السبت، 14 سبتمبر 2013

رفع الدعم يحارب التهريب .. ولكن


 
رفع الدعم يحارب التهريب ونزيف الدولار .... ولكن

مصعب المشـرّف:
 
قرارات رفع الدعم ليست بالجديد الذي تلجأ إليه الحكومات في كثير من الإقتصاديات التي تعتمد المزج بين النظامين الراسمألي والإشتراكي وحتى "العشوائي" أمثالنا .....

في الفترة الراهنة وبعد زوال الإتحاد السوفيتي وتواري الشيوعية خجلا في ركن قصي ؛ ثم وبعد العولمة وإتفاقيات التجارة الحرة ؛ فقد أصبح رفع الدعم سياسة إقتصادية مفروضة من جهة وملائمة من جهة أخرى للدول ذات الإقتصاديات الفقيرة ؛ تعالج العجز المزمن في ميزان المدفوعات وتقلل من عدد نوافذ وأبواب الفساد المشرعة على ضلفتيها . وترمم بصفة خاصة جوانب هامة لعل أبرزها ما يتعلق بمنح فرص أفضل لتوجيه المداخيل والفائض من العملات الحرة نحو الصرف على جزء من جوانب التنمية المستدامة بدلاً من الإعتماد على القروض الربوية وحدها .....
 
والجانب الآخر يتعلق بمحاربة ظاهرة التهريب من السوق المحلي إلى أسواق البلدان المجاورة الأكثر شحـاً أو الأكثر غلاءاً ... وفي الحالة السودانية لانستطيع إنكار العواقب السلبية لنشـاط  التجار "الجـلابة" الذين يمتهنون تصدير البضائع بشتى أنواعها من السوق السوداني إلى أسواق أثيوبيا ودولة جنوب السودان ويوغندا وتشاد وأفريقيا الوسطى . والعديد من دول العمق الأفريقي القارية (التي لاتطل على مواني بحرية) وتتميز أسعار المنتجات الغذائية والمحروقات في أسواقها المحلية بأنها مرتفعة ، وبأرقام فلكية عند مقارنتها بأسعار مثيلاتها في السودان.... أو تلك التي تعاني من فجوات بين المنتج والمستهلك مثل مصر المتعطشـة على مدار العام لسلعة القمح والطحين وزيوت الطعام والسكر واللحوم الحمراء.

 
 



والمشكلة أن هذه المنتجات الغذائية وغيرها يتم تصديرها أو إعادة تصديرها إلى دول الجوار المشار إليها دون تصاديق رسمية في أغلب الأحوال ، وإنما عبر وسائل التهريب المتعارف عليها ... فتحرم البلاد من عملات صعبة أو تستنزف عملات صعبة بذلت في سبيل إستيرادها .. ولا يستفيد من مداخيلها وأرباحها سوى شـرذمــة قليلة من الموظفين الحكوميين في الخدمة المدنية والنظامية عديمي الذمة وموتى الضمير ؛ الذين يتلقون الرشاوي من التجار "الجلابـة" سبب البلاء الإقتصادي المقيم في بلادنا ....... هؤلاء الجـلابـة المنتنين السمعة أصحاب الأسنان الصفراء والألسنة الزرقاء : الجواسيس وباعة الولاءات والمعلومات الأمنية لكل متمرد مسلح ومرتزق وقاطع طريق ... هؤلاء الجـلابـة مخربي الإقتصاد والذمم ؛ الذين لا نزال ندعو إلى سن قوانين رادعـة صارمة في حقهم تصل إلى درجة محاكمة من يضبط متورطا منهم تحت طائلة جرائم الخيانة العظمى التي تمتد إلى مصادرة أموالهم السائلة والثابتة والمنقولة ، والحرمان من ممارسة العمل التجاري إلى الأبد . عوضا عن الجـزاءات الحالية السارية التي لا تردع أمثالهم بقدر ما تشجع على إرتكاب المزيد من جرائم التهريب وما يتعلق بها ويواكبها ويستتبعها من دفع وقبض وتداول الرشاوي المالية والعينية المغرية بين الموظفين الحكوميين الفاسدين على مختلف مواقعهم الحساسة ، وطبيعة المهام الخطيرة الموكلة إليهم داخل الأسواق وسلطة ضبط وتفتيش المخازن الخفية في الأحياء والمناطق النائية ، وفي الطرق ونقاط العبور وعلى الحدود ومواني ومواعين الملاحة النهرية والبحرية والجوية.

