ثورة أكتوبر مابين الساسة
والنخبة والعسكر
مصعب المشرّف:
هل كتب علينا أن نجتر كل عام
ذكرى ثورة 21 أكتوبر 1964م المجيدة . ونتباكى على الماضي وحده . أم هل نستخلص من
هذه الثورة الشعبية الدروس والعبر على أمل ورغبة جادة في إيقاف ساقية جحا هذه التي
تدور فتملأ من النهر وتفرغ في النهر بلا طائل؟
من الأسف أن يقدّم الشعب
التضحيات ويظهر البسالة والإقدام ، وهو عاري الصدور والأيدي خلال ثورة أكتوبر . ثم
تنتهي هذه الثورة إلى واقع أن القوى التقليدية وحدها هي التي ترث في نهاية المطاف
الحكم والثروة ، لتنعم بها وفق اللعبة الديمقراطية ومخرجات صناديق الإنتخابات ما
بين أغلبية مقاعد لحزب الأمة ، ومعارضة لحزب الوطني الإتحادي تارة ... أو بالعكس
في حالة تحالف الوطني الإتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي تارة أخرى ،،،، وهلم جرا
من تجمعات الطوائف .. ثم وليخرج بقية الشعب الثوار الأحرار من المولد بلا حمص ، ودون
تمثيل حقيقي في مثل هذه البرلمانات الديمقراطية العرجاء بسبب غلبة أحزاب العائلة
الواحدة الطائفية.
ثم إن هي إلا سنوات ست أو أربعة حتى يكرر
التاريخ (في الدولة المتخلفة) نفسه دائماً . فيخرج المغامرون من وسط ضباط الجيش
ليعيدوا الكرّة مرة أخرى بالإستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة ..... ويكون الذي
يشجعهم ويستدعيهم طبقة من النخب المثقفة العقائديين الذين ييأسون من إمكانية
الوصول لكراسي الحكم عبر صناديق الإنتخابات الحرة النزيهة . فينجح الإنقلاب أو
يفشل لا يهم .... لكن تبقى الحقيقة الكارثة الماثلة في أن من يرفعون شعارات
الديمقراطية ويحملون مشاعل الحرية وقيادة الثورات الشعبية وسط الشارع ؛ يصبح
خيارهم المفضل لاحقاً هو تصعيد العسكر بإنقلاب ؛ والركوب إلى جوارهم بوصفهم سبيلهم
الوحيد لتذوق طعم السلطة والأكل من "عصيدة" الثروة.
جميع الإنقلابات العسكرية الفاشلة
منها ؛ أو التي أفلحت في القفز إلى مقاعد السلطة مابين عامي 1957م و 1989م . كانت
بتدبير ودعم وتحريض من النخب السياسية والمثقفة. يأتون كل مرة بضابط مغمور أو
مشهور فيوهمونه على مر الأيام أنه نسيج وحده .... قائد الثوار الأحرار والزعيم
العربي الهجين الجديد الملهم المنتظر ، وعبقري السودان المنسي . فينغسل دماغ
صاحبنا وينتفخ ويشمر عن ساعد البطش والتدمير . ويظل يعبث ويخرب لعدم درايته بأمور
السياسة والحكم ... ولا يذهب حتى تنهش الثعالب الأرانب ، ويأكل الأخضر اليابس
...... وتصار البلاد إلى خرابة ينقع فيها البوم ويلمع في قيعانها السراب.
في 25 مايو 1969م جاء القوميون
العرب والإشتراكيون والشيوعيون بالعقيد جعفر نميري.
في 30 يونيو 1989م جاء الإخوان في
دبابة العميد عمر البشير..... .. ولا ندري من أي مليشيا متمردة (هذه المرّة) سيأتي
الزعيم الملهم المخرِّب القادم؟
إذن تحل
اليوم الإثنين 21 أكتوبر الجاري ذكرى أكبر ثورة شعبية سودانية نسبت إلى تاريخ 21
أكتوبر1964م كونه اليوم الذي شهد قمة أحداثها عندما تحدى طلاب جامعة الخرطوم
السلطة ؛ فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب.
