الجمعة، 24 يوليو 2015

حقائق ووقائع جمع وتدويـن القرآن الكريم

حقائق ووقائع جمع وتدويـن القرآن الكريم



مصعب المشرّف
25 يوليو 2015م

عقب إعلان جامعة بيرمنغهام البريطانية يوم 21 يوليو 2015م العثور على ما يظنون أنه أقدم رقاقة لنص مكتوب من آيات القرآن الكريم . ذهب بعض العرب المسلمين إلى القول أن هذه الرقاقة "تنسف" كل الإدعاءات بتحريف القرآن . والمزاعم الإستشراقية بأن القرآن الكريم قد كتب في فترة تاريخية متأخرة بعد أن أضيفت إليه آيات تحث على الجهاد وإستغلاله في الفتوحات الإسلامية ..... الجهاد والإستشهاد الذي أصبح يؤرق ويقض مضجع الصهاينة بوجه خاص.

يجري كل هذا الحراك العالمي اليوم في مواجهة "فرض الجهاد" ؛ رغم أن القرآن الكريم لم يحل الجهاد إلا أن يكون في  "سبيل الله " وحده ... والآيات الدالة على ذلك كثيرة نوردها فيما بعد.

هذه الرقاقة الجلدية التي أعلن الكشف عنها مؤخراً . وتسابقت وكالات الأنباء والمواقع الألكترونية ، ووسائل المعلوماتية الحديثة في نقل ونسخ الآراء حول ما تعنيه هذه الرقاقة ، وتؤكده من دلالات بوصفها كتبت بعد عقد أو عقدين عقب إنتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ...... هذه الرقاقة التي حوت آيات من القرآن الكريم ولجهة تاريخ نسخها يجب إخضاعها للحقائق التاريخية التالية:

1)  أن القرآن الكريم قد نزل متواتراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يكن النزول مرتبط بمكان أو زمان محددين .

ومن ثم فقد إستلزم ذلك أن تتعدد الأدوات والمواعين التي كتب فيها القرآن الكريم بحسب الظرف والمكان . سواء تلك الآيات التي كتبت على جلد أو أو عظام أفخاذ وأكتاف الإبل والصخور والأحجار وجريد النخل ، وغيرها مما كان متاحا آنذاك في تلك البيئة الصحراوية الفقيرة القاحلة...... أو كأنّ الله عز وجل أراد وشاء أن تنال كل فصيلة من مخلوقاته شرف إحتضان كلامه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والمعلومة الهامة التي تغيب عن ذهن البعض تكمن في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حافظا للقرآن جميعه بتفسيره ومعانيه ومناسباته ودلالاته وما يرمي إليه ...... وقد شهد له القرآن بذلك عند قوله عز وجل في سورة القيامة :[ لا تحرك به لسانك لتعجل به  (16) إن علينا جمعه وقرآنه  (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه  (19)] .
فكان صلى الله عليه وسلم يراجع القرآن الكريم في كل رمضان مع جبريل عليه السلام . ويعلم موضع كل حرف في كل كلمة ، وموضع كل كلمة في كل آية ، وموضع كل آية في كل سورة وترتيب السور ... حتى إذا كان العام الذي انتقل فيه المصطفى إلى جوار ربه راجعه جبريل عليه السلام قراءة القرآن مرتين .
وعلى هذا النحو الفريد من كمال المخلوق وقدرة الخالق ، تشرب أشراف الصحابة من ذوي الموهبة في الحفظ والإدراك المصحف الشريف بأكمله قبل تدوينه في كتاب واحد.

ومن ثم فلا مجال أن يقبل مسلم من مسلم أو غير مسلم المجادلة بدقة القرآن وإستخدام مصطلحات تشكيكية خبيثة من قبيل "أكثر دقة" أو   "أقرب للدقة".
 
