الثلاثاء، 31 مايو 2016

شهادة الترابي على العصر (حلقة 6)

شهادة الترابي على العصر
 
 
حلقة (6)
مصعب المشرّف
31 مايو 2016م

في الحلقة السادسة من شهادته على العصر . كان أهم ما جاء على لسان حسن الترابي يتمحور في الآتي:

1)  دخول الترابي وحزبه في بيت الطاعة المايوي وإنخراطهما في عضوية الإتحاد الإشتراكي .. وما تلا ذلك من تكليف الترابي بمناصب رفيعة في هذا الإتحاد وتسليمه حقائب وزارية  حساسة.
2)   قوانين سبتمبر 1983م.
3)      إعدام المهندس محمود علي طه مؤسس ورئيس الحزب الجمهوري بتهمة الردة.
4)      جريمـة تهريب الفلاشا إلى إسرائيل .....

إنخراط الترابي في عضوية الإتحاد الإشتراكي:
فيما يتعلق بإنخراط الترابي وحزبه في الإتحاد الإشتراكي . فقد أنكر الترابي مشاركته في فعاليات هذا التنظيم الشمولي .....
وبذل الترابي كذلك قصارى جهده لإقناع المشاهد والمستمع بأن تقلده لمناصب وزارية وتنظيمية في عهد الرئيس نميري . إنما كان صورياً ؛ وأنه حين كان مستشاراً لنميري لم تتم إستشارته بتاتا..............
ولكن الترابي دائما ما يقع في شر أعماله ويفضح أكاذيبه بنفسه ..... فقد عاد وطفق يؤكد أنه كان يجتمع بنميري (على إنفراد) وأن نميري كان يشكو إليه من فداحة مسئولية السلطة والحكم ويستشيره ... وأنه كان ينتقد قرارات نميري في تلك الجلسات التي تجمعه معه ويتحدث إليه حديث الأستاذ للتلميذ.

الطريف أن جعفر نميري لم يكن في يوم من الأيام تلميذا للترابي ... لا بل كان زميله في مدرسة حنتوب الثانوية . وكان يشاطره السكنى في  داخلية أبوعنجة ... وقد أكد النميري في أكثر من "ونسة خاصة" أنه كان يشمل الترابي بحمايته في الداخلية ؛ ويحول بينه وبين أطماع ومخالب الشواذ الجنسيين من بعض الطلاب (زوار منتصف الليل) ؛ الذين إشتهرت بهم داخليات المدارس على مختلف مراحلها منذ تكريس هذا النظام التعليمي الداخلي على عهد الإستعمار وإلى سنوات قريبة.
وقد كان لهذه الظاهرة التي جاءت ضمن إفرازات مدارس الداخليات الحكومية أن إنتشرت نماذج من المتدينين بالظاهر أو من أصطلح على وصفهم بـ "المولانات" في مرحلة الدراسة الوسطى والثانوية خاصة .... حيث كان كل من يخاف على نفسه من "زوار منتصف الليل" يسارع إلى الإنخراط في جماعة الإخوان المسلمين . فيحمل لقب "مولانا" ويدخل في مظلة حمايتهم دون أن يكون مقتنعاً في دواخله.
وكان لهذا المنحى أثره لاحقا حين ترتب على ذلك صعود شخصيات قدمت نفسها نماذج تدعي التدين والورع .. لا تحفظ القرآن الكريم ؛ ولا تشغل نفسها بالسيرة والسنة النبوية الشريفة ...... ترفع رايات الاسلام في الظاهر .. تصلي وتصوم كما يفعل الناس تعفي اللحى وتحف الشوارب .... تلوح بأصبع السبابة تهتف هي لله هي لله ... ولكنها في دواخلها وسرائرها حاقدة موتورة متعفنة  .....
ومنهم من إلتحق بالمرحلة الجامعية قادما من الأرياف ؛ فإصطدم بمجتمع الخرطوم وزغللت عينيه أضواء النيون (حين كانت في الخرطوم كهرباء) .. ومنهم من   كان يعاني من الدمامة أو عدم الثقة في الجنس الآخر ؛ والميل إلى إحتقاره لسبب إقتصاره على المحرض الجنسي فيه .
وحين إقترب من هذا الجنس الآخر  في الحرم الجامعي والجلسات الطلابية تحت الأشجار ؛ لم يتمكن من إحتمال بوادر الرفض . فوجد في إدعاء التدين الملاذ لإستعادة الكرامة والظهور بمظهر المستغني ...... ولسان حاله يردد (بيدي لا بيد عمرو).
وما أسهل (إدعاء) التدين ... فما على الذكر سوى إعفاء اللحية وحف الشارب وتعديل مظهرة الخارجي 1400 عام إلى الوراء ً .. أو إرتداء الحجاب إذا كانت أنثى ؛ ثم الإحتجاج على (الأخر) بتكفيره وعلى (الأخرى) بسقوطها الجنسي ... ويا بلاش..

