يا وزير الإعلام .. متى كانت الحقيقة قلة أدب؟
-
إنت واحد قليل
الأدب.
فما كان من أحمد بدير سوى التعليق ساخراً بجملة أصبحت مثلاً وهي :
-
"الله ! .... هو الزمن ده اللي يقول الحقيقة يبقى
قليل أدب"؟
والمؤسف أن التلفزيون السوداني عند إعادته بث المؤتمر الصحفي الذي جرت
خلاله هذه المشاجرة بين الوزير الوقور والصحفي الشاب ؛ فوجيء المشاهد بأن
التلفزيون (ببلاهته المعهودة) قد أعاد مونتاج مجريات المؤتمر . فحذف المشهد الخاص
بحديث الصحفي بهرام ، وردود وزير الإعلام الحربي الغاضبة الحادة تجاهه وعليه . ولم
تترك لنا سوى الإيتسامات والكلام الهين اللين ... أو هكذا يظهر المسئول والسياسي
المحنك دائما من خلال شاشات التلفزة وأمام الكاميرات ؛ رغم أن قلبه يغلي من
الداخل.
ويبدو أن إدارة التلفزيون العجوزة الشمطاء ؛ لاتدري أو لاتصدق أن هذه
المشاهد قد طارت وجابت في أقل من لمح البصر أركان الدنيا الأربعة . وصارت أكثر من حبات
المطر في وسائط المعلوماتية واليوتيوب ، ومواقع التواصل الإجتماعي والهواتف الذكية
المحمولة ..... وأن المشاهد حين افتقدها في التلفزيون ذهب يبحث عنها في الإنترنت ؛
ثم ولينتقل الصحفي بهرام من خانة الخمول إلى خانة الشهرة على نطاق السودان والعالم
العربي والأفريقي والثالث .. وأصبح خلف طاولته المتواضعة في مكتبه المنزوي قبلةً
ومزاراً ينافس أضرحة أشهر أولياء الله الصالحين .... وكل إمرأة ولدت ذكراً ذاك
المساء أطلقت عليه إسم "بهرام" تيمناً بسيد الإسم والفارس الضكران
العظيم الذي نطق بمقولة الحق ليدحض بها الباطل في الليلة الخريفية الظلماء ..... وحتماً
قد صـار بهرام مصدر إلهام وأيقونة وكاريزما توحي لشباب ثورة الهوت دوغ الماثلة ما
توحي من إلهاب للمشاعر . وإحياء لجوانب الصدق والشجاعة والحماسة والإقدام التي
توارت خجلة منذ سنوات في هاوية سحيقة.
ويجدر الإشارة إلى أن بهرام إسم
فارسي الأصل ويعني "كوكب المريخ".
مسكينة بالفعل إدارات الإعلام في دول العالم المتخلف التي لاتريد أن تستيقظ
من نومها العميق. ولا تزال تعمل جهد أيمانها بالقديم الماضي العتيق ؛ الذي كانت
فيه أجهزة ونوافذ الدولة المرئية والمسموعة هي الوحيدة التي تحتكر بث الأخبار ونشرها
بين الناس.
الملفت للنظر أن وزير الداخلية (إبراهيم محمود) الذي كان حاضرا لم ينفعل
تجاه الصحفي بهرام . وحافظ على سكينته ووقاره وهدوئه وبروده الملحوظ ؛ فاكتسب شخصه
بذلك إعجاب المشاهد ؛ رغم كل ما يقال عنه من أنه ليس سوداني الأصل وإنما أريتري
مولود في كسلا . وأنه كان رئيس إتحاد طلاب أرتريا في مصر أواخر السبعينات من القرن
الماضي أو كما جاء على لسان حسن الترابي الذي تختلف فتواه وأقواله بحسب بعده أو
قربه من كرسي السلطة .....
وعلى اية حال فلا نرغب هنا أن ندخل في الأنساب والأصول والفصول ، وضرورة
إثبات شرط العرق العباسي النقي ؛ أو أن الجد الثامن قد شارك في تخريب سوبا ، وأن
الجد الرابع شارك مع المك نمر في حرق إسماعيل باشا .... ولكن وبكل صراحة فإنه عند
رصد ردود أفعال وزير الإعلام العنيفة تجاه الصحفي الشاب بهرام ؛ ومقارنة
ذلك بهدوء ووقار وزير الداخلية . فإننا حتماً نتمنى لو كان كل وزراء حكومة الإنقاذ
الإتحادية والولاة والمحافظين من أصل أريتري ....
بل ومن مطار أسمرا مباشرة .....
ربما كان الحال سيكون أفضل بكثير مما هو عليه الحال اليوم.
وأذكر بهذه المناسبة أن المرحوم إبراهيم المحلاوي أول وزير مواصلات سوداني
والمحسوب على الوطني الإتحادي بزعامة الأزهري وقتها ؛ خرج للناس بعد ثورة أكتوبر
المجيدة لينصح بأن يستورد السودان أميرا من قصر بكنجهام البريطاني وتنصيبه ملكاً
للبلاد عل وعسى ينصلح الحال ..
