الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

تداعيات فتح مكتب للحركة الشعبية في القاهرة


تداعيات فتح مكتب للحركة الشعبية في القاهرة

مصعب المشـرّف:-



من اليمين لليسار ياسر عرمان .. مالك عقار .. علي الحلو (ثلاثي الحركة الشعبية)
 
حسب إعتقادي المتواضع ؛ فإنه ومن بين كل حركات التمرد الجهوية الماثلة الآن ؛ تطل علينا "الحركة الشعبية قطاع الشمال" بوصفها الأخطر والأكثر جدية من بين غيرها من حركات والأقدر على إزعاج نظام الحكم في الخرطوم . وذلك لعدة اسباب أهمها ما يتوفر لدى قيادات وكوادر هذه الحركة من خبرات سابقة في مجال العمل السياسي والإداري ، والتجييش والتعبئة الداخلية والإتصال الخارجي . إكتسبوها خلال مشاركتهم وتفاعلهم داخل ما كان يسمى بالحركة الشعبية لتحرير السودان (تمرد جون قرنق) ...... هذا بالإضافة إلى أن الذراع العسكري لهذه الحركة (قطاع الشمال) لايزال تحت القيادة المباشرة لرئيس الحركة (عقار)  ونائبه  (الحلو) ؛ وبالتالي ظل هذا الجناح العسكري حتى الآن منضبطاً ومحافظاً على الخط العام لجهة الإنضباط وتوجيه نيرانه نحو صدر الحكومة وحدها ؛ على العكس من الحركات الجهوية المتمردة الأخرى وأهمها "الجبهة الثورية" التي تعاني العنصرية للقبيلة والعرق وتتصرف بضيق أفق ، وتتخبط كـتخبط الناقة عشواء . فقد تجاوزت في صراعها ضد الحكومة كل الأعراف والقيم والأخلاق السودانية المتوارثة . وعمدت إلى إرتكاب مجازر وتصفيات عرقية ممنهجة ضد المواطنين المدنيين لغرض التشفي وبث الرعب الأمر الذي أفقدها التعاطف . ثم وتخريبها المتعمد الغير مبرر لمكتسبات الشعب من بنيات أساسية ومؤسسات إقتصادية يظل الخاسر الوحيد فيها هو الشعب السوداني وليس حكومة الإنقاذ...... أو كأني بهذه الحركة الثورية تتعامل وفق قناعات جحـا المتمثلة في "الإمسـاك بالبردعة وترك الحمار".

من جهة أخرى فلا أحد يستطيع الجزم بأن الوقت يمضي لمصلحة حكومة الخرطوم أم لحركات التمرد عامة والحركة الشعبية قطاع الشمال خاصة........ ولكن كل يوم يمضي يؤكد أن هناك قنوات إتصال وأساليب وأسلحة جديدة نجد طريقها إلى ميادين  الصراع ، وأن هناك مزودون جدد ومتآمرون جدد يتدخلون من الخارج لمصلحة هذا الفصيل وذاك ؛ وتلك الحركة بغض النظر عن الخسائر الإستراتيجية للسودان .

وبعد إنقلاب السيسي في مصر ، وعلى ضوء إحتمالات مؤكدة بترشيح فلول حسني مبارك للسيسي لرئاسة الجمهورية ... وفوز السيسي السهل بالطبع ؛ فإن على حكومة الخرطوم تعديل أوضاعها منذ الآن من واقع القناعة بأن التوجه نحو الجامعة العربية وكل ماهو عربي لحل المشاكل السياسية السودانية سيكون مجرد إضاعة للوقت ؛ ولن يؤدي سوى لتفاقم الأوضاع المتردية اصلاً في كافة الجهات التي تشهد تمرداً مسلحاً أو تستنفر أبناءها لإحداث تمرد.
وطالما أنه لاتوجد لدى الأطراف العربية حسنة النية آليات سياسية أو عسكرية لوضع إتفاقيات الحكومة السودانية مع الحركات المسلحة موضع التنفيذ ؛ فلا حاجة إذن للتعويل المطلق عليها وتبذير الآمال والتصريحات في قدرتها على الصمود لمدة 24 ساعة.

