الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

تأشيرة دخول البشير للولايات المتحدة ... لدينا حـلـم


تأشيرة دخول البشير للولايات المتحدة .. لدينا حــلم

مصعب المشــرّف:

 
جاء ضمن أخبار يوم الإثنين 16/9 أن وزارة الخارجية الأمريكية قد أعلنت على لسان المتحدثة بإسمها "ماري هارف" ما يفيد بأن واشنطون قد تلقت طلب من الرئيس السوداني عمر البشير الحصول على تأشيرة دخول الولايات المتحدة لغرض حضور إفتتاح أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقرها الكائن بمدينة نيويورك ....... وأضافت السيدة "ماري هارف" أن وزارة الخارجية الأمريكية تندد بأي محاولة من جانب البشير للمضي في طلب التأشيرة . ومنوهة بأنه يتعين عليه عدم دخول الولايات المتحدة لأنه متهم بجرائم حرب . وأنه بدلا من المجيء إلى نيويورك يتوجب عليه تسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التي أعدت لائحة إتهام بحقه. ...... ولكن على الرغم من هذه التحذيرات المبطنة فإن المتحدثة الرسمية بإسم وزارة الخارجية الأمريكية لم تؤكد أو تنفي ما إذا كان الرئيس البشير سيحصل على تأشيرة دخول الولايات المتحدة أم لا.

أغلب الظن أن الولايات المتحدة ستمضي قدما في منح الرئيس البشير تأشيرة دخول للولايات المتحدة من واقع إلتزامها الموضوعي تجاه ما يتعلق بتسهيل أعمال هيئة الأمم المتحدة بوجه عام فيما يتعلق بمنح التأشيرات للزيارة والإقامة.
 
 
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل ستقوم الولايات المتحدة بالتحفظ على عمر البشير بعد إنتهاء مشاركته إفتتاح أعمال الجمعية العامة تمهيداً لتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية التي تلاحقه بتهمة إرتكاب جرائم حرب أم لا؟

واقع الأمر أن السيدة "ماري هارف " كانت واضحة في تحديد التصرف الذي ستتخذه الولايات المتحدة في حالة دخول البشير أراضيها وذلك عند قولها: "أنه يتعين على عمر البشير عدم القيام بهذه الرحلة ، لأنه متهم بجرائم حرب".

من جهة أخرى لايبدو الرئيس البشير جاداً في السفر إلى نيويورك .. ولكن ربما يحاول بطلبه تأشيرة الدخول إحراج حكومة الولايات المتحدة في حالة رفضها منحه لها الأمر الذي يتعارض مع إستضافتها لمقر الهيئة العامة للأمم المتحدة.

والمتوقع أنه في حالة إصرار عمر البشير على القيام بهذه الرحلة إلى الولايات المتحدة . فإنه حتما ستصادفه العديد من العقبات والمطبات والمحاذير في طريق رحلته التي ستكون الطائرة مجبرة فيها على المرور بأجواء العديد من الدول الغربية المتحفزة لتسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية .... وأن الطائرة حتما ستهبط في بعض المطارت للتزود بالوقود وهي في طريقها إلى نيويورك .. وهو ما قد ينذر إما بإجبار الطائرة على الهبوط في احد المطارات الأوروبية أو التحفظ عليها ومنعها من الإقلاع ، تمهيداً للتحفظ على البشير وتسليمه لمقر المحكمة الجنائية الدولية التي تتحرق شوقا ولهفة إليه بعد أن تقطعت أنفاسها في ملاحقته خلال رحلاته القصيرة إلى دول أفريقية وآسيوية لا تزال تعتبر نفسها ضمن منظومة دول العالم الثالث وعدم الإنحياز . ولا ترغب في التدخل بهذا الشأن حفاظا على علاقاتها التاريخية والإقليمية مع السودان ؛ ومسئوليتها المعنوية تجاه صيانة كرامة الشعب السوداني الممثلة في رئيسه "الشرعي" رضي من رضـي وأبى من أبى .... وحتى تاريخ لاحق.

ولكن من جانب آخر . فإن هذا الموقف الذي أعلنت عنه الخارجية الأمريكية ينبغي أن يكون درسا "خصوصياً" للخارجية السودانية من جهة وأفندية القصر الجمهوري من جهة أخرى ..... وأنه بات عليهم الآن عدم المضي في إطلاق زغاريد الفرح وتفسير أحلام اليقظة بأن الولايات المتحدة في طريقها للرضا عن النظام القائم ورفع العقوبات عن السودان ....