وقد شهدت البلاد خلال فترة سيطرة جنود وغلمان الترابي على السلطة ؛ وتمتعهم بالنفوذ المطلق أن تفشى الفساد الأخلاقي في كل جانب ؛ وظاهرة سرقة المال العام على نحو غير مسبوق .  والتدني والإنحطاط الملحوظ في القناعات والقيم ؛ والحجر على ميادين الفكر والأدب والثقافة والفنون ..... فحدثت فجوة واسعة إنقطع فيها التواصل الحضاري الطبيعي التدريجي بين أجيال الماضي والحاضر على هذا النحو الذي تبدى اليوم في كل شيء من منتجات فكرية وفنية وثقافية.    
.........................
تملص الساسة والتكنوقراط من جعفر نميري:
من العبث بمكان أن يتعامل كثير من الساسة وأهل الفكر مع الأنظمة الشمولية التي إنخرطوا فيها وقدموا لها خدماتهم .... من العبث أن يتعامل هؤلاء مع تلك الأنظمة بعد فصلهم منها على طريقة النساء في وصف أزواجهن بعد الطلاق ....
ونستغرب هنا أن ينحى الترابي وغيره في تورطهم مع جعفر نميري ونظامه الشمولي أن ينحى هؤلاء منحى المرأة الغجرية تجاه زوجها المفلس بعد طلاقه لها ؛ فتتباهى بأنها لم تـحـبـل منه.

وإذا كانت الصحافة الورقية وأجهزة الإعلام المتاحة في الماضي قد حالت ولا تزال دون الشفافية وحرية التعبير . وتحجم عن نشر الحقائق والتوثيق الصادق ... فإن على أمثال هؤلاء من الساسة والتكنوقراط أن يدركوا أن اليوم ليس كالبارحة ... وأن  الغد سيكون أكثر شفافية ؛ بعد أن وجدت الأقلام المحجورة ، والأفكار والآراء والحقائق المجردة متاعها وسراحها وتنفسها في وسائط المعلوماتية الحرة الرائجة على مدار الساعة.
..............................
حين أقدم نميري على إصدار قوانين سبتمبر 1983م سيئة السمعة .. فهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن أقنعه الترابي بإصدارها ..
وكان لهذه التجربة الكسيحة آثار وخيمة لا يزال المجتمع السوداني يعاني منها بما لا يخفى على أحد . وقد كان من أبرز سلبياتها أن فقد السودان مكانته كدولة ذات مصداقية . وعانى فيه الفقراء وحدهم من المطاردة وتنفيذ الأحكام .

وكان من ضمن آثار تطبيق قوانين سبتمبر 1983م إندلاع التمرد مرة أخرى في جنوب السودان السابق . وامتدت حرائقه فيما بعد إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق . وأضر ضرراً بالغاً بمسيرة الإقتصاد وقدرات البلاد على النمو وتوفير أدنى متطلبات الحياة من تعليم وطاقة وماء وخدمات صحية وتعليمية ..... إلخ.
.....................................
تخـاصم أهـل النــار:
ويأتي الترابي إلى حادثة الحكم بإعدام المهندس محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري . فيزعم أن نمبري هو الذي أصر على تنفيذ هذا الحكم بسبب أن محمود محمد طه قد عارض قرارات سبتمبر 1983م .
الترابي لا يستطيع إنكار مسئوليته وحزبه في مطاردة محمود محمد طه ؛ وتجريمه وتكفيره منذ فترة الديمقراطية الثانية .