والشاهد أن العرب منقسمون على أنفسهم ، تتسم مواقفهم بالإنفعالية وليدة اللحظة وكلام الليل عندهم جـرّة قـلـم رصاص يمحوهـا النهار بإسـتيـكـة .... يتعاملون مع بعضهم على أرضية كيدية وتصفية حسابات تكتيكية ضيقة لاتمت إلى العقلانية والإستراتيجيات بصلة ... تسود الغيرة من نجاح بعضهم فيما بينهم .... ويهدمون في سبيل ذلك كل بناء ويقتلعون كل شجرة مثمرة وخضراء من جذورها ؛ بلا وعي ودون تفكير في أن الدائرة ستدور عليهم ولكن مع فارق التوقيت لا غير .... فمن كان يصدق أن الذي كان يضحك في دمشق منتشياً على مصير صدام حسين يبكي اليوم على حاله ويرتعش من إحتمالات مؤكدة بمواجهة نفس المصير؟ .... وقس على ذلك كل من كان يعاير السودان والصومال من الخليج إلى المحيط.   

ولعل أكبر مؤشر على حماقة العرب وتكتيكهم الإنفعالي "الكيدي" وليد اللحظة في مجال الموقف والقرار السياسي ؛ هو سماح حكومة إنقلاب السيسي "الإنتقالية" مؤخراً ؛ وما بين عشية وضحاها بفتح مكتب للحركة الشعبية قطاع الشمال في القاهرة ، ضاربين بإحتجاجات حكومة الخرطوم عرض الحائط لمجرد أنها تتبنى النموذج الإسلامي (ولو نظرياً) .... ودون إعتبار لما قد يؤدي إليه ذلك مستقبلاً من إستنساخ لتجربة إنفصال جنوب السودان بعد أن إستقبلت القاهرة جون قرنق بالدفوف والزغاريد والعشرة بلدي على عهد حسني مبارك ؛ نكاية في حسن لترابي وحكومة الخرطوم التي وقفت إلى جانب العراق خلال غزوها للكويت . وسمحت مصر لجون قرنق بفتح مكتب للحركة الشعبية لتحرير السودان في القاهرة ، وإمتلاك حسابات مصرفية لتلقي أموال الإعانات الدولارية السخية من بعض الدول العربية الثرية ؛ دون إعتبار لأية خسائر إستراتيجية مصرية محتملة في مجال الحفاظ على مفاتيح إحكام السيطرة على تدفق حصتها من مياه نهر النيل في الحاضر والمستقبل.... ولا ندري من كانت تعاقب القاهرة وقتها؟ ..... هل كانت تعاقب الخرطوم أم تعاقب نفسها؟
  
 
وقد حدث لاحقاً ما كان متوقعاً .. ذلك أن مصر وبعد أن كانت تفاوض وتحاور وتلاعب وتسترضي وتتوسل (9) دول أعضاء في حوض نهر النيل لصيانة حصة الأسد التي إستفردت بها لعقود ،،،،،،  أصبح عليها بعد إنفصال الجنوب مفاوضة وإسترضاء (10) دول ...... وذلـك الخطأ الإستراتيجي قد يتكرر إذا إنفصل إقليم جنوب كردفان والنيل الأزرق . مما يعني أن تصبح دول حوص النيل (12) دولة .... جميعها (ما عدا السودان) على أحـرّ من الجمر والإستعداد لعقد إتفاقيات شراكة إقتصادية وعسكرية إستراتيجية مع إسرائيل ...... وسيكون مــد إسرائيل بحصة "أسـد" من مياء نهر النيل لتحويل صحراء النقب إلى فردوس أرضي وجذب المزيد من قطعان المستوطنين الأشكيناز والسفرديم ، وأحباشهم الفلاشا ... سيكون هذا الإمداد المائي من "سليل الفراديس" أهم بنود هذه الشراكة المرتقبة التي سيتم فرضها على مصر بشروط مجحفة طالما ظلت بعيدة عن السودان ؛ أو دأبـت تمارس في حقه عقدة التفوق وسياسات اللعب بالكبريت . ولي الذراع ، ومكايدات الجـار الجـنـب الحمقاء.

