق وعلى مشارف البطانة يحمل بين جناحية حنان وشجن فياض ؛ ولا أشك مطلقاً في أنه في طريقه ليصبح المتمم لإبداع أسلافه الكاشف  ومحمد وردي ومحمد الأمين في عالم الألحان والأداء والتعبير ...  وأنه الوعد الجديد للأغنية السودانية الحديثة ونجمها الساطع بلا منازع.

تمتليء الساحة الغنائية بالتقليد والترديد والمحاكاة .... وهناك مطربون ظلوا يدورون في فلك الترديد لأغاني غيرهم بنفس أسلوب الأداء والألحان ، ولا يزالون على ذات النسق حتى بعد أن شابت رؤوسهم وبات الناس يخجلون لهم.
وهناك أكثرية من هؤلاء المرددين طرقوا أبواب مصطفى سيد أحمد ورددوا أغانيه ...... فلماذا والحال كذلك لم تقم الدنيا ولم تقعد إلا بعد أن أعلن منتصر هلالية رغبته في تخصيص حفله الغنائي هذا لتقديم أغنيات لمصطفى سيد أحمد؟

التفسير واضح ومنطقي ..... فهناك في المعسكران الموالي والمعادي لمصطفى سيد أحمد من يخاف أن يتسبب منتصر هلالية في إستدراج أغنيات مصطفى سيد أحمد إلى رحاب جديدة حرة ، ويمنحها بأدائه الشجي وموسيقاه المطورة بعداً غير الذي تدور في فلكه اليوم.
هذا التفسير يدعمه تقديم منتصر هلالية لأغنية "الشجن الأليم" بأداء وإثراء موسيقى وجمل لحنية ولزمات جديدة ملفتة مثيرة للشجن . تجاوب معها الجمهور داخل المسرح القومي بدهشة غير مسبوقة . تخلى فيها الرجال عن وقارهم ..... تثنت  وتمايلت النساء والعـذارى على وقعها كتمايل أغصان البان الندية.

عارفني منك
لا الزمن يقدر يحول
قلبي عنـك
لا المسافة ولا الخيال
يبعدني منك

واقع الأمر فإن الذي نطلبه هنا هو تكريس "التوجه العام" بتحليل وتفسير أسباب هذا اللغط والجلبة التي أحدثها منذ البداية إعلان منتصر هلالية عزمه تخصيص هذا الحفل الغنائي لتقديم أغنيات مختارة من مصنفات مصطفى سيد أحمد ؛ سواء أكانت من أدائه أو إلحانه وأدائه معاً.
لماذا هاجت الكثير من الأقلام والأصوات المعادية لمصطفى سيد أحمد ؛ واعترضت على إعادة تقديم إنتاجه ؟
يحقد هؤلاء على مصطفى سيد أحمد لا لشيء سوى أنه قد إختار البقاء صامدا في معارضته وإنتقاده للنظام الحاكم ؛ ومارس هذا الصمود بعناد لم يثنيه عنه حتى يقينه التام بأنه سيفضي إلى وفاته صبراً جراء قلة الإمكانات المالية المتوفرة لديه لعلاج مرض الفشل الكلوي الذي أصابه.
وينشد هؤلاء من إعتراضهم أن يظل إنتاج مصطفى سيد أحمد حبيس العلب دون تجديد عل وعسى يعلوه الصدأ وتفتك به جرثومة الإغتراب ؛ وينتهي به المطاف إلى غياهب النسيان أو حتى حين على أقل تقدير.

وفي المعسكر الآخر ينشد هؤلاء أن تبقى أغنيات مصطفى سيد أحمد كما هي عليه من أسلوب وجمل لحنية غير مجددة حتى تظل معبرة عن موقف مصطفى سيد أحمد المعارض للنظام الحاكم ..
إنهم يدركون أن منتصر هلالية غير مقولب سياسياً ولا يحمل أجندة من هذا النوع ... .. وعليه ؛ يخافون أن تعصف وتذهب رياح منتصر هلالية بهذه الأغاني إلى معارج ومسالك عاطفية ووجدانية أخرى تنفي عنها بعدها السياسي المنطبع في أذهان الجماهير.

