السبت، 14 ديسمبر 2013

نـغـمـة "وصلنا للعالمية" العـويرة


نغمــة "وصلنا للعالمية" العـويرة

 

مصعب المشرّف:

تسود هذه الفترة الكالحة من تاريخنا جملة ونغمة بلهاء مفادها "الوصول للعالمية" .... و "ووصلنا للعالمية" ..... ولا يدري المرء من أي المزابل خرجت علينا هذه النغمة التي يبدو أن بعضنها أطلقها بأسلوب ورائحة شبيهة بتلك الرائحة التي يطلقها حيوان العِـرْسَـة " أبو العفين " من دُبره عندما يخاف ويسعى للتخلص من أعدائه ؛ أو عندما يرغب في إصطياد فرائسه الصغيرة ...... وربما كان أبو العفين معذوراً ؛ فهو يمارس في مثل هذه الحالة طبيعته التي خلقه الله  بها ........ ولا نجد للإنسان عذرا.
 
أبو العفين .. المُفترَى عليه

إذن أطلقها هؤلاء بنفس الرائحة وهربوا .. ثم عادوا فصدقوها بعد أن أصبح عدد كثير من أوسطنا ودراويشنا وبلهاءنا يرددها بحماس الببغاوات السعيدات في الغـدو والرواح ....

ربما يظن البعض أن مجرد إطلاق قناة تلفزيونية فضائية تعني أن العالم أجمع يتفرج عليها ، وأننا بذلك قد وصلنا للعالمية.

ولاننسى تلك الأيام الأولى التي شهدت تدشين قناة "موسيقى سودانية" .. وكيف أن عدة مطربين وموسيقيين وشعراء كبار وصغار وقعوا في فخ  أبو العفين إيّاه ، وراحوا يرددون ويكررون بعفوية نبرة أننا قد وصلنا بهذه القناة الفضائية للعالمية .. ويا بلاش.

لا أرغب في تناول مدى البهاتة والإفلاس الذي إنطلقت به هذه القناة ؛ كونها لم تتمكن حتى تاريخه سوى بث منتجات غنائية قديمة من إنتاج التلفزيون الحكومي خلال السنوات الخمسين الماضية من عمره ..... وحين فاضت بها ساعات البث راحت تعرض أفلام كرتون وأفلام عتيقة ، وغيرها مما لا علاقة له بالموسيقى والغناء السوداني خاصة . وحبذا لو بثت لنا هذه القناة أغنيات أفريقية ، أو لعلها لا تدري أن سوداني وأفريقي تعتبران في عرف العالم وجهان لعملة زنجية واحدة.

لا أدري ماذا يقصد البعض مِنّا بالعالمية ؟ .... وهل المسألة مرتبطة بخطوط وقواعد ومقاييس وشروط ومعطيات متعارف عليها عالمياً ، أم أنها محض أحلام زلوط ، وكلام مرسل ، أو مرض من ضمن أمراض تضخيم الذات ؟ .. أم هي دروشة وقلة تجربة وإحتكاك بالعالم الخارجي؟ ..... وعلى نسق مقولة الشيخ فرح ود تكتوك : (القـلـم ما بيزيــل بــلــم)؟
 
 
وحتى تكون الصورة مقربة أكثر فإن بالإمكان مثلا  القول بأن إنتاج "هوليود" السينمائي قد وصل للعالمية وفقاً للشروط والمقاييس المتعارف عليها .... وأن مايكل جاكسون قد وصل بأدائه الغنائي إلى العالمية ... وأن فرقة أبا السويدية وصلت للعالمية من باب اللغة الإنجليزية . و"بوب مارلي" كذلك .... وأن بوب مارلي مثلاً لم يتمكن من الوصول إلى العالمية إلا بعد أن تخطى لهجته المحلية ، ورضخ للشروط والمقاييس العالمية المتعارف عليها رضينا أو أبينا .. وهي اللجوء إلى اللغة الإنجليزية ، وطرح ومناقشة قضايا عالمية ، وإستخدام آلات الإيقاع العالمية والسلم الموسيقي المتعارف عليه أيضا ، ومزج كل هذا مع إيقاع الريقي بمهارة فائقة وعبقرية إستثنائية لا تعطي ناصيتها لكل من هب ودب ؛ وإن كان من أصحاب الموهبة ... وفوق كل هذا وذاك إتكائه على ماكينة الإنتاج الأمريكية السوبر .
 
