الأحد، 25 أكتوبر 2015

أسباب خـراب الجبهة الثورية

أسباب خـراب الجبهة الثورية


مصعب المشرّف
25 أكتوبر 2015م

ربما لم يتم حتى هذه اللحظة دق المسمار الأخير بشكل رسمي في نعش الجبهة الثورية ورفع الفاتحة فوق جثمانها أو داخل صيوان العزاء فيها  .. ولكن الواقع أن الخراب قد حل بها .... وإن هي إلا مسألة وقت قبل أن ينفض سامرها ، وتصبح بئــر معطلة وقصـر مشـيـــد.

أكثر الإحتمالات تفاؤلاً أن تدخل الجبهة الثورية تحت رئاسة جبريل إبراهيم في حالة من التجميد تحت الصفر .... ولكن من الصعب تخيل قدرة قيادات الحركات المنضوية في الجبهة الثورية على إحتمال حالة "تجميد" فعالياتها لسنوات طويلة قادمة ؛ يتم خلالها تداول رئاسة الجبهة خارج حوش الحركة الشعبية قطاع الشمال.

من بين أهم أسباب خراب الجبهة الثورية الماثلة ؛ تبقى دائما "جرثومة" تمسك القيادة وحاشيتها بالإستمرار في السلطة ، وعدم التسليم أبداً بمبدأ التداول لمنصب الرئاسة وأماناتها.

جرثومة "الكنكشة" هذه لا تنبع فقط من حب للرئاسة وزهوها عند الفرد الواحد (الرئيس) كما قد يخطر على عقل البعض .. ولكن تفرضها وجود مصالح شـتـى متعددة عميقة يحصل عليها المحيطون بالرئيس وحاشيته أكثر من الرئيس نفسه أحياناً.


والسبب الآخر المرتبط بالسبب الأول أن الحركة الشعبية التي تعتبر المساهم الأكبر في شراكة الجبهة الثورية ؛ نراها تناقض نفسها وأدبياتها التي تتشدق بالديمقراطية والحرية ؛ في حين أنها تصبح أول من يقف في وجه الديمقراطية والحرية ومبدأ تداول السلطة عندما يتعارض ذلك مع مصالحها رغم أنها لا تزال في مرحلة الثورية . فما بالـك إن وهب لها الله الملك في الخرطوم؟
من السخرية بمكان أن لا ترتضي الحركة الشعبية بمبدأ تداول السلطة هذا رغم أنها سبق وقامت  بالتوقيع على وثيقة تأسيس الجبهة الثورية بفصائلها المتعددة . وكان من بين أهم بنود تلك الوثيقة النص على تدوير رئاسة الجبهة الثورية كل سنتين وعدم إحتكارها لشريك دون الآخر.

وقد كان من بين أولى الإرهاصات على عدم إلتزام الحركة الشعبية بتعهداتها. وعدم إحترامها لتوقيعاتها ؛ أنها أصبحت فيما بعد أول من تحايل على عدم تطبيق بند تبادل رئاسة الجبهة . وذهبت في ذلك إلى مزاعم شتى سمحت لها في نهاية المطاف أن تمدد لها رئاسة الجبهة الثورية سنتان ...... ولكن لم يعد بعد كل هذا التحايل والتسويف والإرجاء من مناص في نهاية المطاف.

ياسـر عرمان ..  

لقد مارس الأمين العام (المدلل) ياسر عرمان الكثير من المساومات بشتى المعاذير لفرض إستمرار مالك عقار في رئاسة الجبهة الثورية .
ولم يستحي عرمان خلال تلك المساومات والضغوط من دعوة بقية مكونات الجبهة الثورية إلى الخضوع لهذا المطلب على إعتبار أن الحركة الشعبية هي وحدها المؤهلة لرئاسة الجبهة وقيادة أمانتها العامة.

واقع الأمر ؛ تنطلق حجج ياسر عرمان من زاوية أن الحركة الشعبية هي الذراع الأقوى والشريك الأكبر .. وأنها هي التي تتولى الإنفاق المالي على الأنشطة السياسية واللوجستية للجبهة الثورية في علاقتها مع محيطها الأفريقي خاصة والعالم الخارجي عامة.

ولكن الذي لا يبديه ياسر عرمان من الخفايا هو أنه يخشى من أن فقدان قائده مالك عقار لمقعد رئاسة الجبهة الثورية ؛ سيعني بالضرورة والتبعية تهميش دور ياسر عرمان في قيادتها .. وحيث لا يخفى على المتابع أن ياسر عرمان بعتبر الرئيس الفعلي للجبهة الثورية التي ترك له مالك عقار حرية إصدار بياناتها والتصرف فيها بإسمه ونيابة عنه، مرتضيا بذلك لنفسه (عقار) دور الزوج الشرعي الذي يكون دائما آخر من يعلم .

واقع الأمر فإن ياسر عرمان قد أدمن وأتقن منذ إنضمامه للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق .. أدمن لعب دور "ولد الناظر المدلل" في مدارس الأساس ؛ الذي يترك له الحبل على الغارب ويظل فوق المحاسبة والمساءلة والعقاب أو حتى العتاب.

مارس ياسر عرمان دور "ولد الناظر المدلل" هذا في علاقته مع جون قرنق ؛ ثم في علاقته مع مالك عقار ... ولأجل ذلك طار صوابه بعد إنتخاب الدكتور جبريل إبراهيم رئيساً جديداً للحبهة الثورية. وأحس بأن الرمال تتحرك تحت قدميه .. وأنه لن يحظى بنفس القدر من كمية الدلال عند سيده الجديد جبريل ؛ مقارنة مع حالة "سيدنا يوسف" التي كان يتمتع بها في زمن مالك عقار من إصطفاء وحرية ؛ وإطلاق يديه كي يتخذ من القرارات ما يشاء ؛ ويدلي بتصريحات كما يشاء.. وينفق من خزائن الجبهة الثورية المتخمة بأموال بترول جوبا وفق ما يحلو له.

إذن ؛ ومن واقع القناعة بأن مالك عقار لن يتخلى بسهولة عن طفله المدلل ياسر عرمان ؛ وسيظل يدعمه بقوة .. فإن المتوقع أن يلجأ ياسر عرمان (بعناده المطبوع) إلى عرقلة أعمال الجبهة الثورية . والتقليل من ديناميكيتها بشتى الوسائل المتاحة بين يديه . ومنها على سبيل المثال حرمان رئاسة الجبهة الثورية من التمويل المالي اللازم لمقابلة أنشطتها الحيوية . والتضييق عليها من كل الجهات ؛ لاسيما تلك المتعلقة بالعلاقة مع حكومة جوبا التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان . والتي تعتبر الحركة الشعبية قطاع الشمال إمتداد حيوي طبيعي لها في الشمال ، وطابورها الخامس وذراعها القوي في حراك علاقتها المتوترة مع حكومة الخرطوم.

الدكتور جبريل إبراهيم ... هل يصلح ماأفسـده ياسر عرمان؟
ومن غير المنتظر أو المتوقع أن تجد الجبهة الثورية تحت رئاسة الدكتور  جبريل ممرات سلسة مستقيمة مباشرة قصيرة في علاقتها المستقبلية مع حكومة الحركة الشعبية في جوبا ... ولابد أنها ستقابل في كل موقف وآخر وحاجة للتمويل .. ستقابل بإجابة "باردة" من حكومة جوبا ؛ تنصحها بضرورة أن يتم ذلك عبر التنسيق مع رئاسة وأمانة الحركة الشعبية قطاع الشمال.
إذن وبإختصار فإن على الدكتور جبريل إبراهيم وطاقمه الذي سيأتي به لإدارة الجبهة الثورية .. عليه أن يدرك منذ الآن فصاعداً أن أقرب طريق للوصول إلى قلب جوبا لابد أن يمر عبر الحركة الشعبية قطاع الشمال وكفى..... وفوق هذا وذاك ربما ينتظره إدراك أن أقرب طريق للوصول إلى قلب مالك عقار إنما يجب أن يمر أولاً عبر ياسر عرمان.

الخيارات أمام الدكتور جبريل إبراهيم ستبقى قليلة ومحدودة للغاية ... فقد مات الرئيس القذافي وذهب عهده إلى غير رجعة ... وإدريس ديبي فقير وبخيل في آن واحد .... ولديه هو الآخر اليوم مصالحه التكتيكية مع حكومة المؤتمر الوطني في الخرطوم . .... حكومة المؤتمر الوطني التي أثبتت له عملياً من قبل . وبما لا يدع مجالاً للشك أنها قادرة على الوصول بقوات معارضيه المتمردين التشاديين حتى أسوار قصره الرئاسي في إنجامينا . ولا ينجو حتى يتجرع الترياق الفرنسي الحنظـل ..
ومن ثم فلا أعتقد أن إدريس ديبي سيكون على إستعداد كي يلدغ من جحر البشير مرتين.

إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو :

هل يؤدي عناد وحماقة ياسر عرمان إلى تفكك الجبهة الثورية . والدفع بعدد من مكوناتها إلى الخرطوم ؛ حيث  " تحَندِقْ " لهم حكومة المؤتمر الوطني اليوم بتفاحة الحوار . وإستعدادها لتحمل تكاليف السلام وأهما تسديد الرواتب المتأخرة لجنود وضباط هذه الفصائل ؛ وربما إيجاد "فرص عمل"  بديلة لهم في بــلاد اليمــن  برواتب مغرية وإمتيازات أسفلها مغدق وأعلاها مثمر ؟