وبالجملة .. نستطيع الإستنتاج بأن رغبة منتصر هلالية في تقديم أغنيات مصطفى سيد أحمد ....... نستطيع القول بأنه قد تواطأ على عرقلة ومنع تنفيذ هذه الرغبة كلا المعسكران الموتور سياسياً من جهة .. والمتحفظ الموالي لمصطفى سيد أحمد من جهة أخرى على حـد ســواء.......
وما بين حراس المعبد و الراغبين في هدم المعبد إنحشر منتصر الهلالية مغلوباً على أمره .... ولا يسعنا في هذا المقام سوى الدعاء له بالقول "أعانك الله".

في اللقاء الذي أجرته معه مذيعة قناة النيل الأزرق . قال منتصر هلالية أن هناك جهات لم يرضيها إعلانه عن رغبته تخصيص حفله الغنائي هذا لإعادة تقديم أغنيات مصطفى سيد أحمد ... ولكنه كان مصراً على موقفه حتى لو إقتصر ذلك على أدائه أغنيتين فقط ... فكان له ولجمهوره ما أراد كحل توافقي على ما يبدو .... وأكمل منتصر هلالية المساحة الزمنية المخصصة للحفل بأدائه لبعض أغنياته الخاصة.

نحن هنا لا نتحدث عن فشل أو نجاح .. فمنتصر هلالية قد تجاوز مرحلة الإختبار منذ زمن طويل . ولم يعد هناك إثنان يجادل أحدهما أو كلاهما الآخر  في موهبته وجماهيريته .... ولكن الذي لفت الإنتباه في ترديده لأغنية مصطفى سيد أحمد الخالدة "الشجن الأليم" .... الذي لفت الإنتباه أن منتصر هلالية قد أفلح في تقديم هذه الأغنية بأسلوب أداء جديد يلفه الشجن على خلاف مع الأسلوب الذي أدى به مصطفى سيد أحمد هذه الأغنية ؛ أداء مصطفى سيد أحمد الذي تميز بنبرات القوة والتحدي والتركيز والضغط على مخارج الحروف ... وعلى نحو ربما يكون هو السبب الأعظم في تحميل أغنياته محامل سياسية محضة.
محمود عبد العزيز
أعاد لنا أداء منتصر هلالية إذن تلك اللمسة السحرية الرقيقة التي تميز بها أداء المطرب الظاهرة الراحل "محمود عبد العزيز" الذي تمكن من إعادة صياغة وإستنباط معاني ورسائل حديدة من خلال ترديده لبعض الأغنيات القديمة والحديثة على نحو من الصقل والمراجعة الوجدانية ؛ جعل معظمها يعيد طرق آذان الشعب السوداني وكأنه يستمع إليها لأول مرة في حياته.
رحل محمود عبد العزيز في الثلث الأول من مشواره الفني .... ونرجو أن يسد منتصر هلالية الفجوة ويملأ الفراغ . لاسيما وأن أداءه لأغنية "الشجن الأليم" تشير إلى أنه يحمل في دواخله قدرات متعاظمة تربأ به عن مجرد التقليد والترديد . وترفعه إلى مصاف تؤهله لإعادة تقديم العديد من الأغنيات الخالدة بأسلوب جديد ؛ يضيف إليها أبعاداً مفتقدة وجمل لحنية تبرز مواهب عازفين على آلات موسيقية حديثة لم تأخذ نصيبها المفترض لإثراء الموسيقى السودانية....
كذلك نرى لمنتصر هلالية حظوظا أوفر في جانب الألحان ؛ لما يتميز به من موهبة إبداعية في هذا الجانب حباه بها الله ـ لم يكن يتمتع بها محمود عبد العزيز رحمه الله.


