السبت، 11 يناير 2014

بشارات مولد الحبيب المصطفى (حلقة2)


بشارات مولد الحبيب المصطفى

 

(الحلقة الثانية)

 

مصعب المشـرّف:-

 

ملخص الحلقة الأولى:

تطرقت الحلقة الآولى إلى الرؤية التي رآها الملك البمني "ربيعة اللخمي" وفسرها له  الكاهنان "شِق" و "سطيح" وتنبأ كل منهما منفرداً بما جرى عقب ذلك من أحداث عصفت بشبه جزيرة العرب وأحدثت تأثيرات جذرية على مسار التاريخ فيها ، وعلى العالم أجمع لاحقاً .

وكان من ضمن الأحداث الخاصة بشبه الجزيرة العربية غزو مملكة أكسوم الحبشية النصرانية لليمن. ثم تحرير اليمن من حكم أبرهة الحبشي على يد سيف بن ذي يزن (عقب عام الفيل 570م) بمساعدة الفرس ، ومولد أشرف الخلق قاطبة ونبي آخر الزمان وخاتم الرسل في عام الفيل (570م).

وفي ذات السياق تتناول هذه الحلقة قصة أخرى ضمن ما جرى توثيقه من بشارات مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي قصة الملك اليمني "تـُبـّـعْ أبِي كـَرِبْ القحطاني الحِميري".

 

قصـة الملك اليمني "تـُبّـع أبي كَرِبْ"

لاتوفر المصادر التاريخية زمان محدد بدقة لفترة حكم الملك "تـبع أبي كرب" .. ولكن تتفق على أنها كانت خلال القرن الخامس الميلادي ؛ قبل غزو مملكة أكسوم الحبشية لليمن وإحتلالها ، الذي بدأ عام 525م وإنتهى على الأرجح بعد عام 570م بفترة وجيزة . وهو التاريخ الذي وافق عام الفيل.

بعد وفاة الملك ربيعة الّلخمي عاد ملك اليمن إلى التتابعة من جديد. فمازالوا يتوارثونه حتى آل الملك إلى "تـُبـّعُ أبي كَرب". وقد كان تبع هذا ذو عقل راجح يزن الأمور بميزان العقل ويميل إلى "المُسايَسَة".

وحدث أنه جرى خلاف بينه وبين أهل يثرب (الأوس والخزرج) ومن جاورهم من اليهود على الجزية السنوية التي فرضها عليهم من التمر . وقد أدت هذه الخلافات إلى إقدامهم على قتل مندوبه إليهم المكلف بحصر الإنتاج وتحصيل الجزية . فسار إليهم الملك تُبّع في جيشه العرمرم . وقد عزم على تخريب يثرب وجعلها أثرا بعد عين. فتحصن الأوس والخزرج ودافعوا عن أرضهم (والأوس والخزرج من اليمن أصلا وهم من قبيلة حِمْيَر العاربة وهاجروا إلى يثرب بعد خراب سد مأرب) .

والطريف أن الأوس والخزرج وعلى الرغم من حصار الملك تبع لهم فقد كانوا يرون في تُبّع وجيشه رَحِمَاً وأهْل . ولأجل ذلك كانوا يحاربونه بالنهار ثم يرسلون إليه الضيافة من طعام وتمر وشراب في المساء . فأعجبه ذلك منهم ، فكان يقول فيهم :

  • (والله إن قومنا لكِرَام )
    أي أنه يعترف لهم بالقرابة  وصلة الرحم .
    وعندما تسامع أهل يثرب بمقولة الملك تبع هذه سارع حبران من أحبار يهود بني قريظة لإنتهاز الفرصة وتوظيفها لمصلحتهم . فخرجا إليه يطلبان مقابلته فأذن لهما فقالا له:

