صحة الخرطوم ؛ تكـاكي جُـوّة وتبيّـض بـَــرّة
مصعب المشرّف:
الوالي (عبد الرحمن الخضر) والنوم في العسل
نُشِـرَ اليوم تقرير صحفي في الخرطوم يفيد أن 30% من نزلاء المستشفيات الحكومية المجانية في ولاية الخرطوم هم من الأجانب ..... وأن الذي إتضح في خضم هذا الخبر هو أن ثلث ميزانية وزارة الصحة في ولاية الخرطوم الشحيحة أصلاً تذهب هباءاً منثورا لعلاج الأجانب .....
ألا يستحي القائمون على الأمر في وزارة الصحة بولاية الخرطوم؟ .. أليس في وجوههم مُـزعة لحم؟ .. أم أنهم قد غسلوا وجوههم هذه بأبوالهم في عصر المشروع الحضاري ومقتضيات التمكين؟
هل الأمر بهذه الصعوبة والمحال أن يجلس كاتب بسيط على طاولة فيمتنع عن تسجيل شخص كمريض لا يحمل بطاقة تعريف تثبت أنه مواطن سوداني ؟
وإذا كان كل السودانيين لا يحملون بطاقات شخصية تثبت مواطنتهم . فهل من المستحيل أن يشترط كاونتر تسجيل دخول المرضى في المستشفى .. أن يشترط توقيع المريض أو مرافقة على أورنيك يقر فيه بجنسيته ويحددها صراحة . أو أن يتعهد بسداد تكاليف العلاج (الغير مدعوم ) من جيبه الخاص في حالة عدم إثباته لاحقاً لسودانيته؟ ....
الزيارات السياحية الشبه يومية إلى بلدان البترول الثرية التي يختلقها المسئولون في الحكومة ، كان يجب أن تثقف هؤلاء المسئولين وتعرفهم بالكيفية التي تحافظ بها هذه الدول على مواردها رغم ثرائها الفاحش .. وحيث لا تسمح القوانين في السعودية أو الإمارات على سبيل المثال بتقديم العلاج المجاني لغير المواطنين على حساب الحكومة ؛ حتى لو كان هؤلاء الأجانب يحملون إقامات رسمية تشرعن لهم تواجدهم داخل حدود أراضي تلك البلاد.
وليت هؤلاء الأجانب الذين يقدلون ويبرطعون في مستشفيات ولاية الخرطوم وغيرها من ولايات كانوا من حملة إقامات شرعية في بلادنا الفقيرة أصلاً .. ولكنهم محض متسربين من الشرق والغرب والشمال والجنوب ومن كل حدب وصوب . ينهلون من خيرات هذا الوطن المغلوب على أمره ، ويقتاتون ويعتاشون على حساب ميزانيات مقتضيات التنمية ، ونتاج كد شعبه وعرق جبينه بعين قوية لا يطرف لها جفن ... وعلى الرحب والسعة ، وعلى عينك يا تاجر ... دون أن تسقط من وجوههم مزعة لحم .
يأتينا الأجنبي فوق حمار وعلى قدميه . ومحشوراً داخل بكاسي ولواري المهربين الجهلاء ؛ ويمرّون مرو الكرام متسربين تحت سمع وبصر المختص ؛ وبين أصابع المرتشين عديمي الضمير إلى داخل البلاد .... فينداحون كقوم ياجوج وماجوج .... وينتشرون في الجوانب والحنايا والأسواق إنتشار النار في الهشيم . وإن هي إلا بضعة شهور حتى يحصل ثلاثة أرباعهم على شهادات الميلاد المزورة والرقم الوطني الظريف .......... كل هذا شاع واستفحل خلال دياجير ظلام الفوضى الدينية والأخلاقية العارمة التي عمت البلاد في عهد المشروع الحضاري التخريبي ؛ وعصر التمكين السيء السمعة..