أسس محمود طه حزبه السياسي في أكتوبر 1945 .... ولكنه بدأ ينشر ويجاهر بأفكار وآراء عن العبادات الإسلامية أثارت عليه الكثير من العداءات . وكان على رأس هذه الآراء زعمه أنه يؤدي الصلاة أصالة في علاقة مباشرة مع الله ؛ وليس تقليداً للصلاة التي يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم..

أبرز جوانب الخطأ في قناعات محمود محمد طه أننا لا نـقـلـد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق المصطفى المعصوم الصادق المصدوق المشفع .... فهو أرفع مقاما من التقليد  وتعجز قدرات البشر العادية ودرجاتهم الإيمانية مهما سمت عن تقليده صلى الله عليه وسلم .... ولكنها الطـاعــة والحــب والإقتداء والإتبــاع بقلوب ضارعة إلى الله عز وجل.

وأغلب الظن أن محمود محمد طه قد اختلط عليه الأمر مابين إمكان أن يكون العبد  مستغرقا في صيانته لعلاقته الفردية بالله عز وجل بصلاة دائمة غير مفروضة (أو بما يتعارف عليه بالخلوة في الجلوة .. والخلوة في الإنكفاف )  ...... وبين أن يـظــل العبد مطالب خلال ذلك وفي كافة الأحوال بأداء الصلوات الخمس المفروضة في مواقيتها على النحو الذي أداهــا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم... وعزز ذلك بقوله [صلوا كما رأيتموني أصلي] .. وكفى .

وبناء على توجهات محمود محمد طه  تلك ؛ فقد تقدم مواطنون ببلاغ ضده . فأدين وحكم عليه بالردة في فبرايرعام 1968م .  ولكن لم يصدر بحقه إعدام . وإنما أمر باالتوبة عن جميع الأقوال والأفعال التي أدت إلى ذلك ؛ بحسب ما جاء في نص الحكم الصادر بحقه.

بمعنى آخر فإن محمود محمد طه قد أعيدت محاكمته في 1985م بنفس التهمة التي صدر بحقه حكم قضائي فيها . في الوقت الذي إمتدت المدة ما بين المحاكمتين (16 عام) . وأصبح من السخرية إدانة متهم في موضوع واحد مرتين.

على أية حال فقد كان الترابي وجنوده هم الذين ضغطوا في إتجاه إعدام محمود محمد طه في يناير 1985م .. وأن نميري قد أخطأ في الإنقياد لهم لسبب يتعلق بجهله وتخبطه في تلك الفترة .. وحيث لايستقيم إعدام شخص مدني لمجرد أنه إعترض بالرأي على قرارات سبتمبر 1983م دون أن يعلن حالة عصيان أو يحمل سلاح... أو بمعنى أن إتهام الترابي نميري بأنه هو الذي سعى إلى إعدام محمود طه إنما يجيء لغرض التملص من المسئولية التاريخية لا غير.

والمفارقة أنه تم إصدار حكم آخر في عام 1986م ببطلان حكم الردة الصادر في حق محمود محمد طه والحكم الصادر بإعدامه شنقا ....

لم تكن مجريات محاكمة يناير 1985م عادلة على النحو المفترض . فقد كانت سريعة سطحية  .. ولم يتم الإستعانة بعلماء دين من خريجي مؤسسات إسلامية ؛ يناقشونه على أقل تقدير ويفندون له مزاعمه على الملأ ....


محمود محمد طه
كان واضحاً أن محمود محمد طه قد كان مسـتـهدفــاً .... وأن قرار إعدامه قد صدر سلفاً خارج قاعة المحكمة .. وأن الترابي إنما كان يظن أنه بذلك سيحظى لتياره (الإسلامي السياسي) بالمزيد من الأتباع .. وأنه سيبث الرعب في قلوب خصومه .... ولكن جاء الأمر على عكس ما يشتهيه.