والملفت في تاريخ نشأة وممارسات هذه " الطبقة الجلابية " التي تعيث في الإقتصاد والمجتمع فسـاداً ؛ وساهمت في تفكيك النسيج الإجتماعي ؛ الملفت أن الناشطين فيها كانوا من الأتراك وأبناء الصعيد في مصر ، ثم تسودنت هذه المهنة المثيرة للجدل على يد الزبير باشا وأصبح معظم أركانها ينحدرون من قبائل عربية شمالية ......... ولكن مع مرور السنوات تبدلت سحناتهم والجهات التي يتبعون لها . فأصبح منهم من ينتمي لقبائل وجهات أخرى داخل وخارج السودان ؛ من رواندا جنوباً إلى أسوان شمالاً . ومن القرن الأفريقي شرقاً إلى مالي غرباً... جميعهم يدخلون ويخرجون يبيعون ويشترون يهربون ويرشون ويفسدون في حمى وحياض دولتنا (المضيافـة) التي لاتعير إهتماماً بالأوراق الثبوتية ، ولا يستوقفك شرطي في شوارعها ليسألك عن هويتك .. إهمال وسبهللية وإستهتار ما أنزل الله بهم من سلطان .... وحيث يكفي إرتداء جلابية وعمة أو جبة وسديري وسروال ومركوب وشاهدين (بالفطور) لحصولك على الرقم الوطني وجواز السفر في أقل من لمح البصر طالما كان جيبك مرطب وعمران بالأموال .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
 
ومن ضمن واقع الحال فإن كل الأموال التي كان بإمكان خزينة الدولة جنيها من سلعة القمح والسكر والزيوت والمحروقات وبعض الذهب ، نراها تذهب إلى جيوب التجار الجلابة وأيدي المصفوفة الفاسدة في كافة الأجهزة الرسمية من أجهزة رقابة وأمن الحدود وأمن ورقابة الطرق والأنهار والجمارك ؛ وغيرها من سلطات تتحكم في عملية حركة البضائع والسلع والبشر والمركبات والمراكب وحتى الحمير والجمال التي تستخدم أحيانا كثيرة في التهريب إلى أثيوبيا ومصر وارتريا .. إلخ من دول الجوار.


 



من المؤسف أن يستورد السودان مدخلات إنتاج سلع مثل السكر وزيوت الطعام والمحروقات بالعملة الصعبة ؛ ثم يتم تهريب كميات كبيرة من هذه السلع لبيعها في أسواق الدول المجاورة بعملات هذه الدول المحلية ...

ومن المحزن أن دولة فقيرة مثل السودان تتكبد نزفاً كثيراً من العملات الصعبة لإستيراد الشاي وأمواس الحلاقة ومعجون الأسنان والصابون والأدويـــة (على سبيل المثال لا الحصر) ثم يتم تهريب كميات كبيرة منها إلى دول الجوار وبيعها هناك بعملات هذه الدول المحلية.... وقس على ذلك كثير وكثير في ظل إنعدام الرقابة الشفافة والفاعلة في الضبط والمحاسبة إما لإنعدام الأدوات والخبرات أو بسبب تفشي الفساد والرشوة . وهو ما يؤدي دائماً إلى عدم قدرة الدولة على إيصال الدعم إلى مستحقيه ولو بدرجة الحد الأدنى المرجوة. وبما يتنافى مع كافة الحلول والأطر الواقعية في التخطيط الإقتصادي الإستراتيجي المتعلق بخيار الدعم.
 
 
من جهة أخرى فإن رفع الدعم يحد كثيراً من ظاهرة جفاف الأسواق المحلية من كثير من السلع الغذائية على الرغم من وفرة الإنتاج ... وهذا التجفيف الذي يتسبب فيه المهربون الجلاّبـة إنما يشجعهم عليه الفرق الشاسع بين أسعار هذه المنتجات والمحاصيل داخل السودان وأسعارها في الدول الأفريقية المجاورة . بل ويجبر الحكومة أحيانا كثيرة على الإحتياط مسبقا والدخول كمشتري لبعض المنتجات الغذائية الإستراتيجية ، وتخزينها خوفاً من إنعدامها لاحقاً عقب شهور من الحصاد .. وما يعنيه دخول الحكومة كمشتري في هذه الحالة من تكبد الدولة لنفقات ترحيل وتخزين وإدارة مخازن ورقابة وحسابات يتحملها في نهاية المطاف المواطن بطبيعة الحال وعلى حساب التنمية.
 