على أية حال فإن الثابت من السيرة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدين بنحو خاص . هو أنه كان هناك كُتّاب للوحي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بلغ عددهم 43 صحابي جليل .... 
وطالما كان هناك كاتب فلابد أن يكون هناك تدويــن .... فما بالك إذا كان هناك 43 كاتب؟

ومن نافلة القول أن نشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحرص على تدوين الآيات الكريمة .. وكان صلى الله عليه وسلم بعد أن يقوم الكاتب بتوثيق ما يمليه عليه كتابة مباشرة من لسانه الكريم .. كان يطلب من الكاتب إعادة تلاوة ما قام بكتابته .. فيشير إليه بوضع هذه الآية أو الآيات ضمن آيات أخرى ويحدد له الموقع بالضبط (أي وضع هذه الآية بعد تلك في سورة كذا . أو قبل تلك في الترتيب) وهكاذا ....
وجميع ذلك كان يتم مباشرة تحت سمع وبصر أشراف الصحابة أو أمهات المؤمنين .. فقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح وفق ما نعلم جميعاً.

ومن أشهر كتاب الوحي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعمر بن الخطاب ، وزيد بن حارثة ؛ ومعاوية بن أبي سفيان ، وأبَيْ بن كعب الخزرجي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

2)   أن أول "جمع" و "تدوين"  و "حفظ" القرآن الكريم تحت سقف واحد تم في عهد خلافة سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

ومناسبة ذلك أنه في خلافة الصديق رضي الله عنه إنتبه الصحابة في المدينة المنورة خلال حروب الردّة بوجه عام ، وبعد موقعة "الحديقة" في اليمامة التي قادها خالد بن الوليد رضي الله عنه وقضى بها على مسيلمة الكذاب .. إنتبهوا إلى كثرة عدد أشراف وخلاصة الصحابة الذين أستشهدوا في هذه المعارك العنيفة . فاقترح عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسارعة بإعادة حفظة القرآن منهم إلى المدينة المنورة للقيام بمهمة جمع القرآن الكريم في مكان واحد ....

واقع الأمر فقد كان القرآن الكريم مدونا كما نعلم جميعا . ولكن كان سيدنا الفاروق يرغب من إقتراحه ذاك أن تتم مراجعة القرآن والتدقيق على صحته بتلك الدقة المتناهية والعناية ، والحرص والحساسية في تحري الصدق التي جُبل عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت مفتاح شخصيته وفلسفته في الحكم والإدارة.

إستحسن الخليفة أبو بكر الصديق إقتراح الفاروق . فأوكل إليه مهمة الإشراف علي تنفيذها .. فجمع إبن الخطاب كثير من كتاب الوحي . وضم إليهم أشراف الصحابة الأجلاء والبدريين من حفظة القرآن بعد إكتمال وصول أعدادهم إلى المدينة المنورة ... ثم أجلسهم جميعا في مكان واحد وأغلق عليهم الأبواب .... وبذلك تفرغوا لأداء المهمة . وتمت مراجعة القرآن الكريم من مصادره المكتوبة في جلود الغنم وسعف النخيل وعظام أكتاف وأفخاذ الإبل وغيرها . ومن صدور الحفظة .... ووضعت الآيات في مكانها ، وسميت السور بأسمائها ، وكتب كل ذلك في رقاع من جلد الأغنام والماعز . وجرى تسليمها يداً  بيد إلى الفاروق رضي الله عنه . فذهب بها وعرضها على أبي بكر الصديق . فأمره أن يحتفظ بها عنده . وقد قيل أن الفاروق أودعها أمانة داخل صندوق في بيت إبنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها.

حتى هذه اللحظة من إكتمال "جمع" و "تدوين" القرآن الكريم وحفظه في مكان واحد ؛ كان قد مضى على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أقل من سنة.

إمتدت خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنتان ونصف السنة .. ثم خلفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واستمر عهده فترة 10 سنوات.
بعد إستشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه . تولى الخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه واستمرت خلافته 13 سنة .