فتدخل أمن النظام وأدت الصدامات إلى مقتل إثنين من الطلاب كان أولهم الشهيد أحمد
القرشي الذي أصبح ملهم الثورة.
ولهذه الثورة وقعها وصداها الخاص في ضمير
الشعب السوداني باعتبارها اول ثورة شعبية بعد استقلال السودان عام 1956م تطيح
بحكومة عسكرية وطنية هي حكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود ؛ الذي جاء إلى السلطة
إثر إنقلاب عسكري أبيض في فجر يوم 17/11/1958م لإنهاء صراع داخل الجمعية التأسيسية
أبان العهد الليبرالي الأول بين أكبر حزبين متنافسين على السلطة في ذاك الزمان هما
حزب الأمة الحاكم ؛ والحرب الوطني الاتحادي المعارض . وحيث كان حزب الأمة (ولا
يزال) ممثلا لطائفة المهدية ذات التوجهات الوطنية الخالصة والرافضة لفكرة الوحدة
مع مصر بأي شكل من أشكالها . في حين كان الوطني الإتحادي موالياً لطائفة الختمية
الموالية بدورها لمصر . بالإضافة إلى حزب الشعب الديمقراطي إبن هذه الطائفة الشرعي
وصنيعها.
اللواء مهندس عبد الله خليل 1892 - 1971)
كانت الحكومة الديمقراطية عشية ثورة عبود ؛ منبثقة
عن انتخابات برلمانية حرة نزيهة وفق نظام ليبرالي يقودها آنذاك رئيس الوزراء
"عبد الله خليل". وهو معروف بولائه التام للطائفة المهدية ...... ويتفق
جميع المؤرخون في السودان على أن إنقلاب إبراهيم عبود هذا كان مرتب ترتيباً متقناً
ودقيقاً . وأن هناك أيدي خفية لجهاز المخابرات الأمريكية
CIA لعبت دوراً
مفصلياً لإنجاحه ..... ثم ضمنت له
الإستمرارية لمدى زمني أطول مما كانت تتوقعه دائرة المهدي.
أما الفريق عبود فقد كان عشية الانقلاب قائدا
للجيش السوداني برتبة لواء . وجاء معه لسدة الحكم أعضاء هيئة أركان الجيش السوداني
وقتها كأعضاء لما سمي بمجلس الثورة ...... وتعود اسباب تدخل ألــ
CIA إلى تنامي
وتصاعد الصراع على السلطة بين حزب الأمة من جهة وحزبي الوطني الإتحادي وحليفة حزب
الشعب الديمقراطي من جهة اخرى بهدف إسقاط وزارة عبد الله خليل بسحب الثقة عنها في
الجمعية التأسيسية (البرلمان) ظهر يوم 17/11/1958م كما كان مؤملاً إرضاءاً لخواطر
مصر التي لم تكن حينها راضية عن الأسلوب الوطني البالغ الحماسة الذي أدار به عبد
الله خليل أزمة (حـلايب) بين السودان ومصر. وعلى نحو اضطرت فيه مصر عبد الناصر
وقتها إلى التسليم مؤقتا للسودان بالسيطرة على منطقة حلايب نظرا لما كانت تعانيه
مصر حينها من عزلة في علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة بسبب تقاربها مع
السوفييت .... هذا بالإضافة إلى اقتراب انتهاء الفترة المحددة لاتفاقية تقسيم جصص مياه
النيل ، والتي كانت مواقف عبد الله خليل تهدد بإعاقة إعادة توقيعها لمدة أخرى بنفس
الشروط السابقة الموقعة بها عام 1929م بين مصر والحكم البريطاني في السودان .....
وعلى أية حال نجح إنقلاب عبود وشكل حكومته العسكرية المطعمة ببعض الوجوه المدنية
....