وعلى واقع خروج مصر عسكريا من قدرات المواجهة مع إسرائيل نظراً للتفاوت الفلكي بين الجانبين في العديد من المجالات أهمها التفوق العسكري والتكنولوجي وفي الجانب المؤسساتي والتفكير والتفاعل الإستراتيجي الثابت أو طويل الأمد.
ســد الألفية الأثيوبي ستعقبه سدود أخرى لحجز حصة إسرائيل

وفي ظـل تحالف إسرائيل الإستراتيجي مع الولايات المتحدة ... وعلى واقع تدهور الإقتصاد المصري إلى درجة أصبح فيها عالة على دول الخليج والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي . ثم وفي ظل حالة عدم الإستقرار السياسي والأمني التي تعيشها مصر منذ إنقلاب السيسي في 3 يوليو 2013م .... فإن حاصل جمع كل هذا وضربه وقسمته على بعضه سيكون الأمر المحتوم هو خروج مصر (بالمزيكة) الآن وحتى تاريخ لاحق من لعبة إحكام السيطرة على مياه نهر النيل وفرض إرادتها على دول الحوض منفردة كانت أو مجتمعة .. وسيتم إجبارها على تمرير ماء النيل لإسرائيل كثمن لحصولها على حصة لن تكون مرضية وكافية لها باية حال من الأحوال مقارنة بما تحصل عليه حالياً.
 
وفي جانب خسائر نظام الإنقاذ ؛ فإن حصول الحركة الشعبية قطاع الشمال على مكتب سياسي في القاهرة يعني نقلة نوعية حقيقية لطبيعة الصراع الدائر بينهما ...... فهو يعني أول ما يعني حصول الحركة الشعبية على فرصة للإتصال والتواصل بسهولة ويسر مع كافة السفارات والبعثات الدبلوماسية ، والمنظمات الدولية والعربية ، ووكالات الأنباء العربية والعالمية التي تمتلك مكاتب تمثيلية لها في القاهرة .... ويعني إتاحة فرص ذهبية لها للتعرف والتودد وعرض وجهات النظر ، وكسب تعاطف وتأييد العديد من ممثلي هذه الوكالات والسفارات الأجنبية ...... وبشكل عام ستتمكن الحركة الشعبية قطاع الشمال من الإنفتاح على العالم أجمع وهي جالسة على مكتبها في القاهرة ؛ وبأقل التكاليف المتعلقة بجوانب السفر بين العواصم العالمية ، والإنتقال والإقامة والحصول على تأشيرات الدخول .... ثم ورعاية منسوبيها ، والحصول على التمويل والتبرعات والإعانات ، وتحويل الأموال لتغطية نفقات ومصاريف ورواتب وأجور كوادرها ودوائر علاقاتها العامة والإعلامية وجواسيسها وعملائها وحملة اقلامها .... إلخ إلخ مما لايعد ولا يحصى من فوائد جمة قد لا تكون حكومة الخرطوم منتبهة إليها في هذه المرحلة.
 
إن أكثر ما يثير القلق أن الحركة الشعبية قطاع الشمال تعمل وحدها بعيداً عن أية تحالفات سياسية مع الأحزاب السودانية الصالحة لحكم البلاد .... كما أنها إلى حد كبير لا تزال تتسم بالجهوية وعدم التواجد والإنتشار والتغلغل في حنايا النسيج الإجتماعي القومي الممثل لقوام وعامة الشعب السوداني عند مقارنة حالها بحال أحزاب مثل الأمة والإتحادي والشيوعي والمؤتمرين الوطني والشعبي ... وغيرهم من شظايا هذه الأحزاب القومية التقليدية وحتى أحزاب الشخص الواحد ..... وهنا تكمن الخطورة والتوقعات بأن لا مجال للحركة الشعبية مستقبلاً سوى التوجه نحو طلب تقرير المصير تمهيداً للإنفصال حالما تجد نفسها أمام باب مغلق داخل نفق مظلم.
 