إن نظرية الدعم المعمول بها لم تخدم إذن سوى المفسدين والفاسدين من جــلابـة وموظفين حكوميين . وشعوباً وبلدان مجاورة أخرى لا ينفك بعضها يحيك ضدنا المؤامرات ، ويمول حركات التمرد المسلح التي تدمر كل ثابت ومتحرك في طريقها خلال صراعها ضد نظام الحكم القائم .
 
  


متسللون إلى السودان عبر الحدود البرية

وفي دولة متخلفة في مجال الرقابة والشفافية وإنعدام الوطنية والولاء لدى البعض من أبنائها ؛ يظل التعويل على قوانين ضبط المهربين والمرتشين والفاسدين ومحاكمتهم والحد من نشاطهم السلبي الضار والمدمر للبلاد مجرد أحلام وحبر على ورق غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع .... وحيث أصبح السائد لدينا أنه إذا سرق فينا صاحب النفوذ صفقنا له وتركناه وقلنا عنه شـاطر وفـالـح . وإذا سرق فينا الفقير حاكمناه وأودعناه غياهب السجون وقلنا عنه غـشـيم وإبن حرام ...... ويبقى كل حديث عن معركة تنمية وبناء وطني محض هـراء وهذيان حكومي ، ودعارة سياسية مكشوفة في الطريق العام ، لايصلح تضمينها حتى في مقررات وزارة التربية والتعليم لتلقينها لطلاب مرحلة الأساس.

إن أسوأ ما تعاني منه الرقابة في بلادنا هي مقولة "أين المستندات التي تثبت أن هذا الموظف مرتشي وحرامي؟" ..... غريب أن تتعلل السلطات الحكومية العليا في الجهاز التنفيذي بمثل هذه المقولة (ستراً لعورتها المغلظة) في الوقت الذي بات القاصي والداني في السودان يعلم أن بعض الوزراء والولاة والمحافظين والمعتمدين وأعلى وأدنى من أصحاب الرتب النظامية الكبيرة وكبار موظفي الدولة الذكور منهم والإناث ، يمتلكون بالكامل شركات مقاولات وتصدير وإستيراد ، أو يعملون رؤساء مجالس إدارات في شركات مقاولات تشييد وبناء وتجارية خاصة ... أو أعضاء منتدبون للإدارة ، وشركاء في هذه الشركات . ومنهم من يعمل مندوب مبيعات ومدير تسويق بالمشاهرة ، ومنسـق عــلاقـات عــامــة وإتصالات و Screwdriver (مَـفَـكْ) نظير عمولات بحسب طول وحجم المسمار .... ومنهم الشريك النائـــم والقائم والعائم .. وهلم جرا من مهازل ومخازي يندي لها الجبين في ظلال هذا الزمان المسيخي الدجال.


 
ومن جهة أخرى فإن الأمر لايحتاج دائما إلى مستندات لإثبات أن هذا الموظف الحكومي مرتشي من عدمه .. وإقرارات الذمة لاتكفي وغير ذات فعالية في دولة تنعدم فيها الرقابة والشفافية ، وعدم الجدية لدى السلطة في محاسبة منسوبيها والعاملين لديها لضمان ولاءهم .... وكم رأينا من لجان تحقيق يتم تشكيلها ثم لا تنعقد أو تنعقد وتنفض دون أن تحاسب مسئولاً سابقاً أو حاضرا سرق ونهب وباع واشترى واقتضى أموال وثروات البلاد والعباد .. وحيث يتجلى في نهاية المطاف أن تكتيك تكوين لجان التحقيق ليس سوى ذر للرماد في العيون وحتى يطوي الفضيحة النسيان . والسبب أن جرائم سرقة المال العام عادة ما تكون "مركبـة" ومتورط فيها أكثر من فــرد وجـهـة وطـرف ؛ يظل معظمهم خـطـاً أحمر مرفوع عنه القلم وفوق المحاسبة طالما كان النظام السياسي الساند له قائماً.