ثم ولم لا ؟؟ ألم يشهد السودان أفضل سنواته من حيث التعمير ونظافة اليد ، والنزاهة
والأمانة والشورى الفاعلة على عهد الحاكم العام الإنجليزي وسكرتيره الإداري والآخر
المالي ، وكادر المفتشين الخواجات؟
والشاهد أيضاً أننا استغربنا تهديد ووعيد وزير الإعلام للصحفي الشاب بهرام
، بأنه قد أدلى بإفادة . وأن عليه أن يستعد للخضوع فوراً إلى تحقيق أمني من جانب
الشرطة حتى يثبت مصادر إفادته هذه أو يتعرض للعقوبات المنصوص عليها . .... كل هذا
تم في حضور وزير الداخلية وبجانبه والي
الخرطوم (عبد الرحمن الخضر) .. وهو ما يعتبر تجاوزاً لسلطات وزير الداخلية على أقل
تقدير. ولكن وزير الداخلية آثر الصمت وكأنّ شيئا لم يكن ...
ولوحظ أن الوالي قد عقب على الحادثة خلال حديثه بأن شفع للصحفي الشاب واصفاً
مقالته التي أغضبت وزير الإعلام وحده بأنها نتجت عن إنفعال . فكسب الوالي بمداخلته
الوقورة تلك بعض النقاط لشخصه.
لقد إعتاد الناس أن يكون وزير الإعلام حنيناً شفوقاً على غرار المرحوم طلعت
فريد على عهد عبود ، وأولاد الحاج موسى على عهد نميري .. ولم نسمع
بوزراء إعلام شرسين أصحاب حلول أمنية عبر التاريخ سوى بالألماني جوبلز على عهد
هتلر ، وصفوت الشريف على عهد حسني مبارك .. وعدا ذلك يظل وزير الإعلام مثل وزير
الإستثمار اللبناني ، ووزير السياحة المصري من حيث الميل إلى الموادعة والأناقة
واللباقة والكياسة ، وحسن الهندام
والأريحية وصبغ الشعر وطول البال .. وقناعات مدراء فنادق الخمسة نجوم ورجال
العلاقات العامة بالجملة ...... فهل أصابت أحمد بلال الوزير العدوى من باب من عاشر
القوم ؛ أم أن هذا طبع متأصل فيه ؟ ..... نستغرب ذلك من رجل كان بعيداً عن الأخوان
. بل ترعرع واكتسب قناعاته وخبراته السياسية في حوش الختمية، الذين ما عهدنا منهم
سوى السِلم والكرم والجود والأريحية والفضل من كل جانب. وبغض النظر عن صبغة ومتلازمة
الجهادي الأصل أو الخديوي الأصل.
حسب ظني المتواضع فإن الإعلام يقوم على أسس من وسائل الإقناع السلمي الهادي
بعيداً عن وسيلة وأدوات البطش العسكري والقهر الأمني الذي لا يمكن أن يجدي في هذا
الحقل.
ثم أن الولد (بهرام) قد مارس حقه المشروع بالتعبير عن رأيه وقناعته بطريقة
سلمية ؛ دون أن يرمي حجراً أو يحرق كُـشـكاً وطرمبةً ولستـكاً.
ربما يكون وزير الإعلام قد أخذ زمام المبادرة بالتصدي للصحفي الشاب على
إعتبار أنه وبحكم منصبه كبير الصحفيين الذي يعلمهم السحر . وراعي الإعلاميين
المنوط به تأديبهم وغربلتهم ؛ والمسئول عن اقوالهم أفعالهم وإنفعالاتهم ؛ وحسـن
نفاقهم في الهينة والقاسية طوال أربعة وعشرين ساعة ....... ربما .
والطريف أن والي الخرطوم ووزير الداخلية ؛ المحسوبان على حزب المؤتمر
الوطني بالميلاد والنشأة والتربية لم تكن ردود أفعالهما وأقوالهما على هذا الصحفي
الشاب بتلك الحدة ، على العكس من وزير الإعلام المحسوب على الحزب الإتحادي
الديمقراطي (الخديوي) الأصل. والذي لايستطيع الإدعاء بأنه كوز أو يمتلك "حق
الغيرة" على حزب المؤتمر الوطني والغضب لتساؤل الصحفي بهرام بالقول:
-
إلى متى يظل حزب
المؤتمر الوطني متشبثاً بالسلطة؟
وقد أكد الصحفي بهرام أن الشرطة
والأمن قد قامتا بإستجوابه . ولكن الذي أنقذه أن الحادثة قد كانت على الهواء
مباشرة ، وكان يتابعها العالم أجمع بوصف أن كل العيون تتوجه الآن نحو السودان
مترقبة لربيع "عربي/أفريقي" هجين جديد فيه . بعد إنحسار هذه الموجة مؤخراً من على
خريطة العالم العربي .. أو بما يعني أنه لو كان قد تم إعتقال بهرام مباشرة لكانت
ردود الأفعال حادة ..... ولا ندري ماذا ينتظرك يا بهرام مستقبلاً في ظل هذا التوتر
الذي جعل وزير الإعلام البهجوي يستأسد ويتحول إلى شخص حربـي ، ويتجاوز دور وسلطات
وزير الداخلية وفي وجوده وحضوره؟
ربما يكون في مثل هذا التجاوز للسلطات مكمن الخلل العميق والتردي الوبائي الذي
إستعصى على كل طبيب حاذق . فهل تشفي الجراحة هذا المرض العضال ؛ أم يكون أخر
العلاج الكي ؟