وفي الختام ربما نكون قد إقتربنا بعض الشيء من الإجابة على تساؤلات تتعجب عن مسببات هذه المعارضة المحمومة ، والعراقيل الإستثنائية التي وضعها البعض أمام تنفيذ منتصر هلالية لحلمه الشخصي في إعادة تقديم أغنيات لمصطفى سيد أحمد بأداء مختلف وإثراء موسيقى يعرفه هؤلاء جيداً في ألحان منتصر هلالية.

الأربعاء، 20 أبريل 2016

شهادة الترابي على العـصــر (الحلقة 1)

شهادة الترابي على العـصــر

(الحلقة 1)

مصعب المشرّف
20 أبريل 2016م

د. حسن الترابي
اللقاء الذي سجله برنامج "شاهد على العصر" مع الراحل حسن الترابي وأعلنت قناة الجزيرة عن بدء بث حلقاته متوالية . ..... وقدمت له من الدعاية والإثارة ما يكفي وزيادة . وعلى إعتبار أن الترابي قد إشترط على المحاور في هذا البرنامج ( أحمد منصور) أن لا يبث اللقاء إلا بعد وفاته ...... فإن الذي لاشك فيه أنه قد وجد إهتماماً ملفتاً من جانب المواطن السوداني بدافع الفضول . والظن بأنه سيجد فيه الإجابةعلى الكثير من الأسئلة الحائرة المتداولة عن أسرار نظام سياسي نشأ وسار وتمطّى على صميم أفكار الترابي فترة أولى .... ثم تعثر وتخبط فوق حطام أفكاره المتناثرة فترة ثانية أخرى ولا يزال.

الجدير بالملاحظة هو إعتراف قناة الجزيرة بأن هذه الحلقات من برنامج شاهد على العصر قد سجلت في عام 2010م ... وقد مات الترابي في مارس 2016م .... وهو ما يعني أن هناك 6 سنوات كاملة تالية مفتقدة  ..... وقد إستجدت الكثير من الأحداث والتوافقات ليس أقلها موقف الترابي وحزبه (المؤتمر الشعبي) من الحوار الوطني ... والمدى الذي ذهب إليه الترابي في السماح لأنصاره وأتباعه من أعضاء المؤتمر الشعبي بالأكل في موائد عمر البشير والتزاوج العرفي داخل غرف وأمانات حزب المؤتمر الوطني الحاكم.

مبدئيا ينبغي تسجيل التحفظ على تقديم حسن الترابي بوصفه شاهد على عصور سياسية  كان هو وتنظيمه إما معاديا لها أو جزءا منها أوتحالفا معها أو شريكا فيها ... أو صانع لها ..... لأنه وبكل البساطة لن يكون شاهد على العصر بقدر ما سيكون صاحب شهادة مجروحة على نفسه ... وشاهد زور على كافة هذه العصور . بوصفها إما أن بعضها معادية لأفكاره . أو أن بعضها الآخر نافية لمزاعم إنفراده بتقديم أطروحات إسلامية.....

وقد لوحظ أن الترابي قد تجاهل في الحلقة الأولى من شهادته .. تجاهل الإشارة إلى كافة العصور السياسية الإسلامية التي مرت على السودان طوال تاريخه الحديث بعد دخول الإسلام البلاد . ورأيناه يطرح نفسه صاحب المشروع الإسلامي الوحيد . في حين أن هناك العديد من العهود السياسية التي إستلهمت العقيدة الإسلامية . وكانت تحربتها مثمرة بالمقارنة مع تجربته الفاشلة .. وأعني بتلك العهود السياسية الإسلامية كل من مملكة الفونج (1505م – 1821م)  ، و العهدين من سلطنة الفور (1445م – 1874م) ثم (1898م – 1916م) ؛  و الدولة المهدية (1885م – 1898م) .
والترابي حتماً يدرك هذا الواقع التاريخي .. وكيف كانت سنار والفاشر وأمدرمان منارات إشعاع إسلامي ؛ ومصادر جذب حضاري من بغداد شرقا مرورا بدمشق وحتى الأندلس غرباً ثم  وجنوبا حتى نيجيريا .... وذلك بدليل أنه أشار في شهادته خلال هذه الحلقة الأولى إلى موقع السودان وأهميته الحضارية وسط الشعوب الأفريقية  ... ولكن لاحظنا أنه يتغافل وضع النقاط على الحروف جريا على عادته حين يشعر بأن هناك من ينافس ويدحض مزاعمه بأنه صاحب الريادة وعراب التأسيس للفكر الإسلامي في السودان.