ولو كان هناك بصيص من شفافية ؛ فقد كان بالإمكان أن تطلب الأجهزة الرقابية من مسئول أو موظف ما في جهة ما بتفسير منطقي لإمتلاك زوجته للعديد من الفلل الفاخرة .. وإمتلاك أطفاله للعديد من الأبراج الشاهقة والمزارع الخضراء والأراضي المترامية الأطراف رغم أن بعض هؤلاء الأطفال (المعجزة) لم يتجاوز سن السـابعـة ....

ويبقى على الحكومة أن تعلن براءتها من أموال ودماء شعبها صراحةً عبر تفعيل قانون صارم لا لبس فيه وفي تفسيره ؛ يحظر على الموظف العام في الخدمة المدنية والنظامية الجـمـع بين وظيفته ووظيفة أخرى في القطاع الخاص أو الشراكـة النائمـــة وإمتلاك شركات بإسمه أو بإسم أسرته ، حتى لا يتم إستغلال نفوذه في الحصول على إمتيازات بدون وجه حق ، والفوز بمناقصات من الأبواب الخلفية ، والتغطية على تجاوزات وسرقات وإخلال بالمواصفات تتورط فيها هذه الشركات الخاصة بمختلف أشكالها القانونية.

ربما لو كان عامة الشعب يدركون مدى إستفادة مجموعة قليلة جداً من التجار الجلابة والموظفين الحكوميين الفاسدين للدعم الجكومي للسلع والخدمات ؛ ربما لكانوا قد صفقوا وهللوا لقرار رفع الدعم ليس فقط عن المحروقات وسلع بعينها بل وطالبوا برفع الدعم عن كافة السلع والمنتجات والخدمات بما في ذلك القمح والذرة . وتحويل مبالغ الدعم هذه إلى زيادة سنوية في الرواتب للعاملين السودانيين في القطاعين العام والخاص لرفع القدرة الشرائية للمواطن السوداني وجعل أمر التهريب من السودان إلى دول الجوار أمراً لا طائل من ورائه.

إن على الدولة إذن أن تتحلى بشجاعة أكثر فتتبنى تطبيق النظام الرأسمالي بالكامل وما يقتضيه من رفع الدعم نهائياً عن كافة السلع والمنتجات والخدمات وتترك السوق للعمل وفق آلية العرض والطلب .. هذا هو النظام الإقتصادي الذي تبناه الإسلام بكل شفافية ضمن ضوابط وآليات تحرم الربـا والإحتكار ومراجعة زيادة الرواتب سنوياً وتوجيه بعض الدعم المباشر عبر بطاقات مشتريات سلعية أساسية محدودة للأسر الفقيرة .. وأن يقتصر  دور السلطات على الإشراف على تفعيل أجهزة الرقابة والضبط الصارم للأسواق إنطلاقاً من مبدأ "من غشنا فليس منا" .... وتفسير قوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا" يقتضي في هذا الزمان مثول المهربين والمحتكرين أمام القضاء لمحاكمته تحت طائلة عقوبات تشمل السجن ومصادرة الأموال أو فرض غرامات باهظة وسحب الرخصة التجارية والمنع من ممارسة المهنة مدى الحياة.

ثم أنه لن تتمكن الدولة من إقناع المواطن بجدوى قراراتها الإقتصادية طالما لم تكن جادة في عزل كل منافق مُـرائي ، ومحاسبة ومعاقبة كل مرتشي ومُـرابي ، وسارق للأموال العامة وجبايات الزكاة ومستغلي النفوذ . ومحاسبتهم من واقع القانون الذي سنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحت بند " من أين لك هــذا؟"... ومن واقع قوله صلى الله عليه وسلم لإبن اللتبية :- "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا".

 ولن تكون الحكومة ذات مصداقية طالما كانت تترك الحبل على الغارب وتغض الطرف عن محاولات بيع ممتلكات الدولة والأهالي . وحيازة الأراضي .. والضرب يبد من حديد على دراكولات الإستثمار الأجنبي الذين يقفون حجر عثرة في طريقه ويلوون أعناق اللوائح بهدف إبتزاز رجال الأعمال .. إلخ من وجوه الفساد المستشري الذي فاحت رائحته داخل وخارج حدود البلاد . وأصبح لبانة من لا لبانة له ، ومعياراً سلبياً (مثالياً) يجري طرحه وتداوله بإستمرار في الصحف والقنوات الفضائية العربية والأفريقية يبرر به كل نظام عسكري إنقلابي وليبرالي وشمولي وعلماني موقفه المعارض للإسلام السياسي ... والنموذج الإسلامي في الحكم .