والمدهش أن عبد الناصر الذي بدأ وكأنه الخاسر
الأول من إنقلاب عبود في البداية ؛ إذا به وبأسلوب يحسده عليه ميكافـيللي في أوج
عصره استطاع أن يحول خسارته إلى (ربح العمر والعصر) بالنسبة له ولمصر ؛ حين استغـل
تورط حكومة عبود في حرب الجنوب ؛ فأبدى وقـوفه إلى جانبه وقام معه بزيارة إلى بعض
مناطق الجنوب الآمنة للدلالة على مناصرته له . واعتقد عبود واهما أن موقف عبد
الناصر الداعم له كفيل وحده بتعزيز موقف حكومته المتشدد تجاه متمردي الجنوب ؛ رغم
أن مطالب هؤلاء في ذاك الوقت لم تكن بحجم وتعقيد ما صار لاحقا يعد وصول جعفر نميري
للسلطة في 25 مايو 1969م ثم تمرد جون قرنق عام 1983م.
وإنتهاءاً بنيفاشا.
وعلى اية حال فقد أخذ عبد الناصر من عبود كل
ما أراد ويشتهي وأكثر ؛ سواء من حيث تجديد اتفاقية تقسيم مياه النيل عام 1959م ، أو
تهديد الأمن القومي السوداني بإخلاء أقصى شمال السودان من السكان بالترحيل القسري
لأبناء وادي حلفا وقراها التي غـرقت أرضهم وحضارتهم أساس إرتباطهم بالأرض أسفل
مياه بحيرة السد ؛ في حين لم تفي مصر بأية عهـد أو وعـد قطعته للسودان . خاصة فيما
يتعلق بتزويد السودان بالنسبة المتفق والمنصوص عليها (30%) من كهرباء السد العالي
أو حرية إقامة مشاريع زراعية تعتمد على الري الإنسيابي من مياه النهر حسب ما يرغب جنوب
بحيرة السد . فتعطلت بذلك العديد من مشاريع زراعية كبرى كان مخطط لإقامتها في
الرهد وسنار لزراعة قصب السكر وإنتاجه من أموال المعونات الأمريكية والغربية . وأقيمت
عوضاً عن ذلك مصانع فاشلة مثل حليب بابنوسة وتعليب لحوم واو .. إلخ . وكان على
السودان أن ينتظر سنوات طويلة لتنفيذ مشاريع زراعية منتجة وذات جدوى في الرهد
وسنار .. لكنها تم تنفيذها بقروض مستحقة الدفع مع الفوائد عوضاً عن أموال وهبات
معونات غربية .
لقد
غاب عن ذهن عبود ومجلسه العسكري أن السودان بالنسبة لمصر ليس سوى ملف أمني .....
وأن الإستراتيجية المصرية الدائمة ترى دائماً وأبداً أن لا تسمح بقيام أية دولة
قوية في حوض النيل متاخمة لمصر تهدد مصالحها وحصتها الأوفر في مياه النهر . وأما
خيار الحكومات السودانية المتعاقبة حيال مصر فلم تكن سوى إستراتيجية البلاهة
المتجددة .....
وحين بدأت الأمور تتضح أمام أعين العسكر وتدخل
أمخاخهم النظيفة كان الوقت قد فات وقد حصل ما حصل ، فما كان من هؤلاء إلا محاولة
الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة مرة أخرى....... وبالفعل تلقفهم الغرب بلهفة
وترحاب أكثر سببها الرغبة في خلق صداع نصفي لعبد الناصر بعد توجه الأخير للسوفيت
وإرتمائه الكامل في أحضانهم . وتم تحديد موعد لزيارة يقوم بها جون كيندي إلى
السودان وطرح حل سياسي اقتصادي لمشكلة الجنوب وتقديم مساعدات ضخمة للسودان . لكن إغتيال
جون كيندي في نوفمبر 1963م ألغى بالطبع هذه الزيارة التي كان مؤملا أن تشكل نقلة
اقتصادية للسودان لا يستهان بها ، بالإضافة إلى دعم سياسي قوي لحكومة عبود فيما
يتعلق بإنهاء تمرد الجنوب الثاني .