ومن ثم فإن تقديم الترابي نفسه أو تلاميذه وانصاره له على أنه مؤسس الحركة الإسلامية في السودان يظل محض أكاذيب وإدعاء زائف . ومحاولة فاشلة مقدماً لسرقة التاريخ وإبتسار وتزييف تجارب وطنية سابقة إهتمت وكرست لنظام وطني إسلامي مثمر بعيدا عن التنطع والكوزنة .... الكَـوْزنة التي أصبحت تعني (كمصطلح سوداني)  محاولة الإخوان المسلمين إختطاف الدين الإسلامي ووقفه على أنفسهم ، وحصره في وعاء محدود السعة يحتكرونه وحدهم  ..... يفسرونه كما يشاؤون . ويستغلونه كما يشاؤون .... يحرّمون وفق أهوائهم ويحللون وفق مصالحهم على كراسي الحكم ..... وعلى نحو وضع البلاد على أعتاب مرحلة  شبيهة بتلك العصور الأوروبية الوسطى المظلمة.......
وبتلخيص مقتضب يمكننا القول أن الترابي قد فشل في جعل حراكه الإسلامي وعاءاً شاملاً لكافة أبناء السودان المسلمين .. وأنه بدلاً من أن يصلح حال حزبه ويعدل من أفكاره الإقصائية في الإدارة والحكم . رأيناه كيف يشجع تلامذته على رشوة أهل الطرق الصوفية لإستقطابهم.

الرشيد الطاهر أبكر
في الحلقة الأولى من حلقة "شاهد على العصر" مضى حسن الترابي في محاولته الدائبة التقليل من شأن "جماعة الإخوان المسلمين" السودانية التي جرى إستنساخها من مصر وتأسيسه في السودان على يد مجموعة الرشيد الطاهر أبّـكـر قبل سنوات من تاريخ إنضواء الترابي تحت لوائه  وإنخراطه في صميم قيادته.
وبالطبع فإن هدف الترابي من كل هذا التبسيط والتسطيح للتجارب الإسلامية الوطنية التي سبقته ؛ وتلك التي تأثرت بحراك الإخوان في مصر .. هدفه من كل ذلك هو الإنفراد لنفسه بالريادة حتى لو جاء وصدر منه ذلك على بساط التجاهل والإزدراء والإستخفاف والإلغاء .

ولكن على الرغم من كل ذلك ؛ فإن المنصف لا يغمط الترابي حقه في أنه تمكن لاحقاً من تأسيس تنظيم سياسي وطني إسلامي الشعارات .  فكان أن ضمن له ذلك ولتنظيمة حقه الوطني المشروع في البقاء والنمو ،  وديناميكية الحركة ووسائل ومقومات القدرة على الإستمرار . وذلك على العكس من تنظيم الإخوان المسلمين الذي نشأ في السودان (بقيادة الرشيد الطاهر أبّـكَـر) على هدي التجربة المصرية المحضة ؛ فكان مصيره الزوال والفناء بسرعة ولسبب بسيط هو أن التربة والنسيج الإجتماعي السوداني لم يكونا صالحين له.

الشيء الملفت في الحلقة الأولى من برنامج شاهد على العصر أن مقدم البرنامج المصري الجنسية (أحمد منصور) دأب على نحو محموم في الإشارة إلى خيار السودان الإستقلال عن بريطانيا وعدم الإنضمام في وحدة إندماجية مع مصر . أو كأنه يرغب من ذلك إلى تجريم هذا الخيار السوداني الوطني.
وكان الرد الذي تمسك به الترابي هو أن المصري إنما كان يرغب في ممارسة السيادة من جانب واحد على السودان ؛ وليس الدخول في وحدة متكافئة معه.
نعم .. تظل مقولة الترابي جزءا من الحقيقة . ونضيف إليها أن كل مصري وأن كان يعتبر أرض مصر وطنه وبلاده وأن أهلها شعبه ... فإنه كان ولا يزال منغمسا في أوهام أن السودان وأهله ليسوا سوى ملكا من ممتلكاته الخاصة التابعة له  ورهن إشارته لتحقيق مصلحته.