شكسبير

وكذلك وصل البعض المئات الآخر للعالمية من مطربين ومخرجين وممثلين سينمائيين وكتاب سينما ومسرح .. إلخ بعد أن أخضعوا إنتاجهم للمقاييس العالمية المتعارف عليها في العالم وأهمها اللغة الإنجليزية .. بل رأينا ممثلين أمثال ألان ديلون وجان بول بلمندو الفرنسيان و سلفستر إستالون الإيطالي .. ولاعب الكاراتيه الصيني بروس لي .... وقائمة طويلة من آخرين ذكور وكذلك إناث أمثال برجيت باردو الفرنسية وصوفيا لورين الإيطالية وانجريد بيرجمان السويدية و رومي شنايدر على سبيل المثال لا الحصر لم يتمكنوا من الوصول للعالمية إلا بعد خضوعهم للمقاييس العالمية المتعارف عليها ؛ وأهمها الإطلالة من خلال هوليود والأداء باللغة الإنجليزية بوصفها اللغة التي تتسيد لغات العالم ... وقس على ذات المقياس كتاب قصص وروايات بالمئات من مختلف القارات والثقافات ؛ لم يصلوا بإنتاجهم المحلي للعالمية إلا بعد ترجمته للغة الإنجليزية ، وتقديمه للقاري داخل هذا القالب اللغوي خضوعا للشروط والمقاييس المشار إليها أعلاه.

بروس لي
وقد شملت هذه الشروط والمقاييس دول عظمى أخرى مثل روسيا واليابان والصين ، لا يعرف لها إبداعاً غنائياً وسينمائياً أو مسرحياً وروائياً وصل إلى العالمية بلغتها الأم مباشرة حتى تاريخه ، رغم أنها في خانة العمالقة على نطاق العالم إقتصادياً وصناعياً وعسكرياً وذات كثافة سكانية.

ولا يقتصر وصف (العالمية) على المنتجات الفنية بل يمتد ليشمل حتى عارضات الأزياء والمنتجات الصناعية والغذائية .. وأهم هذه المنتجات الغذائية نجد "الهوت دوغ" الذي لم يصل للعالمية إلا بعد  أن خرج من ألمانيا إلى الولايات المتحدة أولاً ... وكذلك الهامبرغر . ثم والبيتزا التي لم تصبح وجبة عالمية إلا بعد أن خرجت من إيطاليا إلى الولايات . والعديد من ماركات الشكولاتا العالمية التجارية وغير ذلك من منتجات أخرى شملت حتى الأحذية.

و من الضروري أن يلتفت البعض إلى أن من أهم شروط العالمية أن يتصف المنتج الفني مثلا بصفة الإستمرار بحيث يصبح القاعدة وليس الإستثناء . وأن يتسم كذلك بالشيوع والتداول بين كافة الشعوب والثقافات .. وأن يحظى بالشفافية والمصداقية وإحترام الناس ...... أما أن يخرج مطرب سوداني أو فرقة موسيقية للمشاركة في مهرجان ما مختص بفنون الشعوب  وتراثها فنقول أننا وصلنا به إلى العالمية ؛ ففي هذا مبالغة وإحساس داخلي باليتم والوضاعة.... أو أن يسافر مطرب للغناء للجاليات السودانية المنغلقة على ذاتها في الخارج فنعتبر ذلك وصول للعالمية ، فهو كلام فارغ ؛ لاسيما عندما تلح الكاميرات على إلتقاط وتوثيق حضور شخصين أو ثلاثة أجانب يكون الإثنين منهما أصحاب الصالة  ، والثالث هو الكفيل المحلي الذي أستخرجت بإسمه الرخصة وتأشيرات الدخول للمطرب وفرقته الموسيقية.
 
مدرسة في ولاية البحر الأحمر

حتى البعض البسطاء صدّعوا رأسنا بأن مهرجان البحر الأحمر للسياحة والتسوق قد أوصلنا للعالمية . وأصبحنا ننافس مهرجان كــان ، و دبي ، وهونغ كونغ ، وميلانو ، والبندقية بقوة ..... وربما يظن البعض أن حضور تركيان من أصحاب محلات الشاورما  في بورتسودان لحفل غنائي (بغرض الإطمئنان على أسياخها) في ما يسمى جزافاً بمهرجان السياحة والتسوق إياه دليل دامغ لوصولنا للعالمية ، ويجب تسجيله في موسوعة غينيس للأرقام القياسية .