عند تولي عثمان بن عفان الخلافة ؛ كانت هناك مصاحف منسوخة من المصحف المرجع الذي كان بحوزة أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما .. لكنها كانت محدودة العدد . والدليل على ذلك أن عثمان بن عفان وبعد نسخ المصحف العثماني في عهده ؛ أمر ولاة الأمصار بجمع كل المصاحف وإعادتها إلى المدينة المنورة خشية أن يعبث اليهود والمنافقون وغير المسلمين بها . وتوطئة لإعتماد ما سمي لاحقا بالمصحف العثماني كمرجع شرعي وحيد.

والذي أرغب في التشديد والتأكيد عليه هنا ؛ هو أن المصحف الشريف لم يتم تدوينه بعد عقد أو عقدين من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعم ويدعي بعض المستشرقين لغرض في نفس يعقوب ..........

المصحف الشريف جرى تدوينه كاملاً خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتم التدوين كما هو معروف في مواعين متعددة من الجلود والعظام وسعف النخيل ........ والتدوين في نهاية المطاف هو التدوين سواء أكان على صخرة أو ورق ديلوكس ناصع البياض ولامع ........ ولا أرى مسوغاً لمجادل هنا إلا إذا افترضنا أن التدوين لا يكون إلا بقلم حبر باركر ؛ أو على ورق دنماركي مطبوع في مطبعة يوهان غوتنبرغ الألماني.

إنني أستغرب أن يتقبل العالم أجمع حقيقة أن التوراة قد كتبت في ألواح من الحجر ...... ويستنكر ويشكك في فعالية وجدوى تدوين القرآن الكريم في حجر وجلود وعظام ولحاء أشجار.

إذن ؛ فإنه بعد سنة واحدة من إختياره صلى الله عليه وسلم الإنتقال إلى الرفيق الأعلى ؛ تم  جمع القرآن الكريم تحت سقف واحد ، وتم "إعادة" تدوينه جميعه في رقاع من الجلد . ووضع داخل خزانة واحدة ؛ جرى الإحتفاظ بها في حجرة أم المؤمنين السيدة حفصة بنت الفاروق رضي الله عنهما.

3)  أن أول نسخ وتدوين للقرآن الكريم (في كتاب واحد) شبيه بالكتب التي بين أيدينا اليوم تم في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وأطلق عليه المسلمون مسمى (مصحف) . وهو ما يعرف بالمصحف العثماني ... ومصحف أصبح بعدها "إسم علم" يدل على كتاب الله الكريم الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهو يتخذ معناه من صحف وصحيفة وهي التي يُكتب فيها...... وفي المعنى يقول الله عز وجل: { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُنَشَّرَةً} (52) سورة المدثر ... ويقول تعالى {إن هذا لفي الصحف الأولى(18)  صحف إبراهيم وموسى  (19)} سورة الأعلى .. فدل ذلك أن الصحف لا تقتضي أن تكون من ورق أو من صفيح .. ولكنها تفيد الوعاء الذي يكتب عليه.

وعندما يقول التاريخ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قد إلتفت إلى الحاجة لتدوين القرآن الكريم في كتاب واحد معتمد في كافة الأمصار .. فإن هذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأنه كانت هناك مصاحف أخرى على هيئة رقاع في كافة الأمصار ......

واقع الأمر فإنه وخلال عهد عثمان بن عفان رضي الله . كان الوضع الإقتصادي والمالي للدولة الإسلامية (وعاصمتها المدينة المنورة) قد شهد تنوعاً ونمواً وإزدهاراً يتيح لها تمويل نفقات عامة ما كانت لتسمح به حالة العرب الفقراء قبل ذلك .
ومن ثم فقد حدث توسع في نسخ المصاحف وتحسين في الخامات المستخدمة لهذا الغرض … واستفاد الإسلام من أدوات ووسائل ومنتجات حضارات الفرس والروم المادية  في النهوض بحضارة إسلامية لا تغيب عنها الشمس.

أرسل عثمان بن عفان يستدعي النسخة الأصلية التي كان قد تم الإحتفاظ بها في بيت أم المؤمنين حفصة . وأمر بكتابة أكثر من نسخة منها . وبعد مراجعتها وتدقيقها على النحو المتعارف حتى يومنا هذا . فقد قام بتوزيع النسخ على ولاة الأمصار ...