وخلال هذه الحلقة السادسة من شهادته على العصر تعدى الترابي باللفظ والسخرية من محمود محمد طه وطال تعديه أسرته .. فوصفه كذبا أنه كان يعمل "مسـاحـاً" .. وأن أسرته كانت مشعوذة ومخبولة .. وكل ذلك التعدي كان يتدفق من لسان وفم الترابي على طريقته المعهودة في الضحك وإصدار الشخـير أثناء الكلام. وبما يزيد من نفور المشاهد والسامع.
فإذا كان الترابي (كما يدعي) لا يحمل في دواخله وأجندته عداءاً للمهندس محمود محمد طه  ؛ فلماذا يسخر منه على هذا النحو الشخصي الصادر من لسان  مسموم؟

وقد كان الرأي العام الذي تمخض عن هذه المحاكمة هو تعزيز الإنطباع أن جعفر نميري قد طاش عقله ... وأنه قد تـفـرعــن ، وأصبح يجمع حوله السحرة والحـواة والمشعوذين ومدعي الورع ؛ ومحاطاً براميات الودع ، وقارئات الفنجان .... ثم وجماعة متأسلمة تستخــف قـومهــا بإسم الديـن ... وتضع كراسي الحكم نصب أعينها ؛ وتستسهل التعذيب وإلحاق الأذى ؛ وسفك الدماء وإراقتها ... وقتل الأنفس بلا حق في سبيل الوصول إلى هذه الكراسي . والبقاء فيها دون إكتراث بغضب الله وإنتقامه في الدنيا ثم سؤال القبر وعذابه .... ثم سؤال وعذاب الآخرة وما أدراك ما عـــذاب  الآخرة.
.............................
جريمة تهريب الفلاشا إلى إسرائيل:
لم يظهر الترابي إهتماما كثيراً بالإجابة على سؤال لمحاوره عن مقدار علمه بجريمة تهريب الفلاشا إلى إسرائيل ....
والشاهد أن الترابي إن كان صادقاً في قوله أنه لم يشارك في هذه الجريمة. إلا أنه لا يستطيع الإدعاء بعدم علمه بها أو بتفاصيلها ... وذلك في الوقت الذي سمعنا فيه نحن المواطنون العاديون بها في حينها . وأن هناك عمليات إستيعاب ونقل مشبوهة تتم في هذا الإطار بعلم وأوامر من جعفر نميري ؛ تحت إشراف نائبه ورئيس جهاز الأمن القومي اللواء عمر محمد الطيب.
ولكن المثير للتساؤل هو إدعاء الترابي بأن المتورطين في هذه الجريمة قد حوكموا ونالوا جزاءهم ..  ولكن الواقع لا يشير إلى ذلك على النحو الذي إختصره الترابي .
لا بل على العكس من ذلك فقد منحت لهم مفاصل الديمقراطية الثالثة المائعــة .... منحتهم العفو فغادروا البلاد يستمتعون بما قبضوا من رشاوي وعمولات ومكافآت بملايين الدولارات ؛ دون أن تدمع لهم عين عن تلطيخهم لسمعة السودان .... أو حين يشاهدون جنود إسرائيل الفلاشا يفتكون بالمسلمين في غزة والقدس والضفة الغربية.... لا بل ويتبجحون كعادة اللصوص في تبريرهم لجرائمهم ودناءة أخلاقهم بالقول : "لو لم نفعلها نحن لكان قد فعلها غيرنا".


اللواء عمر محمد الطيب
وبالطبع فما كان لهؤلاء وعلى رأسهم اللواء عمر محمد الطيب الذي تمت إدانته والحكم عليه بالمؤبد ؛ أن يجد طريقه سالكا محفوفا بالورود والرياحين طليقا خارج السجن والبلاد لولا أنه قد أفلح في رشوة العديد من المسئولين في الديمقراطية الثالثة ؛ الذين جاءوا عطشى وجوعى من المنافي إلى كراسي الحكم. ......