هل نحن بسطاء وبلهاء ودراويش إلى هذا الحد ؟

أم هل أننا نتعمد الكذب على أنفسنا؟

أم هل هو منتج من منتجات من تسلقوا المناصب الرسمية بليل ؛ دون كفاءة . ودون مواهب سوى موهبة النفاق والقدرة على التلـوّن كالحرباء ؟
 
 
غريب أن يكون هذا حالنا في الوقت الذي نعتبر فيه من الدول الأفريقية والعربية المعدودة في مجال إنتشار التعليم الأكاديمي ... وكانت الثورة المهدية من أهم وأبرز حركات التحرر والتنوير التي سادت السودان في وقت كانت فيه أفريقيا والغالبية العظمى الكاسحة من العالم العربي والآسيوي واللاتيني تعاني الأمية وتقبع راضيـة في ظلمات الجهل وعدم الوعي الوطني.

هل نحن دراويش وبلهاء حقاً أم أنه توجه من الدولة للتعمية والتغطية على جملة من الكوارث الداخلية والفشل في مجال العلاقات الخارجية .. بل وما بتنا نتصف به من قدرة فائقة على "صناعة الفشـل" ؟


وفي هذا الإطار ؛ فإنها إن كانت سياسة دولة ؛ فقطعاً  لا يستوعب ولا يدرك الجهاز الدعائي الرسمي للدولة الذي يتولى تسويق هذه "النبرة الإنصرافية" المليودرامية ... قطعاً لا يدرك أن معدلات الوعي لدى المواطن السوداني قد إرتفعت .. وأن نسبة الأمية قد إنخفضت خلال السنوات التي أعقبت الإستقلال وحتى تاريخه ..... ربما لا  تكون المخرجات التعليمية بذلك القدر من النوعية المرتجاة .. ولكن برغم ذلك فهناك نسبة عالية من الوعي والإدراك قد تشكلت جراء عدة أسباب أهمها توسـع التعليم جغرافياً ، تزايد الهجرة إلى المدينة ، الإغتراب وشيوع المعرفة والقنوات الفضائية العربية ، وعبور ثورة المعلوماتية كل الحدود المغلقة رغم أنف جميع من لا يرغب ...
 
ومن ثم فقد كان ينبغي أخذ هذه المعطيات في الإعتبار عند التخطيط الرسمي في مجال الدعاية وغسل الأدمغة ، وإطلاق أكاذيب كبرى ينصرف بها الشعب إلى فراشه لينام وهو راض إلى حد مّا عن حالة ، ومتوهم لإنجازات تتطابق مع قناعات "قميص فرعون".
 
 
ربما نكون قد وصلنا للعالمية من واقع أمثلة عديدة من منتجات صناعة للفشل لعل أبرزها أننا قد أحرزنا المركز الرابع عالمياً في قائمة الدول الأكثر فسـاداً ...... فساد وصل إلى درجة أكل أموال الزكاة بدمٍ خنزيري بارد ، يندى له جبين أبو جهل وأبو لهب وإمرأته حمالة الحطب .......
 
يا الفريد في عصــرك


 
ثم وأننا أكثر الدول العربية تعرضاً للمجاعات والإصابة بمرض نقص المناعة (الإيدز) .... والقائمة تطول وتتنوع من كل صنف ولون لتشمل كوارث دارفـور ، والباعوض ، والجنادب والتقاوي الفاسـدة .... فهل هذه هي العالمية التي يقصدون بها أم ماذا؟

كارثة دارفور ... أوصلتنا للعالمية
 
دعونا في الأول نلبي طموحنا في الشبع الفسيولوجي والميكانيكي ..... نشبع في بطوننا ونرتوي في عروقنا ، ونعالج أنفسنا من الملاريا والجرب والدرن . ويحصل المواطن على أبسط حقوقه في التعليم والمأوى والعمل والعيش الكريم ، والبيئة الصحية والكهرباء ، وحرية التعبير عن الرأي .. والدستور المتوافق عليه ........ ثم بعد ذلك (إنشـااااء الله) يكون لكل حادثة حديث .....