وأما الرقاع "المتفرقة" التي كان القرآن مكتوبا فيها فقد أمر بحرقها. ولكن ربما لا يخلو الأمر من وجود رقعة هنا أو هناك ؛ يتم الكشف عنها من بين الآثار في هذا البلد أو ذاك.

ومن هذه النسخ العثمانية الموثقة رسمياً تم نسخ العديد من المصاحف لاحقا … وكان لها دواوين تابعة للدولة تحت إشراف الولاة ومراجعة لجان من العلماء الأجلاء المعروف عنهم الورع والتقى ؛ وجرى توظيف وتفريغ عشرات الكتبة الموهوبين في مجال الخط والنسخ بأكثر من خط عربي أشهرها الحجازي والكوفي والرقعة . واشتهرت أكثر من مدينة بنسخ المصاحف خاصة بغداد ودمشق والقاهرة.

ولعلنا لا نزال حتى يومنا هذا نلحظ كيف تهتم الدول الإسلامية بطباعة ومراجعة المصاحف . وتضع ذلك في مقدمة أولويات وزارات الشئون الدينية القصوى ....  لا بل وكيف يراجع جنود الرحمن من حفظة القرآن وكثير من المسلمين المصاحف عبر تلاوتهم اليومية لها مراجعة ذاتية تلقائية . بما يحفظها من أي محاولة للتزوير ........ وعلى هذا النسق كان يسير الحال في الماضي .

4)   أن وضع النقاط على الحروف والتشكيل هو من إبتكار الحجاج بن يوسف الثقفي القائد العسكري الأموي . ووالي العراق في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.

بعد أن دخلت الأمم غير العربية في دين الله أفواجا .. وامتدت رقعة الدولة الإسلامية . إلتفت الحجاج بن يوسف الثقفي (وكان في مقتبل شبابه صاحب خلوة لتعليم القرآن في الطائف) بما لديه من تجربة وبوصفه حافظ للقرآن الكريم وعالم من علماء اللغة العربية .. إلتفت إلى ضرورة تسهيل تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من الفرس والروم وأهل خراسان ؛ وغيرهم من الأمم التي دخلت في الإسلام . فهداه تفكيره إلى إبتداع التنقيط والتشكيل على الحروف في الكتابة بحيث يصبح النطق أسهل عند القراءة بالنسبة لغير العربي الذي كان يقرأ من دون نقاط ، ويعرف ما إذا كانت الحاء حاء أو جيم أو خاء مثلا من سياق الجملة .. وهكذا الحال للفاء والقاف والباء والتاء .. وهلم جرا.
وقد وجد إبتكار الحجاج هذا إستحسانا عند الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي كان هو الآخر (قبل توليه الخلافة) معلما للقرآن واللغة العربية في المسجد النبوي الشريف . فأجاز وضع النقاط على الحروف . وتولى من بعده الخليفة سليمان بن عبد الملك فسار على نهجه . وجرى نسخ القرآن الكريم بالنقط والتشكيل اللغوي من ضمة وفتحة وكسرة وتنوين .. إلخ.

والذي أرمي إليه من هذا السرد هو أن الرقاقة الجلدية التي أفصحت عنه جامعة بيرمنغهام والمنسوخة بالخط الحجازي ؛ لاتحتوي على تنقيط ولا تشكيل .. وهو ما يدل على أن تاريخها يعود إلى الفترة قبل العهد الأموي الذي بدأ في عام 41 هجري .... وهو العهد الإسلامي الذي شهد بدايات تمدد الفتوحات الإسلامية خارج المجال الحيوي للمنطقة العربية (منطقة الشرق الأوسط) ؛فوصلت الفتوحات إلى سور الصين العظيم وأفريقيا وبلاد الأندلس وأوروبا الشرقية.

ومن ثم فلا مصداقية هنا للإدعاء من جانب بعض المستشرقين والصهائنة بإختلاق المسلمين وإضافتهم آيات الحث على الجهاد لاحقا ؛ بهدف تشجيع المسلمين على خوض غمار الفتوحات الإسلامية ، التي توسعت في عهدي الخلافة الأموية .... ثم  الخلافة العباسية التي أعلن عنها رسميا في الكوفة عام 132هجري ...