في كتاب (أشهر المحاكمات السياسية في السودان) من إعداد وتقديم المحامي السوداني الراحل هنري رياض . فقد جاء الآتي تحت عنوان محاكمة ترحيل اليهود الفلاشا – عمر محمد الطيب وآخرين. على رأسهمها العقيدان في جهاز الأمن القومي المنحل الفاتح عروة ، و موسى إسماعيل:
ونظراً للسرية التامة التي صاحبت تنفيذ تلك الجريمة . فقد وافق النائب العام على منح العفو للضباط الأربعة الذين أشرفوا على التنفيذ المباشر ؛ شريطة التحول إلى شهود إتهام (شهود ملك). وكان على رأسهما العقيدان / موسى إسماعيل و الفاتح عروة.

جريمة تهريب الفلاشا الثانية الرئيسية:-
وبحسب ما جاء على لسان ممثل الإتهام . فقد تلخصت الواقعة في الآتي:
في أوائل أكتوبر 1983م أمر المتهم (عمر محمد الطيب) شاهدي الإتهام  الأول والثاني
 العقيدان في الجهاز حينذاك (موسى إسماعيل و الفاتح عروة) بالإشراف على تنفيذ خطة رسمت في السفارة الأمريكية بواسطة المدعو جيري ويفر الذي كان يوصف بأنه مسئول اللاجئين في السفارة .
وتهدف الخطة إلى ترحيل ما بين تسعة وعشرة آلاف من اليهود الفلاشا من معسكر تواوا للاجئين بالإقليم الشرقي إلى الخرطوم بواسطة أربعة باصات . دفع جيري ويفر مبلغ إثنين وثلاثين جنيه نقدا أجرة إستعمالها ريثما يتم تجهيز أربعة باصات جديدة استوردها الأمريكان خصيصاً لهذا الغرض . ومن الخرطوم يغادر اليهود السودان عن طريق الجو . وقد تكفل جيري ويفر هذا بتوفير أدوات الإتصال اللاسلكي والقيام بجميع النفقات الأخرى اللازمة لتنفيذ خطة الترحيل . وفي هذا الإطار دفع ستة آلاف جنيه إيجار لمنزل في القضارف كما إستأجر محزنا وضعت فيه ثلاثمائة برميل جازولين.
وجه المتهم عمر محمد الطيب العقيدين (موسى إسماعيل و الفاتح عروة) بوجوب تنفيذ الخطة الأمريكية بحذافيرها مؤكداً طبيعة المهمة السرية ومشددا على ضرورة الإقتصار على أعضاء الجهاز فقط في التنفيذ بمن في ذلك سائقو الباصات التجارية المستأجرة ؛ شريطة أن لا تدخل الباصات الخرطوم قبل منتصف الليل . وأن لا تهبط الطائرات إلا بعد منتصف الليل ، وأن يتم تحميلها فور وصولها باليهود ؛ وأن يتم ذلك في مكان يقع في أقصى جنوب مطار الخرطوم دون أية إجراءات جوازات أو صحة أو جمارك أو خلافه .
ومبالغة في الإحتياط أمر المتهم العقيدين بالإتصال به مشافهة فقط فيما يتعلق بالعملية . وعدم الكتابة إليه إلا في حالة الضرورة القصوى . وحتى عندئذٍ عليهما الإشارة إلى العملية بإسم (الشرق) كشيفرة.
سارت عمليات الترحيل حسب الخطة الموضوعة . وكان المدعو جيري ويفر يشرف عليها ويتابعها شخصيا من مطار الخرطوم بعد أن كان قد أشرف على الترتيبات في القضارف . ثم صحب أول قافلة تحركت من هناك في 21 نوفمبر 1984م . وتولت النقل الجوي شركة طيران بلجيكية يسمونها ( Trans European Airway) قامت بثمان وعشرين سفرية على مدى خمس وأربعين ليلة ؛ نقلت فيها 6150 يهودي . 
 