  • أيها الملك لا تحاول تخريب يثرب ...  فإنك إن أبيت إلاّ ما تريد حال الله بينك وبينها . ولم نأمن عليك عاجل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
    فقال لهما تبع: ولم ذلك؟
    قالا:
    - هي مُهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره.
    قيل فتأثر تبع بمقال الحبرين وراجع عقله ، ومال إليهما بعد أن وجد فيهما العلم والعقل الراجح المنتهل من التوراة ؛ فجعلهما من مستشاريه. وقبل المهادنة مع أهل يثرب.
    وقيل أن الملك تـبـع حين أراد العودة إلى بلاده ، أتى إليه وفد من قبيلة "هُـذَيـْل" يجرضونه على غزو مكة وهدم الكعبة قائلين له:
  • أيها الملك ، ألا ندلك على بيت مال دائر أغفلته الملوك قبلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟
    فقال تبع :
  • بلى.
    قالوا:
  • بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده.
    فـأعجب الملك تـبــع بالفكرة وطمع في الثروة . ولكنه آثر أن يتروّى ويتبع الحكمة . فأرسل إلى الحبرين اليهوديين يستدعيهما ويستشيرهما فقال له أحدهما وإسمه "شامول":
  • إنما أراد هؤلاء هلاكك وهلاك جندك لما عرفوا من هلاك من أراد هذا البيت من الملوك بسوء . وما نعلم بيتاً لله عز وجل اتخذه في الأرض لنفسه غيره ، ولئن فعلت ما دعاك إليه الهذليون لتهلكنّ وليهلكنّ من معك جميعا.
    فقال لهما تبع:
  • فماذا تأمراني أن اصنع إذا أنا قدمت عليه؟
    قالا:
  • تصنع عنده ما يصنع أهله ، تطوف به وتعظمه وتكرمه ، وتحلق رأسك عنده وتتذلّل له حتى تخرج من عنده.
    قال تبع:
  • وهل تفعلان أنتما ذلك؟
    أجابا:
  • لا نفعل.
    قيل وكان الملكُ تـُبـّـعُ سريع البديهة لمّاحـاً حصيفاً ذكياً فقال لهما:
  •  فما يمنعكما أنتما من ذلك؟
    قالا:
  • أما والله إنه لبيت ابينا إبراهيم عليه السلام ، وإنه لكما أخبرناك ، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يهريقون عنده ، وهم نجس أهل شرك.
    فاقتنع تبع بمقالهما وسكت عنهما . ثم عاقب وفد هُذَيْل بأن قطع أيديهم وأرجلهم . وقصد البيت الحرام فطاف ونحر وحلق وأقام بمكة ستة أيام ينحر للناس ويطعم ويسقيهم العسل ، فرأى أثناء منامه في مكة أنه يؤمر بأن يكسو الكعبة المشرفة . ففعل وكساها ثياب يمنية مخططة موصول بعضها ببعض يقال لها (المُلا والوصائل) . وأمر بتطهير البيت الحرام . وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا محايض وجعل له بابا ومفتاحا . وكان ذلك على عهد ملوك مكة من قبيلة جرهم (أخوال بني إسماعيل عليه السلام).
    وحين عاد تبع إلى اليمن اصطحب معه الحبرين اليهوديين وآمن بالتوراة لاحقاً . فدخل العديد من عرب اليمن في زمرة اليهودية ولا يزال منهم بقية حتى الآن هناك . وهذا هو سبب دخول اليهودية اليمن ؛ فهم في الأصل عرب ، وبما يؤكد الفرق بين (اليهود) من جهة وبين (بني إسرائيل) من جهة أخرى لجهة مرجعية النسب والإنتماء العرقي الواحد المزعومة ، وحيث التبس الأمر على الكثيرين في هذا الزمان فخلطوا بين الاثنين ..... فإذا كان كل يهودي هو  من بني إسرائيل عليه السلام (يعقوب) فماذا يقولون في يهود اليمن العرب العاربة من نسل حمير وقحطان ؟ لا بل وماذا يقولون في الفلاشا الحاميين؟ هل هم من بني إسرائيل الساميين؟ .. بالطبع لا... وتظل الحقيقة الناصعة أنه لا يشترط أن يكون كل يهودي منحدر في الأصل من صُلب أو أرحام أبناء إسرائيل عليه السلام..... وبالتالي تظل "سامية" اليهود (على علاتهم) محض هــراء وكذب بائن.
    .......