5)      لماذا نتلهى عن قوله عز وجل :"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"؟

أستغرب أن يغرق بعض المسلمين في شبر ماء .. في الوقت الذي يقول فيه المولى عز وجل عن القرآن [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (9) سورة الحجر

القرآن الكريم " كلام " الله عز وجل ..... والمصحف الشريف هو " الكتاب " و "الوعاء" الذي يحوي بين دفتيه كلام الله الكريم مكتوبا .... وحتى يرتاح المسلم الشفوق أكثر . فلا حاجة لنا أن نذكره أن المصحف "الكتاب الوعاء" قد أصبح اليوم أسطوانة سي دي ، و دي في دي ، وشرائط كاسيت ، و هارد ديسك ، و يو أس بي ... وجميعها أوعية ..... وبالتالي فلا خوف من ضياع أو تحريف القرآن . فقد قيض الله له من وسائل وأوعية التدوين والحفظ ما لم يكن يخطر على عقل بشر.

ومن ثم فبدلاً من الإنشغال بالأوراق والأحبار والتغليف والصقل وغير ذلك من مظاهر . فلا أقل من أن يصار إلى إعادة التركيز على المحتوى من تدبر لكلام الله عز وجل والعمل بما جاء به بعيداً عن الغرض السياسي والمالي .. وحتى لا نصبح كاليهود الذين اقتصرت علاقتهم بالتوراة كعلاقة الحمار بما يحمل على ظهره من أسفارا.

كذلك فإن القرآن الكريم قد أتاح له الله عز وجل أن يحفظ في الصدور بكل سهولة على خلاف غيره من كتب سماوية أو أرضية .. وأتاح له الله عز وجل أن يتلى بحلاوة اللسان ومزامير داود على العكس من كل كتاب غيره ...
فلماذا هذه الخشية عليه وعدم الثقة في بقائه محفوظا بإذن الله إلى أن يشاء . فيرفعه إليه (القرآن) رفعا يسيرا بقبضه العلم والعلماء . وبعد أن تعم الدنيا المنكرات والفساد وسفك الدماء على النحو الذي قد لايمكننا تصوره أو تخيل تفاصيل أحداثه آخر الزمان وقبيل قيام الساعة؟

من المؤسف أن بعضنا أصبح يقدس "الورق" و "الأحبار" التي كتب عليها وبها  آيات القرآن الكريم .. ويتلهى بالدنيا وفقه الضرورة والتمكين عن العمل بها .


6)   لا خطورة على القرآن الكريم  لجهة التزييف .. ولكن تكمن الخطورة في إعوجاج التفسير عن المنهج الذي تتبعه الطائفية و"الإسلام السياسي" بوجه عام.

وجيث تعهد المولى عز وجل بحفظ القرآن الكريم . فإن الذي يجب الخوف عليه هنا هو "النفاق" و "تحريف التفسير" وليس "تحريف الآيات" ... أو بالحذف والزيادة ...
وتحريف التفسير نراه اليوم قد أصبح سمة العصر بسبب ما بات يعرف بالإسلام السياسي . خاصة في جانب تفسير العديد من النصوص ومعانيها كالجهاد والقتل والخروج على الحاكم والتكفير والربا وسرقة المال العام والصيام ... والخلط بين الموبقات والكبائر والذنوب والسيئات واللمم ، والتحايل (الأحمق) لوضعها جميعها في سلة واحدة وعلى درجة متساوية ، لغرض تمرير ما يحلو من ملاذ الدنيا المحرمة.

والطائفية هي الأخرى نراها دافعا للبعض لتحريف معاني القرآن الكريم ، وبحث وتنقيب عن المتشابه . وسب الصحابة وأمهات المؤمنين . والتشكيك في عصمة الرسل والأنبياء ... إلخ . من مثل ما يعتقد ويعمل به أهل الطائفة الشيعية على سبيل المثال.