 
وكانت اللطائرات تهبط ليلة وتغيب ليلة ، ولكنها صارت تهبط وتقلع بعد منتصف كل ليلة بناء على إلحاح جيري ويفر . وبناء على أوامر أمن الدولة إلى سلطات مطار الخرطوم . ولم تدون في سجل حركة الطائرات أية معلومات عن نوعية الطائرات ولا مالكها ولا وكيلها بالخرطوم . ولا البلد الذي أتت منه ولا المكان الذي سافرت إليه . كذلك لم تدون الشركة الناقلة في سجل تحركات الطائرات أية معلومات عن نوعية طائراتها أو الركاب سواء كانوا عابرين أو نازلين أو راكبين . ولا أية تفاصيل عما تحمله من أمتعة أو بريد ؛ ولا شيء عن مواعيد هبوطها أو إقلاعها . بل أن وكيل الشركة لم يوقع على هذا الدفتر بتاتاً كما كان المفروض. كما كان جنود أمن الدولة يضربون سياجاً مسلحاً حول الطائرات منذ لحظة هبوطها وحتى لحظة إقلاعها لمنع كائن من كان من الإقتراب منها أو ملاحظة ما يجري فيها . ولولا أن قسم المراقبة الجوية بالمطار يحتفظ بسجلاته الخاصة المتعلقة بحركة الطائرات في المطار لما ظهر أي أثر في سجلات المطار لمجرد هبوط تلك الطائرات الثماني والعشرين في أرض المطار.
ليلة 4 – 5 يناير 1985م غادرت مطار الخرطوم الرحلة الثامنة والعشرون . وفي تلك الليلة حدث ما لم يكن بالحسبان فقد أذاعت محطة لندن (بي بي سي) في نشرتها الأخبارية المسائية تفاصيل دقيقة عن عملية الشرق . وأكدت أن اليهود قد وصلوا إلى إسرائيل  من السودان عبر جسر جوي مباشر . فكان أن توقفت بقية السفريات المزمعة نتيجة إفتضاح العملية.

في 4 مارس 1985م حضر جورج بوش نائب الرئيس الأمريكي (آنذاك) إلى السودان . وكان المتهم الأول (اللواء عمر محمد الطيب) هو مضيفه الرسمي . وأثناء تلك الزيارة حصل بوش على موافقة السلطات السودانية على إستئناف ترحيل اليهود الأثيوبيين بطائرات أمريكية هذه المرة.

في 18 مارس 1985م سافر المتهم (اللواء عمر محمد الطيب) إلى الولايات المتحدة بطائرة عسكرية أمريكية خاصة . وصحبه في نفس الطائرة ميلتون بيردن رئيس وكالة الإستخبارات الأمريكية (CIA) في السودان . وفي واشنطون إجتمع المتهم بضباط من سلاح الطيران الأمريكي . وخلال عشر دقائق وافق المتهم على مخططهم القاضي بإرسال  طائرات غير عسكرية إلى العزازة بالقضارف مباشرة لتقل اليهود من السودان.

عاد المتهم (اللواء عمر محمد الطيب) إلى السودان في 20 مارس 1985م . وخابر القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع بأن هناك طائرات أمريكية ستهبط في العزازة بالقضارف تحمل مؤنا للاجئين . طالبا منه عدم تعرض أسلحة الدفاع الجوي لتلك الطائرات . وأمر شاهد الإتهام الثاني (الفاتح عروة) بالإشراف على العملية . وحضر فنيون أمريكان هيأوا وسائل الإتصال .
وفي 22 مارس 1985م هبطت في العزازة ست طائرات نقل عسكرية أمريكية ، نزلت منها حوالي فصيلة من جنود البحرية الأمريكية المسلحين تولوا تأمين المطار ريثما ركب في الطائرات حوالي 450 من الفلاشا وأقلعت بهم إلى غاية مجهولة.