البعض من محترفي الدبلوماسية السودانيين يشتكون من أن الوزراء الذين تعاقبوا على الخارجية السودانية خلال عهد الإنقاذ الماثل ، ينطلقون في أمور دبلوماسية متعلقة بإنشاء قنوات الإتصال مع قيادات ومفاتيح إتخاذ القرار في دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة وكأنّ هذه القيادات والحكومات في تلك الدول الديمقراطية العريقة تتخذ قراراتها بالمزاج الفردي بعيدا عن المؤسساتية ، وشبيهاً بما هو عليه الحال في السودان وعامة الدول الأفريقية والعربية التي تصدر القرارات وتتعدل الدساتير والقوانين والأحكام فيها بمجرد جرة قلم أو حسب مزاج الرئيس والوزير .

كذلك يسخر هؤلاء الدبلوماسيون المحترفون من الضغوط التي تمارسها عليهم وزارة الخارجية في الخرطوم بضرورة السعي للمقابلة والحديث المباشر مع وزير الخارجية أو أي وزير مختص في حكومات تلك الدول الغربية المؤثرة لحلحلة المشاكل العالقة ... وأن وزارة الخارجية السودانية تتبرم وتبدي عدم رضاها عندما تأتيها تقارير من بعثاتها الدبلوماسية في نيويورك مثلاً بأنها قد حددت موعدا (بعد شهر) للقاء مساعد سكرتير رئيس قسم الشئون الأفريقية في الخارجية الأمريكية (بجلالة قدره) ، لإبداء بعض الملاحظات وطرح وجهات النظر والسعي لإيجاد حلول يتم وضعها على الورق في طاولة الوزير ..

وحينها يكون رد الخارجية السودانية دائما هو:-

-    مساعد سكرتير رئيس قسم الشئون الأفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية ده شنو؟ .. ياخي دايرنكم تمشوا تقابلوا الوزير شخصيا وتنهوا معاهو الموضوع .... إنتوا الظاهر عليكم ما شايفين شغلكم كويس...    

لقد جاء تصريح المتحدثة الرسمية بإسم وزارة الخارجية الأمريكية بشأن طلب البشير تأشيرة دخول لزيارة مقر الأمم المتحدة من جهة أخرى لطمة قوية في وجه الخارجية السودانية التي كان وزيرها "علي كرتي" قد صرح قبل أيام وبمناسبة تعيين واشنطون لمبعوث أمريكي جديد للخرطوم وجوبا (دونالد بوث) .. كان قد صرح بأن هذا التعيين يأتي مقدمة مبشرة بقرب توقيت رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب لدى الولايات المتحدة وبحسب تقييمها.

والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا بمواجهة مقولات علي كرتي هو :

كيف يعقل أن ترفع الولايات المتحدة إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في الوقت الذي يظل فيه رئيس جمهورية السودان مطلوب للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية هو ومسئولين سودانيين آخرين بتهم تتعلق بجرائم الحرب .... وبغض النظر عن صحة وكيدية هذه الإتهامات فإن الواقع أنها أحكام قضائية صدرت بناء على طلبات نيابة مكلفة من قبل المحكمة الجنائية الدولية .... وبما معناه أنها مستحيلة التعديل ناهيك عن الإلغاء .

في بلدان العالم الثالث يكون معتاداً أن يلغي الرئيس الأحكام القضائية متى ما رغب ذلك ... وبإمكان الوزير تجاوز تنفيذ هذه القرارات والأحكام متى ما اقتضى ذلك .... وبإمكان الرئيس والوزير تجاوز البرلمان في كافة الظروف والأوقات .... ولكن الأمر يختلف في دول الغرب الأوروبي والولايات المتحدة .

أغلب الظن أن وزارة الخارجية السودانية تدرك إستحالة رفع إسم السودان من القائمة لأمريكية للدول الراعية للإرهاب قبل أن يمثل البشير ومسئولين آخرين أمام المحكمة الجنائية الدولية ، ويتم الحكم نهائيا في الدعاوى الموجهة إليهم بشأن إرتكاب جرائم حرب .... وألكنها (الخارجية السودانية) تحاول إدعاء عدم الفهم وترغب بين كل حين وآخر الخروج بمثل تصريحات علي كرتي المتفائلة لمجرد الإستهلاك المحلي..... وظنا منها بأن الشعب السوداني غشيم وأمي ولايعرف القراءة والكتابة أو التفكير والتحليل . ولم يسمع من قبل بشيء إسمه المنطق وإعمال العقل.

وربما كان التصريح الذي خرج علينا به الوزير علي كرتي بشأن قرب رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب .. ربما كان ذلك توطئة وتمهيد لتنازل الخرطوم عن مزيد من حقوق السودان في أبيي خوفا من بأس واشنطون.

سلسلة إخفاقات وزارة الخارجية على عهد الإنقاذ لم تكن في يوم من الأيام محل شك أو غائبة عن وعي عامة الشعب السوداني .... بل نرى فيها أحياناً الكثير من المضحك المبكي ؛ وليس اقلها تعيين شخص جنوبي وزيراً لها بعد توقيع إتفاقية سلام نيفاشا ؛ على ظن مسطح بأن هذا الجنوبي قادر على فتح قنوات إتصال مع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية لا لشيء سوى أنه مسيحي وعنصر من عناصر الحركة الشعبية لتحرير السودان ...

