بُشارات مَــوْلـِـد الحبيب المُصطفى
(الحلقة الأولى)
مصعب المشرّف:
اليشارات في الكتب السماوية:
جاء
في القرآن الكريم أن الكتب السماوية (في النص الأصلي غير المُحرّف) قد حفلت
بالبشارات عن مبعث سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين الحبيب المصطفى صلى الله
عليه وسلم . فقد ورد في ذلك قوله عز وجل :
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 157 - الأعراف.
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ مبين﴾ 6 - الصف
وجاء
في الآية (81) من سورة آل عمران قوله وعز من قائل:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ
عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾
ومن
بين تفاسير هذه الآية جاء في صحيح البخاري عن إبن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما
بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن
بُعث محمدٌ وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه . وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث
محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه)).
البشارات في شبه جزيرة العرب:
لم
يكن العرب في صحراء شبه الجزيرة قبل مبعث النعمة والرحمة المهداة أهل كتاب . ولكن
رغم ذلك كانت الإرهاصات والبشارات بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه
تتردد بين حين وآخر ..وكان أول من تنبأ بحلول أوانه هو الملك " سَبَأْ "
في اليمن .. وإسمه الحقيقي عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وجرى تلقيبه "سبأ
" لأنه أول من سَبَىَ من العرب . والسَبْي هو الأسْر على اختلاف أنواعه . ومن
سبأ جرى اشتقاق اسم قبيلة سبأ ومملكتها في اليمن ؛ والتي ورد ذكرها في القرآن
الكريم (سورة سبأ) .
وقد
كان للملك سبأ هذا شِعْرٌ يتنبأ فيه بقرب مبعث سيد الخلق ويعلن إسلامه ومتابعته له
. ومن ذلك ما جاء في قوله:
ويملك بـعـد قحطان نبي تـقي جبيـنه خيـر الأنـام
يسمى احمدا ياليت أني أعمـر بـعـد مبعـثـه بعـام
فأعضـده وأحبـوه بنـصري بكـل مدجّـجٍ وبكـلّ رامي
متى يظهر فكونوا ناصريه ومن يـلقاه يبلغه سلامي
وربما
وبسبب تواتر هذه النبوءات وسط أبناء اليمن .. ربما لأجل ذلك رقق الله عز وجل
قلوبهم للإسلام . فكانوا الأسهل في الاستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم ؛ حين عمّ
الخبر أنحاء الجزيرة العربية بعد الهجرة . فجاءت وفودهم تترى إلى المدينة المنورة.
وعن
الإمام أحمد رحمه الله متواترا عن إبن عباس رضي الله عنهما يقول: أن رجلا (قيل هو
فرْوَةَ بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه) سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ماهو
؟ أرجل أم إمرأة أم أرض ؟ قال: ﴿بل
هو رجل ولد عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم اربعة . فأما اليمانيون
فمَذحِج وكِنْدَة والأزْد والأشعريون وأنْمَار وحِمْيَر عربا كلها . وأما الشامية
فلَخْم وجُذام وعامِلة وغَسّان ﴾.
والقبائل
الأربعة المذكورة في الحديث الشريف الذين نزحوا إلى الشام هم في حقيقة الأمر
"أهل سد مأرب" الذي تهدّم . أما بقية القبائل اليمنبة السِتْ فلم تهاجر
حسب نص الحديث. وربما يعود سبب عدم هجرتها إلى أن سبل كسب عيشها لم تكن مرتبطة
بهذا السد المنهار.
تفسير
شِقّ وسَطِيحْ لرؤية الملك ربيعة:
شِـقّ
: هو واحد من كبار الكهنة في الجاهلية (إن
لم يكن أبرعهم) .. ولد مشوها فكان نصف إنسان لاغير ... وإسمه شق بن صعب بن يشكر من
قبيلة نزار اليمنية .
سَطِيحٌ
: هو أشهر الكهنة في الجاهلية وإسمه ربيع
بن ربيعة الغساني . ولد هو الآخر مشوهاً لا أعضاء له . فكان مثل السَطِيحَة ووجهه
في صدره . وقيل بل لم يكن في جسده عظم سوى راسه ومعنى السَطِيحُ هو المُنْبَسِطُ .
فكان سطيح طوال عمره مُنْسَطِحاً على الأَرض لا يقدر على
قيام ولا قعود . ولكنه كان إذا غضب انتفخ فقوى لحمه
وجلس على هيئة كرة القدم . وقد طال عمره وعاش مائة وخمسين سنة.
والملك
ربيعة المشار إليه هنا هو ربيعة بن نصر إبن أبي حارثة بن عمرو بن عامر ويتصل نسبه
بلخم بن سبأ . فكان ربيعة أحد ملوك حِمْيَر التّبـَابــِعَةُ في اليمن .
وتقول
الروايات أن الملك ربيعة بن نصر رأى في منامه رؤيا أقلقته فدعا كافة المنجمين
ومفسري الأحلام والكهنة لتفسيرها . وعند اجتماعهم جميعهم في الموعد المضروب قال
لهم : إني قد رايت رؤيا أخافتني وفزعت بها ، فأخبروني بها وبتأويلها.
- فقالوا له: أقصصها علينا نخبرك بتاويلها.
- قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى قدرتكم على بتاويلها ، لأنه لا يعرف تاويلها إلا من عرفها قبل ان أخبره بها.
- فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شِقّ وسَطِيح ، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.فأرسل الملك ربيعة إلى كل من سطيح وشق يطلب منهما المجيء إليه فكان سطيح هو أول من وصل . وعند مثوله أمامه قال له الملك ربيعة:- إني قد رأيت رؤيا هالتني وفزعت بها ، فأخبرني بها ، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها.
- فقال له الكاهن سطيح: أفعل . رأيت حممة (قطعة نار) حرجت من ظلمة فوقعت بأرض تَهـِمَةْ (منخفضة) ، فأكلت منها كل ذات جُمْجُمّة .
- قال له ربيعة: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح ؛ فما عندك في تأويلها ؟
- قال سطيح: أحلف بما بين الحَرّتَـيْنِ من حَـنـَشْ (الحَرَّةُ أرضٌ ذاتُ حجارة سودٍ مليئة بالثقوب كـأنَّها أحرِقَتْ بالنار) . ، ليهبطن أرضكم الحَبَشْ ، فليملكن ما بين أبْيَنَ إلى جُرَشْ (وهي مناطق باليمن).
- فقال له ربيعة: يا سطيح ، إن هذا لنا لغائظ موجع ،فمتى هو كائن ؛ أفي زماني أم بعده؟
- فقال سطيح: لا وأبيك بل بعده بحين ، أكثر من ستين أو سبعين ، يمضين من السنين .
- قال ربيعة: أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع؟
- قال سطيح: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين.
- قال ربيعة: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم ؟
- قال سطيح: يليه إرم ذي يزن ، يخرج عليهم من عدن ، فلا يترك منهم أحدا باليمن .
- قال ربيعة: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟
- قال سطيح: بل ينقطع .
- فقال ربيعة: ومن يقطعه ؟
- قال سطيح: نبيٌ زكيٌ ، بأتيه الوَحْيُ من قبل العَلِيّ .
- قال ربيعة: وممن هذا النبي؟
- قال سطيح: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر . يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
- فقال ربيعة: وهل للدهر من آخر؟
- قال سطيح: نعم ؛ يومٌ يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
- قال له ربيعة: أحقٌ ما تخبرني ؟
- قال سطيح: نعم ، والشفق والغسق ، والفلق إذا اتسق ، إنّ ما أنبأتك به لحق.وبعد انتهاء مقابلته مع الكاهن سطيح . جاء إلى الملك ربيعة الكاهن الآخر "شــق" . فسأله على نفس النهج الذي سأل به سطيح فقال له شِق:
- نعم رأيت حُمَمَة خرجت من ظلمة ، فوقعت بين روضة وأكَمَة ، فأكلت منها كل ذات نسمة.
- فقال له ربيعة: ما أخطأت يا شق منها شيئا ، فما عندك في تأويلها؟
- قال شق: أحلف بما بين الحَرّتَيْنِ من إنسان ، لينزلنّ أرضكم السودان (يعني: سود البشرة) ، فليغلبنّ على كل طَفْلة البَـنَـان (يعني: الرُخُصُ الناعم الأبيض) ، وليملكنّ ما بين أبْيَنَ إلى نـَجْـران .
- فقال ربيعة: وأبيك يا شِقّ ، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده ؟
- أجاب شِـق : لا بل بعده بزمان ، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ، ويذيقهم أشد الهوان.
- فسأله ربيعة: ومن هذا العظيم الشان؟
- قال شق: غلام ليس بــِدَنِيّ ولا مُدَنّ (يعني: المقَصّر في الأمور) يخرج عليهم من بيت ذِي يـَـزَنِ .(قصد بذلك سيف بن ذي يَـزَن).
- فسأله ربيعة: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟
- أجاب شق: بل ينقطع برسول مرسل ، يأتي بالحق والعدل ، من أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
- فاستفسر ربيعة قائلا: وما يوم الفصل؟
- أوضح شق: يوم يُجزى فية الولاة ، يُدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الاحياء والأموات ، ويجمع الناس فيه للميقات ، يكون فيه لمن إتـقى الفوز والخيرات .
- قال ربيعة: أحقٌ ما تقول؟
- فأجاب شق: إي ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض ، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمْـض (شَكْ)...............ومن حِكَمِ تصريف القدر أن الملك ربيعة حين راجع نفسه بعد ما علمه على لسان الكاهنين ؛ جمع جزءا من أهله وأولاده فأرسلهم إلى العراق وكتب بذلك إلى ملك فارس حينذاك وإسمه "سابور بن خرذاذ " فأنزلهم الملك تحت حمايته وأسكنهم في الحيرة .... ومن نسل هؤلاء جاء ملوك الحيرة فيما بعد . وكانوا حلفاء للفرس ومنهم الملك الشهير "النعمان بن المنذر" 582- 610م صاحب قصر الخَوَرْنَقْ الذي بناه له سِمْنـَار . وهو كذلك مبتدع "يوم البؤس" و "يوم النعيم" فكان إذا دخل عليه شخص في يوم البؤس قتله . ومن دخل عليه في يوم النعيم كافأه .. ثم غضب عليه الملك كسرى لأنه رفض تزويجه إحدى بناته انفة من ان تتزوج العربية العَجَمِي . فنفاه وسجنه حتى مات . وقيل قتله تحت اقدام الفيلة. وعلى إسمه سميت ورود شقائق النعمان الجميلة الألوان لاسيما اللون الأحمر القاني. لأنه كان يحبها ويرعاها .(يتبع الحلقة الثانية)