    وعلى أية حال نترك شذاذ الآفاق اليهود ومزاعم الصهاينة الراهنة جانباً . ونعود مرة أخرى لصلب الموضوع لنبرز بشارة الملك سيف بن ذي يزن بمولد المصطفى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم. والتي أسـرّ بها لجدّه عبد المطلب بن هاشم .
    ..........
    بشارة سيف بن ذي يَـزَن الحِمْيَري:
    وأشير هنا إلى أنه وعلى الرغم من أن الترتيب والسياق الزمني لبشارة الملك سيف بن يزن كانت بعد مولد ومبعث أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم بسنتين .... فقد إقتضى الحرص على تماسك الموضوع في هذه الحلقات أن يتم إيراد هذه البشارة في هذه الحلقة على إعتبار أنها بشارة من بشارات مولده صلى الله عليه وسلم ؛ رغم أنه كان قد ولد فعلاً وربما كان عمره وقتها سنتين.
    بعد أن قضى سيف بن ذي يزن الحميري على دولة الحبشة في اليمن وإستعادته ملك اجداده . توافد العرب من كل القبائل إلى قصره (قصر غمدان) لمقابلته للتهنئة والمؤازرة.
    وكان فيمن أتاه وفد قبيلة قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم ، وصحبه من سادات قريش كلٌ من أمية بن عبد شمس ، و خويلد بن اسد . وجاء معهم عدد غير قليل من وجهاء قريش وأثرياءها . فاستأذنوا بالدخول فسمح لهم . وقدّم وفد قريش زعيمهم عبد المطلب بن هاشم ليتحدث نيابة عنهم . فابتدره الملك سيف بن ذي يزن بقوله:
  • إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنـّا لك.
    فتحدث عبد المطلب وأثنى عليه ومدحه وهنأه بإعادته ملك اسلافه. وعرّفه بأنهم أهل الحرم المكي الشريف . وقد قدموا وفداً للتهنئة.
    فقال له الملك سيف:
  • وأيّهُم أنت أيها المتكلم؟
    أجاب :
  • أنا عبد المطلب بن هاشم .
    فاستدرك الملك متسائلاً:
  • إبن أختنا ؟
    فأجاب عبد المطلب بإقتضاب الواثق:
  • بَـلَــىَ.
    فقال الملك :
  • أدْنُ مِنِّي.
    وهي عبارة يطلقها الملوك إذا أرادوا تقريب شخص إليهم وبما يعني الرضا عنه وترفيع شأنه المعنوي . ومن ثم قرّبه إليه واجلسه إلى جانبه . وأقبل عليه وعلى وفد قريش  بوجهه يؤانسهم  ويخاطبهم . ثم أمر بإنزالهم في دور الضيافة الملوكية الفخمة . وظلوا مقيمين بها شهراً  كاملاً تأتي إليهم مخصصاتهم من الأكل والشراب ويقوم على خدمتهم خواص الملك وخدمه.
    وبعد مضي الشهر إستدعى الملك سيف بن ذي يزن عبد المطلب بن هاشم إليه . وجلس معه وحده دون أحد آخر وقال له:
  • يا عبد المطلب إني مُفْضٍ إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم ابح به . ولكني رايتك معدنه فأطلعتك عليه ، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه ، فإن الله بالغ أمره . إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزنّاه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً ، وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاء للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة.
    فقال عبد المطلب:
  • أيها الملك مثلك سَرّ  وبَرّ ، فما هو ، فداؤك اهل الوبر زمرا بعد زمر ؟
    قال الملك:
  • إذا وُلِدَ بـتهامة ، غلام به علامة ، وبين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
    قال عبد المطلبك:
    - أبيت اللعن ؛ لقد أبنت بخير ما آب به وافد ، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته إياي ما أزدادُ به سروراً. (يقصد بطريقة دبلوماسية ذكية أن يطلب من الملك الإيضاح أكثر )
    فقال الملك سيف بن ذي يزن يوضح له أكثر :