والمضحك هي تلك النظرة المبسطة التي حاول بها المحاور أحمد منصور التطبيل بها ... وذلك عند زعمه أن مجرد حب السودانيين للواء المصري محمد نجيب كفيل بأن يدفعهم للإتحاد مع مصر ..... وربما لم يذهب أحمد منصور المصري بعيدا في هذا الإتجاه . وذلك من واقع أن المصري إنما يستلهم قناعاته وأفكاره السياسية دائما من داخل "تابوت الفرعون". مانح الحياة وربهم الأعلى الذي تنبع وتجري مياه النيل من بين أصابع يديه. ولا تشرق الشمس إلا لأجله .... ولا ترتفع في كبد السماء وتضحى ثم تميل وتغرب إلا بإذنه.

واقع الأمر فإن حب السودانيين لمحمد نجيب أو لغيره . لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يكون ذاك سببا لتكريس وحدة إندماجية يدرك كل سوداني أنها لن تكون مجدية  في ظل عقدة التفوق التي يعاني منها المصري تجاه السودان والسودانيين.
اللواء محمد نجيب
وطالما كان الشيء بالشيء يُـذكر؛ فإننا نذكر أحمد منصور المصري بأن اللواء محمد نجيب لم يكن سودانياً أو من أم سودانية ...... وإنما ولد في السودان من أب مصري وأم مصرية الجنسية سودانية النشأة ... وهذه الظاهرة للمواطن المصري السوداني النشأة . أو للمواطن السوداني المصري النشأة لا تزال إلى يومنا هذا موجودة وعلى حراك مستمر في السودان ومصر معاً . وتظل محل تقدير وترحيب لما تشهدة علاقة النسب والمصاهرة العميقة بين الشعبين الجارين من جوانب إيجابية إنسانية وعاطفية متقدة بعيداً عن الإعلام المصري الإستفزازي المُهاتر ؛ والأطماع والتجاذبات السياسية والملفات الأمنية البكماء.
 حفظ مجمد نجيب القرآن في الخلوة السودانية . وتلقى دراسته بكلية غوردون في الخرطوم . وانتقل بعدها إلى مصر والتحق بالكلية الحربية المصرية . وتخرج منها ضابطا في الجيش الملكي المصري .
وعندما حضر محمد نجيب لزيارة السودان في مارس عام 1954م في محاولة منه لإقناع الأحزاب السياسية والزعماء بعدم التصويت على تقرير المصير لمصلحة استقلال السودان وبقائه  دولة حـرة ذات سيادة . فإن الشاهد أن محمد نجيب قد أستقبله المواطنون بحفاوة . ولم يتعرض لمحاولة إغتيال . ولكن كانت رغبة الأغلبية الساحقة من أبناء السودان تمضي لمصلحة إستقلال البلاد وعدم الإتحاد مع مصر تحت أي مسمى .... فجاءت الوفود من كل حدب وصوب إلى العاصمة الخرطوم ليشهدوا إعلان تفاصيل تقرير المصير . ويحتفلوا بالمناسبة الوطنية الفريدة . وصادف ذلك تواجد محمد نجيب في الخرطوم.
ووفقا لذلك فإن قراءة وطنية لتاريخنا ترفض بالتالي الإتهامات التي يوجهها البعض للزعيم الوطني الراحل إسماعيل الأزهري بأنه إنما كان يدفع في إتجاه الإتحاد مع مصر .... ونرفض أيضا الفهم المغلوط لمسمى (الحزب الوطني الإتحادي) بزعامة إسماعيل الأزهري .. وتفسير البعض لكلمة "الإتحادي" على أنها ترمز إلى الوحدة مع مصر ..... وهو تفسير لا أساس له حتى مع المعنى العام لما تعنيه اللغة العربية هنا ... فكيف يكون حزبا ما "وطنيا" من جهة في لافتته .. ثم يكون مندمجا إتحاديا مع دولة أخرى أجنبية في نفس اللافتة؟
الزعيم الوطني إسماعيل الأزهري لحظة رفعه علم إستقلال السودان
واقع الأمر فقد كان إسماعيل الأزهري رحمه الله وجزاه عنا كل خير .. كان يرمي إلى الإشارة إلى إتحاد أبناء السودان بما يعبر عن توجههم الوطني.
كذلك حدثت المفارقة مع مسمى "حزب الأشقاء" الذي فسره البعض على أنه يشير إلى العلاقة بين الشعبين السوداني والمصري . في حين أن الإسم إنما أخذ إسمه من أن تأسيسه قد جرى على يد ثلاثة أشقاء من عائلة الفضلي.
والأطرف من كل هذا وذاك أن الصادق المهدي الذي يتهمه المصريون بأنه موالي لبريطانيا ومعادي للهيمنة المصرية بالوراثة .... الأطرف أنه لا يجلو له المقام إلا في مصر ..... وأما محمد عثمان الميرغني الذي يتهمه السودانيون بأنه موالي لمصر على حساب بريطانيا ؛ فلا يحلو له إلا الإقامة في لندن.