 
وفي حالة إنفصال النيل الأزرق وجنوب كردفان عن السودان . فلن يستغرب أحد تواصل هذه الدولة القارية الصغيرة المحتملة مع إسرائيل بقوة ؛ تماما كما لم يستغرب أحد حين سارع سيلفاكير لزيارة تل أبيب لأداء فروض الطاعة والولاء وتوقيع إتفاقات شراكة إقتصادية وتكنولوجية . فدولة جنوب السودان ولدت دون أن تحمل على عاتقها وزر ضياع فلسطين ومسئولية إستعادتها. .... وكذلك فليكن في معلوم مصـر السيسي وكافة العاربة والمستعربة في خلافاتهم مع الخرطوم ومكايداتهم لدولة قطـر ؛ أن "النيل الأزرق وجنوب كردفان" لن يحملوا على أعناقهم وعاتقهم أوزار العرب في العلاقة مع إسرائيل . وأنهم لا يشغل بالهم الإستغراق في نظريات المؤامرة الصهيونية .... ثم أنهم ليسوا ببلهاء حتى يتركوا إسرائيل المؤسساتية القوية ويتعلقوا بمصر الإنفعالية الضعيفة ..... أو كما قال المتنبيء: (قواصد كافور توارك غيره .... ومن قصـد البحـر إستقـل السواقـيا).
 
ولكن وبرغم كل هذا المنطق الذي لم يكن ليحتاج ‘لى كثير فطنة . فإن على حكومة الخرطوم عدم التعويل هنا على العقل والمنطق في تعامل حكومة إنقلاب السيسي المصرية تجاه مشاكل السودان العميقة المستعصية حتى وإن كانت هذه المشاكل تتعدى السودان لتشمل بتأثيراتها مصـر ...... فحكومة السيسي يبدو أنها ولدت "خديجة" ومصابة بالعمى والصمم ، مما جعلها تضرب بعصاها في كل الإتجاهات ؛ ويلعن لسانها القادمين والراحلين والسابلة والمقيمين دون فرز .. وبالجملة  نراها تعيش حالياً مرحلة ضياع الذات وإنعدام حقيقي للوزن بعد تصاعد تبعات وأصداء صدامها مع واقع الشارع السياسي الداخلي المعارض . ودهشتها بأن تنظيم الإخوان المسلمين متغلغل داخل النسيج المصري وأكثر رسوخاً مما كان يعتقده أكثر المتفائلين من خصومه ..... وأن هناك فرقاً كبيرا بين هذا التنظيم الذي يواجهه السيسي اليوم ؛ وذلك الذي واجهه النقراشي باشا في ديسمبر 1948م ، ثم عبد الناصر بعد حادثة المنشية عام 1954م .. فقد نجح تنظيم  الإخوان طوال السنوات الماضية في تفريخ وتجنيد أكثر من مليون كادر وعضو عامل ضمن هيكله التنظيمي الذي يضم في عضويته 10% من تعداد الشعب المصري . ووفق منظومة ستار حديدي غير قابل للإختراق أو التفكيك . ويمتلك من المؤيدين والمناصرين والمتعاطفين دائرة أكبر حشداً يقدر البعض نسبتها  بما لايقل عن 30% من تعداد  الشعب المصري.... وقد حاولت إدارة الرئيس أوباما ؛ وقادة الحزب الجمهوري على رأسهم جون ماكين إقناع السيسي وفلول حسني مبارك بواقع وحقيقة هذه الأرقام التي رصدتها الــ CIA منذ سنوات مضت . وجاهر بها أوباما أثناء ثورة 25 يناير .. .. ونصحوا السيسي بأن لا حل يلوح في الأفق سوى الحل السياسي ..... ولكن يبدو أنه لاحياة لمن تنادي في حكومة السيسي التي ترفض تصديق أن بعض قناعات الشعب قد تغيرت كمحصلة لثورة 25 يناير .. وأن سياسة التجميع بالطبول والتفريق بالعصي قد لا تجدي في زمن العولمة وتفشي وسائل التوثيق بالصوت والصورة ، ونبذ العالم المتحضر لظاهرة بلطجة الدولة .
 
في دولة جنوب السودان

ويبقى على نظام الفريق السيسي الذي يتجه للأسف نحو التصعيد وتكرار العديد من الأخطاء التي إرتكبتها الحكومات المصرية السابقة تجاه السودان.... يبقى على هذا النظام أن يحسن قراءة التاريخ ويجيد تحليل جدلية العلاقة بين البلدين "الشقيقين"؛ اللذان لا يصلح في تعاملهما الثنائي تجاه بعضهما البعض سوى الهجر من قريب والإكتفاء بتبادل الحب وإرسال القبلات الحارة من بعيد.