  • هذا حينهُ الذي يُولد فيه أو قد ولد ، وإسمه محمد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمّه . ولدناه مرارا والله باعثه جهاراً ، وجاعل له منا أنصاراً (يعني الأوس والخزرج لأن أصولهم من اليمن) ، يعزُّ بهم  أولياءه ويذلّ بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يكسر الأوثان ويخمد النيران ، يعبد الرحمن ويدحر  الشيطان ، قوله فَصْل ، وحُكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله.
     فقال عبد المطلب :
    - أيها الملك عزّ جدّك ، وعلا كعبك ، ودام ملكك ، وطال عمرك ، فهل الملك سارٌ لي بإفصاح ؛ فقد أوضَحَ لي بعض الإيضاح ؟
    فقال الملك:
  • والبيت ذي الحجب والعلامات على النُّصُب إنك يا عبد المطلب لجدُّه غير كذب.  
    فلم يتمالك عبد المطلب نفسه فخــرّ ساجداً يحمد ربــّه .
    فقال له الملك بن ذي يزن:
  • أرفع رأسك ثـَلِجَ صدرُك ، وعلا امرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟
    أجاب عبد المطلب:
  • أيها الملك كان لي إبن وكنت به معجباً وعليه رفيقا ، فزوجته كريمة من كرائم قومه إسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته محمداً ، فمات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه (يقصد ابا طالب) الذي كان شقيق عبد الله.
    فقال له الملك:
  • إن الذي قلت لك كما قلت ، فاحتفظ بإبنك واحذر عليه اليهود فإنهم له اعداء ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا ، وأطْوِ ماذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك ، فإني لست آمن من ان تدخلهم النفاسة (الحسد والغيرة) من أن تكون لكم الرئاسة ، فيطلبون له الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، فهم فاعلون أو أبناؤهم  ، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورَجِلي حتى أصير بيثرب دار مملكته ، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب استحكام أمره وأهل نصرته وموضع قبره ، ولولا أني أقيه الآفات واحذر عليه العاهات لأعلنت على جداثة سنه أمره ولأوطأت أسنان العرب عَقِبَه ، ولكني صارفٌ ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك.
    وبذلك إنتهت المقابلة التي جرت بين الملك سيف بن ذي يزن وبين عبد المطلب . وظل عبد المطلب كاتماً لأسرار هذه المقابلة . فلم ييبوح بها إلاّ لإبنه "أبو طالب" قبيل وفاته وأوصاه بإبن شقيقه خيراً.
    وعند أوان رحيل وفد قريش أكرم الملك سيف بن ذي  يزن وفادتهم فأمر لكل رجل منهم بعشرة من العبيد وعشرة من الإماء وبمائة من الإبل وحُـلـّتـَيْنِ من البُرودِ (ملابس) . وبخمسة ارطال من الذهب وعشرة أرطال فضة وجراب مملوء عنبراً. ثم أمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ما منحة للرجل الواحد من الوفد . وقال له: إذا حال الحول (يعني بعد عام) فائتني ، ولكن سيف بن ذي يزن مات قبل أن يحول الحُـول.
    وعندما كانت قريش تحقد على عبد المطلب في كمية الهدايا التي تلقاها من الملك سيف بن ذي يزن وقدرها مائة عبد ومائة أمة وألف من الإبل وعشرون حلة من البرود وخمسين رطلا من الذهب وخمسين رطلا من الفضة وعشرة أجربة مملوءة عنبرا ، كان عبد المطلب يقول للملأ من قريش: لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ ، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي ذكره وفخره وشرفه.
    فكانوا إذا قالوا له: ومتى ذلك؟ .. يرد عليهم بقوله: سَيـُعْلم ولو بعد حين.
    (يتبع الحلقة الثالثة)