إستقبال الرئيس جون كيندي للفريق عبود في واشنطون
والشاهد أنه رغم كل سوء الطالع الذي تسبب به
إغتيال جون كيندي . فإن فترة حكم عبود قد تميزت بطوفان من المعونات الأمريكية ، وتعاون
اقتصادي وضمانات مالية سخية منحت للسودان. وقد شرعت حكومة عبود وقتها في تنفيذ ما
سمي بالخطة الاقتصادية العشرية والتي تميزت بمعالمها الراسمالية السافرة ... لكن
وحسب ما يقال كان للفساد وعدم الشفافية بسبب الحكم الدكتاتوري . وكذلك إنعدام
الخبرة وسوء التخطيط أثره الكبير في إجهاض هذه الخطة ؛ لا سيما وأن كثيرا من
المصانع قد تم تشييدها دون دراسات جدوى ؛ مما أدى إلى فشلها وإفلاس بعضها قبل أن
يبدأ . وعاد الاقتصاد إلى الإعتماد على تصدير المواد الخام من قطن وصمغ ومحاصيل مواشي
وجلود وسن فيل وريش نعام .. بالإضافة إلى الإعتماد على المعونات المالية المباشرة
من دول الغرب . فحافظ ذلك على إستمرار معدلات الرفاهية والبحبوحة التي كانت لا
تزال ماثلة للمواطن في العاصمة والمدن الكبرى في وقت كانت فيه الأيدي العاملة
الوطنية لاتزال قابضة على معاول الإنتاج الزراعي ؛ وغير منشغلة بالنزوح إلى المدن
والتكدس في أطرافها العشوائية...... وبنحو عام لم تكن هناك مشكلة إقتصادية أو شكوى
من بطالة وضنك معيشة وسوء خدمات حكومية عشية ثورة 21 أكتوبر 1964م... بل كان كل
التركيز منصب على المطالبة بالحريات السياسية والديمقراطية وحل مشكلة الجنوب.
كانت الأسواق العالمية على عهد إبراهيم عبود
تشهد كذلك إستقراراً منقطع النظير وهناك وفرة في الإنتاج العالمي خاصة لدى الغرب .
وكانت معدلات الأمطار في السودان مستقرة . ولا حاجة للمواطن في الأرياف إلى مد
عنقه إلى المدينة فحافظ الإقتصاد السوداني والنسيج الإجتماعي على توازنهما
وتماسكهما ... وطالما كان الأمر كذلك فأين كان إذن مكمن الخلل وسلبيات هذا النظام
الدكتاتوري الخصيب مقارنة بما جاء بعده من ديكتاتوريات أذاقت الشعب طعم الجوع
وحرارة العطش والإذلال والمهانة في كاس واحدة؟
منذ البداية كمّمت حكومة عبود الأفواه واعلنت
حالة الطوارىء وحلت الأحزاب والنقابات . كما قامت بتعطيل الصحف ومنع أي نشاط سياسي
وفتحت ابواب السجون في وجه كافة الساسة والنقابيين المطالبين بالحريات السياسية
وعودة الليبرالية إلى الساحة السودانية .. وأما حرية التعبير عن الرأي فقد كانت
مرفوضة تماماً .. وإنتشر "البوليس السري" وسط العاملين وكافة قطاعات
الشعب والأسواق . وكان مجرد الحديث الهامس المعارض لنظام الحكم في الونسات
والجلسات الخاصة مدعاة للإعتقال والفصل من الخدمة... وتحت ظل التقارب مع الولايات
المتحدة وبتوجيهات من ألـ CIA فقد تم تشديد القيود والقبضة الأمنية على الحزب
الشيوعي السوداني بوجه خاص . وعلى نحو دفع بقياداته في العاصمة والمدن إلى
الإختباء في جوف الأرض وإعتماد العمل السري منهجاً حتى برعـوا فيه وأشتهروا به
دوناً عن غيرهم من أحزاب عقائدية وطائفية و وطنية ليبرالية كانت قائمة لكنها تحت
طائلة الحظر وقتها. وشهدت الفترة من مارس 1959م وحتى أغسطس 1961 تقريبا ثلاث
محاولات إنقلابية عسكرية فاشلة وفق ما أعلن رسمياً .
ويلاحظ أن ما كان يعرف وقتها بـ
"الإخوان المسلمين" ظلوا بعيدين عن "جبهة الإنقاذ" لأسباب نابعة
عن جمودهم الفكري الذي فرضه وصبغه عليهم تبعيتهم العمياء لتنظيم الإخوان المصريين البعيدين
عن واقع العقلية السياسية الحقيقية داخل السودان . ثم وحفاظاً على
"عذريتهم" الدينية التي ظنوا أنها تحجر عليهم الدخول في أية تحالفات
يكون الحزب الشيوعي (الملحد) طرفاً فيها .. لاسيما وأنهم فضلوا عوضاً عن تلك
التحالفات السياسية الذهاب للتنسيق مع العساكر للقيام بإنقلاب عسكري ضد إبراهيم
عبود إختصاراً للطريق ويأساً من صندوق الإنتخابات الديمقراطية التي لم تكن تسفر
سوى عن سيطرة حزبي الأمة والوطني الإتحادي على البرلمان ومقاليد الحكم.
كان الإخوان في ذلك الزمان بقيادة المرحوم
"الرشيد الطاهر أبكر" الذي كان يشغل منصب "المراقب العام" ؛
ولكن الإنقلاب فشل وألقي القبض على الرشيد الطاهر. ثم حدثت إنشقاقات على إثر فشل
ذلك الإنقلاب داخل تنظيم الإخوان المسلمين برز بعدها إسم الدكتور "حسن
الترابي" كوجه جديد وقيادي كاريزمي براغماتي تحت عنوان لحزب جديد هو "جبهة
الميثاق الإسلامي" . إبتعد به عن هيمنة تنظيم الإخوان المسلمين المصري وأخرجه
من سنوات العزلة ليشق طريقه بتحالفات أفقية مع السلفيين وتمويل غربي و CIA سخي ، مكّـنه من
الصعود بسرعة والتغلغل وسط طلاب الجامعات والثانويات بعمق . وأبدى الترابي قدرات
فائقه في التخطيط والتجنيد ، ووضع أسس التنظيم السري ؛ والتعامل السحري مع كافة
القوى والأحزاب الوطنية بمن فيهم الحزب الشيوعي ؛ لدرجة فاقت الخيال حين أفلح في
ركوب ماكينتهم الدعائية وتوظيفها أكثر من مرة لصالحه. كما استغل وسامته وأناقته
الباريسية (وقتها) ومواهبه الشخصية المتعددة في لفت الأنظار . وإتقان الحركات
المسرحية والبهلوانية وفي إصدار المقولات المليودرامية المفرقعة ؛ مما كان له
الأثر الكبير في إكسابه صفة الرجل الجديد "المثير للجدل" ؛ وصعود نجمه
خاصة بعد مشاركته الشخصية في العديد من فعاليات ثورة أكتوبر الجماهيرية وكان أهمها
"ليلة المتاريس". حتى نسي الناس الرشيد الطاهر وصادق عبد الماجد وغيرهم
... ولم يعد في الواجهة سوى إسم ورســم ، ولحية وصوت وإبتسـامـة الترابي الواسعة .....
وقد بلغ من تأثيره أن بادر الصادق المهدي بتقديمه لإمامة صلاة الجنازة على جثمان الشهيد
أحمد القرشي في الخرطوم يوم 22 أكتوبر قبل نقله لدفنه في مسقط رأسه.
و"ليلة المتاريس" في الأصل مصطلح لموقف
من مواقف الثورة الفرنسية. (1789م) . وانتظر على ما يبدو طوال سنوات ليعيد تكرار
نفسه مساء 9 نوفمبر إلى فجر 10 نوفمبر عام 1964م في السودان .. وليصبح هو الآخر
واحداً من أهم مواقف ثورة 21 أكتوبر البطولية .. ولم يمنع من إجترار ألق هذه
الليلة الساطعة ورصد معانيها على النحو الذي تستحق سوى تنافس الفرقاء الساسة والثوار
(الشباب وقتها) فيما بينهم بعد ذلك حين ذهب كل فريق منهم ينسبها لنفسه ولحزبه ....
وجاءت القاصمة حين غنى لها محمد الأمين نشيداً وطنياً تطرقت لها أبياته بوصفها ليلة
من "ليالي الثورة الحمراء" أو بما معناه أنه يرد الفضل فيها للشيوعيين ؛
على الرغم من أن كافة قطاعات الشعب قد شاركت فيها بإقامة المتاريس في شوارع
العاصمة الرئيسية بعد سريان شائعة أن الجيش في طريقة لتنفيذ إنقلاب ضد الثورة
الشعبية.
إذن وبالعودة إلى عام 1961م نلحظ أن المناهضة
السياسية لنظام 17 نوفمبر قد شهدت أولى إفرازاتها التنظيمية على إثر تكوين (جبهة
الأحزاب) التي ضمت حزب الأمة والوطني الاتحادي والحزب الشيوعي . وتكونت مثيلتها
أيضا من الأحزاب السياسية في جنوب السودان (آنذاك) . وقد واجه نظام عبود تلك
التحركات بحزم وعنف وألقى القبض على العديد من رموز الحركة السياسية الحزبية وقتها
.......
وربما كان الأمر محتملا إلى حد ما لكن برزت
إلى السطح مرة أخرى مشكلة الجنوب ----- كعب أخيل كافة الحكومات المتعاقبة في
العاصمة الخرطوم ----- فقد انتشرت النار في أخضر وهشيم الجنوب على يد ما سمي وقتها
بمتمردي الأنيانيا (جيش تحرير الأرض) ويقال أن أنيانيا هو إسم لأفعى شديدة السمية
مشهورة في تلك البلاد الجنوبية ......... كانت قيادة الذراع العسكري لحركة التمرد
هذه بقيادة ملازم أول وقتها يدعى جوزيف لاقو تخرج من الكلية الحربية في الخرطوم
والتحق بالجيش السوداني ثم آثر دخول الغابة والالتحاق (كالعادة) بحركة التمرد ضد
الشمال ..... وكان من نتائج المعارك الضروس التي جرت خلال تلك الفترة أن فر الملايين
من ابناء الجنوب نحو الدول المجاورة وعلى نحو خاص يوغندا و أثيوبيا وكينيا وزائير
وحتى وسط وشمال السودان . فالحروب الأهلية عمياء لا تفرق عادة بين العدو والصديق ...
ويكتوي بنارها كلا الفريقين المتحارين.
وحين استفحل الأمر وتطاير شرر الحرب إلى شمال
وخارج السودان. وتناقلت وكالات الأنباء ما يجري في الجنوب ؛ عمدت الحكومة إلى تحاشي
التسييس بتشكيل لجنة "تقصي حقائق" تضم في عضويتها بعض الموظفين
الحكوميين من غير ذوي التوجهات السياسية ؛ ظناً منها بأن هذه الخطوة كفيلة بتبييض
وجهها وغسل يديها دون أن تمنح فرصة للأحزاب السياسية الخروج بنقاط لمصلحتها . وتم
إعلان تشكيل "لجنة الأفندية" هذه رسمياً في يوم 7 سبتمبر 1964م.
كان من بين ما إرتأته تلك اللجنة إقامة ندوات
لجذب المثقفين إلى المشاركة بآرائهم . وكانت ابرز أماكن عقد تلك الندوات هو جامعة
الخرطوم . ولكن سرعان ما ضاقت بها السلطة ذرعا وأصدرت في 10 أكتوبر1964 قراراً
بوقفها نهائياً .... لكن القرار على ما يبدو قد جاء متأخرا ، وبلغ السيل الزبى حين
تقدم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بمذكرة للحكومة مطالبا السلطة العسكرية بالتنحي ؛ وكان
رد السلطة السريع هو اعتقال أعضاء الاتحاد والزج بهم في السجن
... فتصاعدت
وتيرة الأحداث والمظاهرات الطلابية مطالبة بإطلاق سراح أعضاء إتحادهم وبدأ المرجل
يغلي والبخار يتصاعد.
في يوم 21 أكتوبر 1964م .... تحدى طلاب جامعة
الخرطوم السلطة فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة
الجنوب . فما كان من قوات الأمن إلا أن تدخلت مستخدمة الذخيرة الحية لفض الندوة
بالقوة . فسقط جراء ذلك إثنين من الطلاب صرعى هما أحمد القرشي و بابكر عبد الحفيظ
وجرح العشرات . وعلى إثر ذلك تقدم الأساتذة السودانيون في هيئة التدريس باستقالات
جماعية معلنة أن لا عودة إلا بعد زوال نظام الحكم العسكري
.....
وشهد يوم 22 أكتوبر 1964م تجمع الجماهير
السودانية في الخرطوم لحمل جثمان الطالب أحمد القرشي من مستشفى الخرطوم للصلاة
عليه ونقله إلى مسقط رأسه "قرية القرّاصة" ؛ حيث تحول هذا التجمع فيما
بعد إلى مظاهرات عارمة اندلعت في العاصمة وشملت كل مدن السودان فيما بعـد. وأعلنت
اللجنة المنسقة للثورة الشعبية العصيان المدني الذي شل حركة البلاد بأكملها . فأعلن
الرئيس إبراهيم عبود في 26 أكتوبر64م حل أعمدة السلطة آنذاك وهي المجلس العسكري ، ومجلس
الوزراء ، والمجلس المركزي. وبتاريخ 27 أكتوبر1964م تكللت المفاوضات التي جرت جوار
قبة الإمام المهدي بأمدرمان بين كبار ضباط الجيش وممثلي الأحزاب السودانية
بالاتفاق على تكوين حكومة انتقالية مدنية ، عرفت فيما بعد بحكومة سر الختم الخليفة
الأولى التي أعلنت يوم 30 أكتوبر 1964م .
كانت
حكومة سر الختم الخليفة الأولى من الضعف بمكان . وبدأت عاجزة عن أية مبادرة خلا
الأماني العذبة والسهر حتى ساعات الفجر الأولى على طاولات القمار وقرع كؤوس الخمر
التي كانت ملح ليالي المثقف والسياسي والمهني السوداني الرفيع تلك الأيام . وسرعان
ما جرى حل هذه الحكومة بعد مجزرة القصر الجمهوري التي تسبب بها أحد ضباط الجيش من
أعضاء مجلس الثورة المنحل وأودت بحياة 36 من المتظاهرين المطالبين باستقالة عبود من
رئاسة الجمهورية.
تلفت الناس حولهم فلم يجدوا أحداً يتفقون
عليه . فجاءوا مرة أخرى بسر الختم الخليفة ليرأس مرة أخرى بما عرف لاحقا في
التاريخ السياسي السوداني بـحكومة (جبهة الهيئات) ... وسميت بذلك كونها قد ضمت
ممثل للعمال وممثل للمزارعين وممثل لكل حزب من الأحزاب الرئيسية وهي حزب الامة ،
الوطني الاتحادي ، الأخوان المسلمين ، الشيوعي ، الشعب الديمقراطي ... بالإضافة
إلى ثلاثة ممثلين للجنوب ..
لكن سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء ليعلن سر
الختم الخليفة حل هذه الحكومة وأعقبها بتشكيل ثالثة تنحى في ظلها الرئيس عبود عن
سلطاته بشكل نهائي ثم أعقب ذلك حكومة رابعة أيضا برئاسة سر الختم الخليفة ... ولم
تستقر الأوضاع السياسية في السودان إلا بعد 25/4/1965م إثر إعلان نتائج الانتخابات
الديمقراطية التي فاز فيها حزب الأمة بخمسة وسبعين مقعدا وتلاه الحزب الوطني
الاتحادي بعدد 54 مقعدا . وتقاسمت بقية الأحزاب المقاعد بأعداد ضئيلة حيث أحرز
الحزب الشيوعي 11 مقعد والإخوان المسلمين 5 مقاعد ......
لم يهنأ طويلا بديمقراطيته تلك ؛ فكان إنقلاب
العقيد وقتها جعفر نميري صبيحة 25/5/1969 محمولا على اكتاف تحالف تنظيم الضباط
أحرار في الجيش مع يساري القوميين العرب والشيوعيون ، ليدخل السودان مرة أخرى في
دوامة من الصراع وتجارب العسكر والأفندية وبعض أساتذة الجامعة من غير ذوي الخبرة
والدراية السياسية . ودامت مهزلة إنقلاب مايو 16 سنة ثم أنتهت هي الأخرى بانتفاضة
شعبية للمرة الثانية على السلطة العسكرية في أبريل من عام 1985م.