ومن أكثر إفرازات التمكين قذارة أنها حرمت المواطن من حقوقه الطبيعية في الوظيفة والثروة ومنحتها إلى الأجنبي المُوالي ..... حرمت المواطن من الحصول على الخدمات المجانية بالقدر الإنساني اللازم من اليُسـر والإحترام ؛ لأنها سمحت للأجنبي على علاّته بمشاركته فيها ومدافعته ومزاحمته ...
كل هذا يجري رغم أن السودان بلد لا يتمتع شعبه بالرفاهية . وحيث كان يجب أن يتم توجيه ما يتوفر من موارد لخدمة مواطنيه فقط دون غيرهم ... أو كما يقول المثل " اللي ما يكفي البيت يحرم على الجامع".
وبالنظر إلى الافرازات الصديدية التي نتجت عن التمكين والمشروع الحضاري . فقد كان الغرض البخس من تقريب الأجنبي على هذا النحو الذي زاد وأوصله حتى لدرجات غاية الحساسية في مواقع العمل الحكومي ثم والسياسي العام . إنما كان لكي تضمن قمة هرم السلطة إنقياد وولاء هؤلاء لها فقط وبوصفها وليّة نعمتهم . وحيث المال والمصلحة والمنفعة الخاصة هي العلاقة المتبادلة بين الطرفين لا غير..... وليذهب حاضر ومستقبل الشعب ونسيجه الإجتماعي إلى الجحيم.
وأما السبب في تقريب الأجنبي وإقصاء المواطن (للصالح العام) . فقد كانت قناعة الأخوانجية خلال تلك الفترة التي شهدت سيطرة حسن الترابي على السلطة ... قناعتهم الأكيدة بعزلتهم عن الشعب في الداخل ... فكانوا أن إستعاضوا بالأجنبي المرتزق ...
كل الثوابت والمتغيرات على مدى التاريخ تؤكد دائماً أن الإستعانة بالمرتزق الأجنبي حل قصير النظر والأمد لاسيما يوم الزحف ولمعان السيوف والخناجر ، وحين تستعر نيران الحرب ويحمى وطيسها في الجبهات وسط الأدغال وفوق الصخور وبين القيزان ؛ وحيث دائما ما ينقلب السحر على الساحر .... فعلها الموالي في الدولة الأموية ، والأعاجم في الدولة العباسية ، والإنكشارية في الدولة العثمانية ؛ ثم المماليك في مصر من قبل .... ولو كان الأجنبي المرتزق ينفع ويسند نظاما أو دكتاتوراً على طول المدى لكان قد فعل في الكونغو وليبيا ؛ وأنقذ القذافي من مصيره الإستثنائي في درجات سلّـم المهانة.
والمصيبة الكبرى أنه وبعد أن أزيح القانوني المعمم حسن الترابي من السلطة عشية الألفية الجديدة ؛ وتشكيل "حزب المؤتمر الوطني" .. ثم ونشأة تحالف "الإنقاذ" تباعاً .... فقد إستمرت ظلال قناعات حسن الترابي سائدة في معظم الخفايا والحنايا بنسبه 95% .. وبدا الأمر في نهاية المطاف وكأنه نتاج للعبة كراسي قصيرة النفس ، وتحقيق لأطماع شخصية بالتقدم للصفوف الأولى لا غير .
واليوم فإن المشهد يشير إلى أن المواطن السوداني الأصلي لم يعد يعرف موقعه الحقيقي المفترض في دوامة إنهيار مقومات المواطنة وبروز ظاهرة اللاجيء الأجنبي والمرتزقة ؛ اللذين يتحولون ما بين عشية وضحاها إلى أصحاب سلطة وثروة بسبب إتكائهم على أشخاص يمثلون مفاتيح السلطة في الحكومة وحزب المؤتمر الحاكم ... ثم يعيثون في نسيج المجتمع تمزيقا ، وفي موارد وإقتصاد البلاد نهباً وتخريبا بإسم الدين وخلف ستار اللحى وإصطناع التقوى التي يفضحها كـلاح وجوههم بسبب القلب الأسود والنفاق الزائد.