كانت الحصيلة من الجريمتين (الفلاشا الأولى والثانية) هو تهريب 25,000 لاجيء من يهود الفلاشا إلى إسرائيل وغيرها من الدول الأوروبية الأخرى ....

وقد صدر الحكم في هذه الدعوى بإدانة اللواء عمر محمد الطيب والحكم عليه بالمؤبد ومصادرة   
.....................
جريمة تهريب الفلاشا الأولى:
تمت هذه الجريمة في ظروف غامضة دون أن يتم الكشف عن المتورطين فيها من الجانب الرسمي السوداني .. ولا يعرف عدد الفلاشا الذين تمكن تهريبهم إلى إسرائيل خلالها ....
وتشير التحريات في هذا الجانب إلى أن اليهود الأثيوبيين المعروفين بالفلاشا وموطنهم منطقة قوندار في أثيوبيا بدأوا هجرة منظمة إلى إسرائيل . وأن حماعات منهم تسللت إلى السودان ثم غادرته خفية عن طريق الخرطوم - جوبا – نيروبي . وعن طريق مجموعة غامضة من الأوربيين كانت تستأجر قرية عروس السياحية على البحر الأحمر شمال بورتسودان كما سافرت مجموعات أخرى بطائرات كانت تهبط ليلاً في مطار كارثانو المهجور بالقرب من أركويت وفي منطقة المحرقات بالقرب من الشوك . هذا فضلا عن أعداد غادرت السودان علنا تحت ستار برنامج إعادة توطين اللاجئين الذي يشرف عليه معتمد شؤون اللاجئين بالسودان.
كان جهاز الأمن القومي السوداني قد تلقى تنبيها من جهاز الأمن الأثيوبي في مايو عام 1980م بأن هناك عمليات ترحيل مشبوهة لليهود الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان وأثينا تديرها شبكة على إرتباط بالموساد (جهاز الإستخبارات الإسرائيلي).
وقد تنبهت أجهزة الأمن السودانية إلى واقع عمليات الترحيل هذه عام 1981م .. وفي عام 1983م تم إعتقال مواطنين أمريكيين في جوبا.

حصيلة العملية:
 كانت الحصيلة من الجريمتين (الفلاشا الأولى والثانية) هو تهريب 25,000 لاجيء من يهود الفلاشا إلى إسرائيل وكندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى ....

أتعــاب اللواء عمر محمد الطيب:
منحت الولايات المتحدة مبلغ 2 مليون دولار إلى اللواء عمر محمد الطيب كمكافأة تم إيداعها في بنك أوروبي ..... في حين رفض شهود الإتهام الإعتراف بحصولهم على أتعاب أو الإفصاح عن المبالغ التي منحت لهم كمكافآت . وكاد ذلك أن يعصف بقرار العفو عنهم اعلى شرط تحولهم إلى شهود مـلــك.

وقد صدر الحكم في هذه الدعوى بإدانة اللواء عمر محمد الطيب ؛ والحكم عليه بالمؤبد ومصادرة أمواله ..... وذلك بحسب التفصيل التالي:
الحكم:
حكمت المحكمة على المتهم : عمر محمد الطيب بالآتي:
1-   السجن المؤبد لمخالفة المادة 97 عقوبات.
2-   السجن المؤبد لمخالفة المادة 96 عقوبات.
3-   لمخالفة المادة 6 من قانون مكافحة الثراء الحرام.
أ‌)      السجن لمدة ثلاث سنوات.
ب‌) الغرامة أربعة وعشرين مليون ومائة وعشرين ألف جنيه (6 مليون وثلاثين ألف دولار أمريكي وقتها)  . وفي حالة عدم الدفع يسجن لمدة أربع عشر سنة.
أمر: تحصل الغرامة عن طريق المادة 249 من قانون الإجراءات الجنائية بالإستيلاء على منقولات المتهم وعقاراته وبيعها.
4-   لمخالفة المادة 70 من قانون الطيران لسنة 1960م مقرونة بالمادة 85 عقوبات لسنة 1982م.
أ‌)      السجن لمدة سنة.
ب‌)  الغرامة مبلغ واحد ألف جنيه . وفي حالة العدم يحبس سنة أخرى.
5-  لمخالفة المادة 42 (2) من قانون جوازات السفر والهجرة لسنة 1960م مقروءة مع المادة 84 من قانون العقوبات.
أ‌)      السجن لمدة ستة أشهر.
ب‌)  الغرامة مائة جنيه وفي حالة العدم يحبس ستة أشهر أخرى.
أوامر أخرى:
1-   يصادر مبلغ المائة وخمسين ألف دولار المعروضة.
2-   تصادر الباصات الأربعة المعروضة واللوري وسيارة اللاند كروزر.
3-   تسلم نماذج البناء المعروضة وحهاز اللاسلكي إلى جهاز الأمن.
4-   معروضات الإتهام ( 1 و 2) تسلم إلى مصلحة الطيران المدني .