الواقع أنه لا يوجد سوداني لديه الرغبة في إثارة العداء مع مصر ... وكذلك ليست لديه الرغبة في وحدة إندماجية مع مصر .. وأن كل الأحزاب والعائلات والطوائف التي تظهر ميلاً مليودرامياً تجاه مصر ؛ إنما تفعل ذلك على سبيل المناورة السياسية والحصول على التمويل والدعم المالي من المخابرات المصرية .... والحكومات المصرية تدرك ذلك وتفهمه . ولكنها تترك الحبل على الغارب إدراكاً منها حاجتها لهذه الأحزاب والعائلات والطوائف كلما إستدعى الأمر إلى إستهلاك سياسي محلي.
محمد  إبراهيم أغا (محمد علي باشا)
وعلى هذا الدرب رأينا الترابي يغازل المصري يالزعم أن غزو وإحتلال محمد علي باشا للسودان عام 1821م لم يكن قراراً مصريا بقدر ما كان قرار صادر من بلاط الخلافة الإسلامية في الإستانة ..... والطريف أنه أخطأ فزين إسم محمد علي باشا برتبة اللواء .... ويبدو أن الترابي عاش يعاني من عقدة الرتب العسكرية وإنقلاباتهم شأنه شأن كل الساسة السودانيين. لم يكن محمد إبراهيم أغا القوللي (وهذا إسمه الحقيقي) لواءاً في الجيش العثماني الغازي لمصر . ولكنه كان جنديا عادياً خدمته الظروف العائلية حين تسلق على أكتاف خاله القائد العسكري في الحملة وتزوج لاحقاً إبنته ؛ فإنفتحت له الأبواب وترقى إلى رتبة اليوزباشي . ثم عرف كيف يصل إلى مستشاري الباب العالي بالهدايا والرشاوي وأحلى فتيات ونساء مصر . فكانت له في نهاية المطاف الولاية على المحروسة.


كنا نرجو أن يكون الترابي صادقاً في شهادته على العصر ... فنحن لسنا بصدد محاسبة مصر على غزوها السوداني وإنفرادها بإحتلاله حتى عام 1885م حيث لم تخرج منه إلا عنوة تحت سيوف المهدية ... ولكن التاريخ لا يعرف عند توثيقه المجاملات والغزل السياسي .. ويبقى الغرض من إجتراره وسرده دائما هو أخذ العبرة والعظة والإستفادة من التجربة ، وتفادي تكرار الكبوة ...... وحتى لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين.