السبت، 7 مارس 2015

قمع القنصلية السودانية في جدة ... رؤية تحليلية

قمع القنصلية السودانية في جدة ... رؤية تحليلية


مصعب المشـرّف
7 مارس 2015م


المقال الذي كتبه المهندس أسعد عمر التاي عن تفاصيل المعاملة القمعية ، والتعذيب والإهانات الغير مبررة التي تعرض لها داخل القنصلية السودانية في مدينة جدة السعودية . جاءت المقالة مؤثرة ؛ ولعلها من تلك المقالات النادرة التي تشدك وتجبرك على قراءتها من بدايتها إلى نهايتها .... ولولا بعض المحاذير الفنية ، وتحفظات القوالب النقدية ؛ لكنا قد وسمناها تحت عنوان  "موسم الهجرة إلى الحجاز".

والذي أرغب به من هذه الرؤية التحليلية التي أوحى بها هذا مقال التاي هو الآتي:

1) التسليم بأن السفارة السودانية وقنصلياتها التابعة لها في السعودية قد أصبحت تشكل صداعا مزمناً للخرطوم . وكعب أخيل سمعة النظام الحاكم في الخارج ... وضرورة إيجاد حلول جذرية مدروسة هذه المرّة.
والأسباب التي تدفع في هذا الإتجاه تتلخص في أن المملكة السعودية تضم داخل حدودها اليوم أعداداً خرافية من المغتربين السودانيين . وتعدادهم على الرغم من عدم دقته إلا أنه يتجاوز المليونين تقديرا.

هذه الأعداد التي تفوق تعداد شعوب بعض الدول في العالم لايقابلها للأسف جهاز حكومي سوداني محكم متطور منضبط  أو تتوفر لديه إمكانات إدارية وألكترونية ، وعناصر تسيير كافية تلبي حاجات المغترب فيما يتعلق بالعديد من الخدمات ؛ سواء المتعلقة بعلاقة المواطن السوداني بمحيطه داخل السعودية . أو بحذوره في السودان.

وبدلا من أن تسعى الخرطوم على تحديد الإطار العام المنوط بالسفارة ، والتركيز بنحو كلي شامل على تلبية الحاجة إلى الخدمات القنصلية في المقام الأول . نراها تشغل نفسها كثيراً بالتسييس ، وما يتطلبه ذلك التسييس من المراقبة والمتابعة الأمنية والتنميط . ومحاولات السيطرة "السياسية / الأمنية" على فسيفساء هذه الكتلة الفريدة بضخامة أعدادها خارج حدود السودان.

لأجل ذلك أصبح القصور في تلبية الخدمات الحكومية هو الظاهرة والسمة السائدة ... فبدلاً من رفد القنصلية (مثـلاً) بعشرين موظف لمقابلة متطلبات المراجعين السودانيين وغيرهم الروتينية العادية من توثيق وتجديد وإستخراج . تضطر وزارة الخارجية إلى الإكتفاء بريع هذا العدد فقط لأداء هذا الغرض .. وتوزيع الخمس عشر وظيفة أخرى لغرض تلبية متطلبات الرقابة والمتابعة الأمنية والسياسية للحكومة خصماً على غيرها من وظائف خدمية.
ومسألة العدد في نهاية المطاف تحكمها طبيعة العلاقة مع الدولة المضيفة من جهة ، وقواعد المعاملة بالمثل ... وميزانية وزارة الخارجية من جهة أخرى .


ويترتب على هذا التوجه العام من حكومة الخرطوم ؛ ن الذي يفهمه معظم الدبلوماسيين والملحقين والموظفين بالسفارة السودانية وقنصلياتها في السعودية وينطبع في أذهانهم ؛ يظل يتماشى مع هذا التوجه لحكومة الخرطوم ... وهو تلبية حاجات هذا المطلب السياسي الأمني في العلاقة مع المغترب بالسعودية في المقام الأول والأخير ... والظن بأن الإكتفاء بتلبية هذا النهج المشار إليه يظل دائما هو المطلوب والمرغوب به ، والمحقق لرضــا الحكومة المركزية في الخرطوم عنهم ، سواء أكان هذا الرضا من جانب التنظيم السياسي أو الجهاز الإستخباراتي الأمني هناك.



ومن ثم فبدلاً من أن تنشغل السفارة في الرياض وقنصلياتها في السعودية (كقناعـة) وقاعدة أساسية لوضع خطط العمل لتلبية الخدمات المنوطة بها أولا وأخيراً . فإنها تجعل في مقدمة إهتماماتها وأولوياتها القصوى وأساس خططها مسألة تدبير وإدارة وإبتداع السبل والوسائل المتاحة لإختراق الجالية السودانية هناك ، والسيطرة على تنظيماتها وقياداتها العامة ، وروافدها من الروابط الجهوية والقبلية والسياسية..... وعدا ذلك يأتي في المقام الثالث والرابع .... والأخير من حيث الأهمية.

حسب إعتقادي الشخصي فإن الخرطوم بتكريسها لهذا المنحى في التعامل مع الجالية السودانية بالسعودية إنما تضيع وقتها وتشتت جهودها وتهدر أموالها فيما لا طائل منه .. فالسلطات السعودية (على العكس من الولايات المتحدة والدول الغربية) لاتسمح لكائن من كان من العاملين الأجانب داخل أراضيها بتجاوز حقوقهم كمستقدمين لأجل العمل وكسب الرزق بالقفز إلى الممارسة السياسية ضد الأنظمة الحاكمة في دولهم ؛ حتى لو كان بينها وبين هذه الأنظمة جفوة و خلافات طارئة أو عميقة.

من المضحك فعلا أن تتعامل الخرطوم مع الجالية السودانية في السعودية وكأنهم جنود نظامية في ساحات قتال خارجية تخشى عودتهم إليها .. أو على نحو شبيه بتلك القناعة التي تتعامل بها مع السودانيين في ليبيا وتشاد وأرتريا مثلاً.

2) خلط الحابل بالنابل في مواجهة المواطن.
من البديهي التسليم بأن هناك فرق بين المعارضة السياسية لنظام حكم ما بهدف خلعه .... وبين المعارضة لسياسات هذا النظام بهدف إصلاحه دون أن تطالب بخلعه .... وكذلك بين ثالث يحتج بأعلى صوته على حرمانه من حق مشروع متعلق بالحصول على خدمات الدولة الروتينية  سواء المجانية أو المدفوعة الثمن مقدماً.


ولكن يبدو أن الهرج والمرج السائدان . وإنعدام الكفاءة لدى الموظف العام ، وضعف التدريب وغياب الموهبة لدى المدراء ؛ قد أدت هي والبعض الآخر إلى إختلاط الحابل بالنابل . فأصبحت أجهزة السلطة النظامية والتنظيمية تطيح برؤوس الجميع بعد أن تضعهم في خانة واحدة ... وتصنع بذلك أعداءها بنفسها.

 الضحية المهندس "أسعد التاي" كان أحد الذين يمكن وصفهم بأنهم من النوع الثالث الذي جاء يسعى للحصول على حقه المشروع المتمثل في تجديد وإصدار أوراق ثبوتية ؛ ترتبط بقوانين منح الإقامة له ولأفراد أسرته داخل الأراضي السعودية.

وبدلاً من التعامل مع إحتجاجات وإنفعالات المهندس أسعد التاي ومحاولة إستيعابها وإمتصاصها بأسلوب دبلوماسي هادي وثقة بالنفس ، ثم وعقل رجال راجح ؛ نرى كيف إختار بعض موظفي القنصلية أسلوب التعامل الأمني القمعي مع إنفعالات التاي الشخصية ... كل هذا على الرغم من أن المشكلة ليست أمنية سواء من قريب أو بعيد.... وقد كان بالإمكان تفهمها من واقع قلقه على أسرته الصغيرة التي جاء بها من خارج جدة ، ووضعها داخل فندق. وأغلق علىهم باب الحجرة من الخارج بالمفتاح على جري مقتضيات السلامة الشخصية ونصائح إدارات الفنادق لكافة نزلائها هناك.

وربما لو حرص السفير هناك على تزويد قنصلياته ببعض موظفي العلاقات العامة الخبراء في هذا المجال لما جرى ما جرى .. ولكان قد تم حل المشكلة بهدوء داخل قسم العلاقات العامة بالقنصلية. من خلال عبارات المجاملة وسياسة الإرخاء وتهدئة الأعصاب وسط أقداح الشاي وفناجين القهوة... ثم إقناعه بلطف (يُخجله) أن يقف مثله مثل غيره من المواطنين في الصف. حتى لو كان يتمتع بشهادة تخرج من كلية الهندسة ، ويحمل رتبة ضابط تقني سابق في القوات المسلحة شبيهة بتلك التي يتمتع بها وزير الدفاع الحالي.

ولكن وكما يقولون نذهب ونأتي للمشكلة الأساسية المتعلقة بالمنهج الذي تضعه الحكومة المركزية في الخرطوم لكل ما يتعلق بسفارتها وقنصلياتها في الأراضي السعودية خاصة... وبناء على هذا المنهج تضطر أقسام وملحقيات  السفارة إلى صياغة خطط عملها ... ويتم تدريب العناصر بها لتأديته على النحو الأمني والقمعي المطلوب .. وليس غيره.

ولاشك أن الأقسام والإدارات والملحقيات المتنوعة في السفارة تعلم أن بقاءها على كراسيها ورأس منصبها والترقي إنما يكون فقط عبر تلبية توجيهات الخرطوم لاغير ، مثلها مثل أحوال وظروف الإدارة في كافة الدول المتخلفة والشمولية التي لاتضع للمواطن حساب ، ولا تعير صناديق الإنتخاب أهمية كونها تأتي سلفاً بنسبة 99.9% .... ووووو المسألة يعرفها القاصي والداني ولا حاجة للخوض في تفاصيلها منعاً للإطالة وتحاشيا للملل.

الطريف أنه هناك بالفعل عدد قليل من العناصر المتخصصة النشيطة بإمتياز في قسم العلاقات العامة بالسفارات . ولكنها للأسف (محجوزة) مشغولة بتلبية متطلبات وحاجات الزوار القادمين من الخرطوم ؛ سواء كبار المسئولين والحزبيين او أسرهم وعائلاتهم ، وأقرباء زوجات هؤلاء المسئولين .. إلخ من كافة أشكال ودرجات النسب والمصاهرة .. يرافقونهم في الأسواق ويوفرون لهم المواصلات .. وبوجه عام العمل كمرشدين في المولات والأسواق والحراجات لزوم الشنطة والشيلة ، و جهاز العروس من الريحة الناشفة واللينة وفساتين الجرتق والرقيص ......  ولزوم شحن العفش مجاناً وتخليص الدخول والخروج .. إلخ.
3)   أن الموظف العام في كافة مرافق الدولة محسوب على النظام الحاكم . شاء هذا النظام أو أبى... ووزارة الخارجية  ليس بيدها وحدها مفاتيح الحل.
من الصعب على أي نظام حاكم أن يتبرأ من تصرفات الموظف التابع له وواقع أنه محسوب عليه في كافة الأحوال ... ولكن الذي يختلط على أذهان البعض في مجال العمل الدبلوماسي هو إعتقادهم أن وزارة الخارجية هي وحدها المسئولية عن أسلوب وطريقة إختيار الملحقين والموظفين والعناصر بالسفارات ..
فعلى سبيل المثال فإن الملحق العسكري وطاقمه ترشحه وزارة الدفاع وليست وزارة الخارجية . ويعتبر في هذا الحال "منتدبا" و "ملحقاً" أو بمعنى أنه ليس موظف أساسي في وزارة الخارجية .... وكذلك الحال بالنسبة لتعيين القنصل وطاقمه . فهؤلاء ترشحهم وزارة الداخلية من جهة أو جهاز الإستخبارات والأمن من جهة أخرى بحسب الظروف والأحوال والمتطلبات ... والحال يمضي كذلك مع الملحق التجاري الذي يأتي منتدبا من وزارة التجارة .. والمحاسب الذي يأتي منتدباً من وزارة المالية ، ويكون تابعا لها في مسائل الحسابات من تحصيل للرسوم .. وهكذا دواليك في الأقسام والملحقيات.
ولأجل ذلك فإن المتوقع دائماً أن يكون دور وزارة الخارجية ولجانها رومفتشيها مقتصراً على ردود الأفعال فقط لا غير في هذا الجانب .. وهو أن تخاطب الوزارات والأجهزة المعنية الأخرى بأن هذا الملحق أو ذلك العنصر التابع لهذه الوزارة أو لذلك الجهاز لم يعد مرغوب فيه لأسباب كذا وكذا ......

وفي جانب الرقابة الشعبية . ينبغي الأخذ في الإعتبار نشأة الكثير من المستجدات التي أسهمت في تفعيل دور هذه الرقابة .
قديما كان حظر النشر وإهمال الشكاوي ، ووضع القيود على الصحفيين أو شراء ذممهم هو الحل الأسهل للتغطية على تجاوزات المسئول أو الموظف الحكومي . ولكن الذي يجب الإهتمام به اليوم ووضعه في الحسبان أن ثورة المعلوماتية قد أتاحت من حرية النشر والإنتشار ما يفوق الصحف والمجلات الورقية والقنوات الفضائية ....
على أية حال ؛ فإن الذي يرشح من كل هذا ؛ هو فشل النظام الحاكم في تكريس القوانين واللوائح الصارمة لجهة تبني أسلوب الحوار السلمي بينه وبين الشعب ...... وتفضيله للحلول الأسهل (من وجهة نظره) المتمثلة في القمع وحده دون غيره....
وليت القمع كان موجها لمعارضيه والذين يسعون لنزعه من على كراسي الحكم والسلطة وحدهم .. ولكنه قمع إنداح ليشمل كل من يبحث عن حقوقه المشروعة "تحت الشمس" من خدمات أساسية تكفلها حتى قوانين سكسونيا ، وأعراف مافيات صقلية.


وربما يصلح بعض الحال أن تتجه الدولة إلى إبتداع خطط وورش تدريب وتثقيف ، تأخذ بعين الإعتبار ضرورة أن يعي المسئول والموظف العام ضرورة إحترام وتلبية حقوق المواطن المشروعة على أقل تقدير . وعلى نحو يحترم إنسانيته .... وأن هناك "صحافة ظل" .. و "إعلام بديل" و "رقابة شعبية" حرة نزيهة تتمتع بالشفافية فرضتها الشبكة العنكبوتية.

4) حدود سلطات السفارات والقنصليات في الدول المضيفة لها.
الشيء الملفت في مقال المهندس أسعد التاي هو تهديد نائب القنصل له بترحيله من السعودية ..
ولا أدري هل يعلم نائب القنصل هذا حدود مسئوليات وسلطات السفارة أم أنه لا يعلمها؟.. إن كان لا يدري فتلك مصيبة .. وإن كان يدري فالمصيبة أعظم.
السفارة جهة تمثيلية لبلادها في مجال العمل الدبلوماسي وتقديم خدمات لمواطنيها والغير عبر ملحقياتها ... ولكنها لا تمتلك سلطات قبض أو حجز أو إلغاء إقامات وتسفير .. والأمر يبدو هنا بديهيا . فهي لا يحق لها أن تكون دولة داخل دولة .... وهي ليست السلطة التي تمنح الإقامة لمواطنيها في بلاد الغير حتى تمتلك حق إلغائها.
وعلاقة السفارة بالأجهزة الرسمية في البلد المضيف لها تكون فقط عبر مخاطبتها لوزارة الخارجية في البلد المضيف.

وكل ما تمتلكه السفارة أو القنصلية في شأن ما تراه تجاوزاً من مراجعيها سواء المواطنين أو الأجانب ؛ هو أن تتصل بوزارة الخارجية في البلد الذي تعمل فيه، وتطلب إرسال دورية شرطة لإلقاء القبض على هذا المراجع ؛ كونه يخل بالأمن ويحدث شغباً داخل مبنى السفارة ، ويتشاجر مع موظفيها أو الغير من المراجعين ... وفي هذه الحالة تأتي الشرطة وتتولى إجراءات فتح البلاغ وعرضه على النيابة .. إلخ . مثلما يجري الحال والتعامل مع البلاغات العادية الأخرى. عن مشاجرات وأعمال شغب تحدث في الشارع أو المنازل والمطاعم والمقاهي والملاهي .. إلخ.

ولو كانت القنصلية أو السفارة من حقها أن تقبض على أحد مواطنيها وتسجنه داخل مبنى السفارة وتأمر السلطات في وزارة الداخلية السعودية بتسفيره (بهذه المجانية) . لكانت قد سارعت معظم السفارات السودانية في العديد من بلاد اللجوء الأفريقية للقبض على المعارضين وإعادتهم إلى السودان .. وعلى رأسهم قيادات الحركة الشعبية قطاع الشمال ، والعدل والمساواة ، والحركة الثورية ، والصادق المهدي وغيره .......... ويا بــلاش.

كنا نأمل أن يكون المهندس أسعد التاي أكثر وعياً بحقوقه القانونية في مثل هذه الحالة . فيتوجه لفتح بلاغ رسمي لدى مركز الشرطة السعودية الذي تقع مباني القنصلية  في محيط إختصاصه ؛ لإثبات واقعة التعذيب ، والعرض على الطبيب المختص للحصول على الشهادات اللازمة . تمهيداً لرفع دعوى في مواجهة الأشخاص الذين قاموا بتعذيبه داخل القنصلية. ..... أو هكذا نفترض في كل من يتعرض لنفس هذا الموقف لاحقاً من المواطنين السودانيين في الخارج.... وحبذا لو إتصل بمحامي وممثلين لجماعات ومنظمات تهتم بصيانة والدفاع عن حقوق الإنسان.