التوقيع:
عبد الرحمن عبده عبد الرحمن – قاضي المحكمة العليا ، رئيس المحكمة.
حسين عوض أبو القاسم – قاضي محكمة الإستئناف ، عضو المحكمة
التاريخ: الخامس من أبريل 1985م.
...........................
الحكم لمخالفة المادة (7) من قانون مقاطعة إسرائيل.
1-   السجن لمدة خمس سنوات.
2-   تصادر الباصات الأربعة المعروضة واللوري وسيارتي اللاند كرزر وجهاز اللاسلكي.
 التوقيع:
عبد الرحمن عبده عبد الرحمن – قاضي المحكمة العليا ، رئيس المحكمة.
حسين عوض أبو القاسم – قاضي محكمة الإستئناف ، عضو المحكمة
التاريخ: الخامس عشــر من أبريل 1985م.



وبالطبع لم يتم من ذلك شيء .. وإستطاع عمر محمد الطيب الإفلات ومغادرة السودان . ولم يتم توثيق مكان إقامته إلا بعد سنوات حيث سافر إليه المذيع عمر الجزلي في مدينة جدة بالسعودية وأجرى معه عدة لقاءات في برنامجه التلفزيوني  (أسماء في حياتنا).......

المذيع عمـر الجـزلي - 
ويا لسخرية الأقدار حين قدم عمر الجزلي لمضيفه اللواء عمر الطيب بالقول:
[ على إمتداد التاريخ الإنساني .. تلمع أنوار تأبى أن تخبو ... لأنها لمعت على الإنسانية بأبهى الأضواء . فبددت أشجانها ومست أجفانها بأحلام ساحرة . وهدهدت نفوسها بأنغام آسرة . ثم مضى منها من مضى من عالم الأجسام الزائل . لكن صداها خالد على الأيام والأحداث التي تمضي ثم تنسى . ومثلما تنبت هذه الأرض المعطاءة الأزاهير من بين الأشواك . فإن ذات الأرض الحبيبة الطيبة قد أنجبت أفذاذاً متفردين . رجالاً ونساء صنعوا وصاغوا تاريخنا السياسي والفكري والأدبي والفني . فخلدت أسماؤهم وصاروا أسماء في حياتنا] .

ألا يستحي عمر الجزلي من ترديد مثل هذه المقدمة في حق شخص هانت عليه بلاده وعروبته وإسلامه ؟
ألا يستحي عمر الجزلي هنا من محاولته إستغفالنا وإستهبالنا؟
أم أن المسألة كلام في كلام .. ومحاولة فاشلة ساذجة لتلميع أناس خانوا بلادهم .. أدينوا وحكم عليه بالمؤبد في دعاوى أضرت بأمن البلاد القومي . ولطخت سمعته التي صنعها على مدار التاريخ وسط أفريقيا والعالم أجمع ........ ولعلهم أصبحوا فضائح وعاهات وأوساخ في حياتنا.

 مصعب المشـرّف
31 مايو 2016م 
             
مراجع : كتاب [ أشهر المحاكمات السياسية في السودان ] – إعداد وترتيب المحامي السوداني "هنري رياض" – الطبعة الأولى 1987م – دار الجيل – بيروت).