7)      نستغرب إنتقال الجدل من "صحة نزول الوحي" إلى الجدل حول "دقة النصوص القرآنية".

وهذه موجة إستشراقية جديدة مغرضة هدفها التشكيك في دقة بعض النصوص القرآنية الصريحة أو المتشابه منها وعلى رأسها آيات الجهاد .....

واقع الأمر فإن تركيز الإستشراق على آيات الجهاد إنما كان سببه التفاسير المغلوطة التي حاول بها الإسلام السياسي التشويش بها على عامة الناس . ولغرض الحشد السياسي لمصلحة هذا النظام أو ذاك منذ قرون عديدة ... ولم يكن فقط من إفرازات تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا في مصر.

ولقد تعرض الجهاد للكثير من التفسير الغير سليم .. وبذلك أصبح يشكل اليوم تهديداً أمنياً منقطع النظير . ويخشى عليه أهل الغرب الأوروبي والأمريكي أن يكون سبباً في تقويض الكثير من مكتسباتهم لجهة ما يرونه من قناعات الديمقراطية والحرية الشخصية ...

إن على الغرب الأوروبي بوجه خاص والعالم بوجه عام أن يدرك أن جهاد المسلم لا يكون إلا في سبيل الله ..... وكل منحى غير ذلك لا يكون جهاداً.

إن توصيل هذه الحقيقة إلى المسلم قبل غيره فرض واجب .... وحتى يعي الشباب منهم خاصة طبيعة الأرض التي يقفون عليها .... فلا يضحك عليهم أحد لتجنيدهم ، وجعلهم وقوداً لحرب لا ناقة للإسلام فيها ولا جمل ... ولا صلة لها بالقتال في سبيل الله.

وإن توصيل هذه الحقيقة إلى العالم الغربي وعموم العالم فرض واجب على كل مسلم ؛ يحمل قناعة بأن الإسلام هو دين التعايش السلمي بين كافة خلق الله .. وأن لا عدو للإنسان سوى الشيطان.

واقع الأمر فإن الجهاد محسوم أمره ؛ لو توخى الناس العقل ، ولزموا جانب الصدق وتركوا المصلحة والنفاق . فالجهاد لايكون إلا في سبيل الله ..

والآيات التي تؤكد هذا المعنى كثيرة بلغت على رأي الجمهور 70 آيـة ، ووردت في أكثر من سورة منها قوله عز وجل :

[وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ] 190 سورة البقرة.

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (218) سورة البقرة


وأما محاولة الإسلام السياسي لتكريس "الجهاد" في سبيل "الحزب" أو "الحكومة" أو "الوطن" أو "المبدأ" أو "المليشيا " . فهو محاولات مكشوفة لإخضاع الدين للسياسة ومصالحها الدنيوية.

هذا من جهة .. ولكن الجهة الأخطر من كل هذا وذاك أن كل فئة أصبحت تفتي على مزاجها وهواها . فتفسر الآيات الجهادية على حسب مصلحتها .. فالترابي على سبيل المثال بفتي ويعرف الشهادة عندما كان في السلطة على نحو يخالف تعريفه لها بعد إخراجه من السلطة .....

وكذلك الشيخ القرضاوي يطالب بها في دولة ، وينكص عن المطالبة بها في دولة أخرى  .... وهو لا يجيز الخروج على الحاكم المسلم في دولة .. ويطالب بالخروج عليه في مصر . رغم أن الحاكم فيها مسلم ؛ ولا يمنع شعبه من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله .. ولا يمنع شعبه الصلاة والصيام والزكاة وحج البيت لمن إستطاع إليه سبيلا.

ألم أقل لكم !!! أبحثوا دائما عن "الإسلام السياسي" تجدون التناقض بحسب المصلحة... وهذه كارثة حقيقية ، وإمتحان عسير يتعرض له المسلمين في كل زمان ومكان تنتشر فيه الفتن وتستحل الدماء بمجانية إستثنائية.... لا بل ونرى فيه إمتحان لمصداقية أكثر من رجل دين وعالم مسلم.