ثم والذي يلفت النظر أن كل وزير أتى بعد صدور قرار المحكمة الجنائية بلائحة إتهامات مدعيها للرئيس البشير وغيره من مسئولين حكوميين .. نلحظ أن الوزير يخرج ويدخل ولا هم له سوى أنه يسعى ويشقى لأجل إلغاء طلب المحكمة الجنائية الدولية بمثول الرئيس البشير أمامها وبرفع إسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.
 
 
هذه مضيعة للوقت والجهد وتعطي إنطباعاً بأن وزراء خارجيتنا لايفهمون كيف تجري الأمور في الغرب .... وكيف أن المؤسساتية وسيادة القانون والشفافية هي التي تحكم كل قراراته .... وأن رفع إسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب يقتضي أول ما يقتضي إقناع الناخب الأمريكي بذلك وليس الرئيس أوباما أو وزير خارجيته أو الكونغرس ومجلس النواب ..... ربما لايتوقف المواطن الأمريكي الناخب كثيراً أمام تفاصيل مثل هكذا موقف .. ولكن الذي يجب أن تقتنع به الخارجية السودانية وتعيه أن هناك جماعات ضغط وإتحادات طلاب وجمعيات حقوق إنسان في الولايات المتحدة  تهتم بمثل هذه التفاصيل ، وتضعها على أولويات برامجها السياسية المتعلقة بإنتخاب أعضاء الكونغرس ومجلس النواب وحتى المجالس المحلية وإنتخابات عمدة المدينة وحاكم الولاية ..... وعلى هذا النحو يتم تصعيد المواقف من القضايا العالمية حتى يتم ترجمتها إلى قرارات من جانب السلطات التنفيذية.

 
وفي دولة هي الأعظم والأقوى على نطاق العالم . فإن منهج وإسلوب الإداري والمسئول الأمريكي في تسيير الدولة والولاية والمحلية وحتى شركات المساهمة العامة المتعددة الجنسية ..... فإن القرارات التي يتخذها هؤلاء الكبار ليست في الواقع إلا حصيلة نهائية ختامية لقرارات القواعد التي يرى المسئول الأمريكي في أعلى الهرم التنفيذي والإداري أنها ملتصقة مباشرة بالمشكلة وأقدر على توصيفها والتوصية بإتخاذ القرار المناسب بشأنها ؛ ويكون الهم الأكبر لدى كبار المسئولين هو التنسيق وإعلان القرار الذي يأتي إلى طاولته دائما على هيئة توصية ومشروع قرار ....... ولأجل ذلك فإن الإستخفاف بأهمية مساعد سكرتير رئيس قسم الشئون الأفريقية في وزارة الخارجية أو موظف عادي في هذه السكرتارية ليس من الحصافة بمكان ....

ويبقى بعد كل هذا أن تعي الرئاسة أنه لا حاجة لها للهرولة والركض خلف السراب . والتسرع في تقديم التنازلات على قدم وساق في منظومة الصراع الداخلي الدائر الآن على أكثر من جبهة .... وعليها أن تدرك أيضاً أن مثل هكذا تنازلات يجب أن تكون بناء على تنازلات يقدمها الطرف الآخر في الصرع وليس مجرد إكراميات مجانية لإرضاء الولايات المتحدة التي لن ترضى ... والأهم من كل ذلك الوعي بأن الحلول "المسلوقة" التي تسعى إلى فرضها الحكومات الأمريكية على أطراف الصراع في الخارج إنما تسعى من خلالها إلى إرضاء جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني في الداخل الأمريكي أكثر منها سعياً جاداً لأجل إيجاد حلول جذرية للمشاكل ....  والخطأ المفصلي الذي نرتكبه نحن هو مجاراتها في هذا التوجه الذي يرضيها ولا يصلح لنا وبقدر ما يفاقم من حجم المشكلة.

وفي كل الأحوال يؤسفنا القناعة بأن الإتهامات التي تسوقها المحكمة الجنائية الدولية في حق الرئيس البشير قد تم تسييسها لإبتزازه وتهديده في كل موقف تفاوضي وقرار سياسي ترغب الولايات المتحدة في فرضه على السودان حاضره ومستقبله بأجمعه .. ويتلخص هذا الإبتزاز الشخصي للرئيس البشير بأنه في حالة عدم رضوحه فإن الولايات المتحدة ستذهب لتفعيل (المـادة 42 ) من الفصل السابع الخاص بالعقوبات الصادرة من الأمم المتحدة ؛ والتي تبيح وتشرعن  "إستخدام القوة" لإلقاء القبض على البشير وتسليمه عنوة للمحكمة الجنائية في لاهاي.