عـودة علم الإستقلال أصبحت ضرورة
(الجزء الثاني)
مصعب المشرّف
30 ديسمبر 2014م
علم السودان الأصلي - (علم الإستقلال)
ملخص الجزء الأول:
تم التطرق في الجزء الأول إلى الأسباب النفسية والسياسية التي دفعت وأغرت الرئيس الأسبق جعفر نميري للمضي قدما في تغيير علم الإستقلال ، وإستبداله بما يعرف بعلم الثورة العربية الكبرى .. وقد تناول الحديث جوانب أساسية من مدلولات ومزايا وخصوصية علم الإستقلال بألوانه الثلاث الأزرق والأصفر والأخضر.
................
في هذا الجزء الثاني نتطرق برؤوس أقلام إلى الآتي:
1) مدلولات علم الثورة العربية الكبرى.
2) مدى ملاءمة ألوان علم الثورة العربية الكبرى للواقع السوداني القديم والحديث.... ومدى تماشيه مع المعاني والمأثور الإسلامي,
3) الخطأ الماثل في تهميش اللون الأخضر.
..............
بدايةً ؛ وقبل تفنيد مدلولات علم نميري المعمول به حتى اليوم ، وهو العلم الذي جاء نسخة مقلدة من علم الثورة العربية الكبرى ، مع تعديل إعتباطي في ترتيب الألوان .... فإن الذي يجب الإشارة إليه وتوثيقه هنا أن الثورة العربية ضد الأتراك في الحجاز التي قادها الشريف حسين (شريف مكة) ؛ وحين إبتكرت هذه الثورة هذا العلم إنما استوحت ألوانه من بيت في قصيدة للشاعر صفي الدين الحلي ؛ يقول البيت:
[بـيـضٌ صنائعنا حُـمْــرٌ مواضينا ..... خُضـرٌ مرابعنا سُــودٌ وقائعنا]
وقد جاء هذا البيت ضمن قصيدة للشاعر ؛ يقول مطلعها "سَلِي الرماح العوالي عن معالينا".
هذه القصيدة جادت بها قريحة الشاعر صفي الدين الحلي (1276 – 1349م ) لبعث الهمم في النفوس العربية المهيضة الجناح جراء الغزو المغولي البوذي بقيادة هولاكو .. علماً بأن الشاعر الحِلِّي وُلِدَ ونشأ في بغداد خلال الفترة التي كان فيها الإحتلال المغولي في أوجه عقب سقوط وتدمير بغداد والخلافة العباسية سنة 1258م.
وعند التطرق لشرح وتحليل معاني ومقاصد هذا البيت . يتضح لنا أنه لاعلاقة له بالبيئة السودانية بتعدد ألوان طيفها سواء العربية أو الحامية والأفريقية .
وأن معاني مقاصد هذا البيت من الشعر لاعلاقة له بتلك التفسيرات التي حاولت ماكينة تلميع (الزعيم) نميري نسج خيوطها..
خذ مثلاً معاني الكلمات الآتية في هذا البيت:
بيض صنائعنا : تعني أننا أصحاب يد بيضاء على غيرنا ..... والصنيعة هي كل ما ارتبط ببذل معروف منحته وقدمته للغير .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء".
حُمْرٌ مَواضِينا: مواضينا بمعنى عزائمنا .. والعزم هو المضي في الأمر بغير مبالاة بالمعاتبة . وكذلك القدرة على إتخاذ القرار بشجاعة ... وفي الوصف لشخص يقولون عنه "صاحب عزيمة ماضية" . وفي معنى ذلك قوله عز وجل : "فإن عزمت فتوكل على الله" .... وتعداده صلى الله عليه وسلم لـ "ذوي العزم من الرسل" .
خُضرٌ مَرابعنا: المَرْبَعُ هو الموضع الذي تقيم فيه القبيلة زمن الربيع خاصة .... وهو أفضل المواضع لدى العرب ولا يناله سوى الأقوياء . والمعنى الذي أراده الشاعر هنا مقتبس من قول عمرو بن كلثوم في معلقته : ونشرب إن وردنا الماء صفواً ..... ويشرب غيرنا كدراً وطينا.
سودٌ مواقعنا: الوقائع هي الوقعة ، والوقيعة . وهي الحرب والقتال . وقيل المعركة.
ولكن عند النظر إلى التفسيرات التي ساقها سدنة نظام مايو البائد لمدلولات هذا العلم . نرصد المضحك المبكي الآتي:
تم نفسير اللون الأحمر (رسمياً) بأنه يرمز ل\ماء شهدتء الوطن إبتداء من واقعة أمدرمان المعروفة في السودان بمعركة كرري ، التي أدت إلى انتهاء حكم المهدية الوطني . واستشهد فيها حوالي 50 ألف مجاهد. يضاف إليهم شهداء مقاومة الإستعمار وشهداء القوات المسلحة.
والسؤال الذي يطرح نفسه أولاً هنا هو : هل بدأ السودان وتاريخ السودان بمعركة كرري وانتهى بلإنقلاب مايو 1969م أم ماذا؟
أين نحن من نبتة ومروي وسوبا ، والسلطنة الزرقاء وسلطنة دارفور ، وممالك جبال النوبة ، وفازوغلي ْ؟ ........ لا بل وأين دور نادي الخريجين الذي أفرخ الأحزاب السياسية القومية وأفضى إلى إعلان الإستقلال رسمياً في يناير 1956م؟
سدنة نظام مايو البائد لا يجهلون حتماً هذا الواقع من تاريخ البلاد .. ولكنهم يرغبون ذر الرماد في العيون ...
الملك بعنخي
إنهم لجهة تعدّد الرموز السودانية من بعانخي إلى الأزهري . يعلمون أن جعفر نميري سيستحيل وسطهم إلى أقل من قزم .. ولامكان له من الإعراب بين هؤلاء الرموز العمالقة من قادة الأنظمة السياسية الناجحة على مدار تاريخ البلاد العريض .
وبالتالي جاءت إستراتيجية تلميع جعفر نميري ونظام مايو بوضعه على كفة ميزان يقابله في الكفة الأخرى الخليفة عبد الله التعايشي ونظامه الشمولي الفاشل .. وبذلك يقفز نميري ونظامه السياسي فوق عقبات المقارنة مع أنظمة سياسية ليس أقلها الديمقراطيات التي سبقته.
الخليفة عبد الله التعايشي
وكان التركيز على الهزيمة في معركة كرري . وتحليل أسباب نتائجها السلبية وتضخيمها وإبرازها هو الهمّ الأكبر ، والشغل الشاغل للآلة الدعائية التي أشرف عليها تكنوقراط عهد مايو .. وقامت الدولة بتمويل تأليف وإصدار وتوزيع وبيع أكثر من كتاب يدير الأعناق . ويحصر المقارنة بين نظام الخليفة التعايشي ونظام جعفر نميري دون سواهما.... فيعفي ذلك نميري من مغبة الوقوف تحت قامات العمالقة من بعنخي إلى الأزهري.
والمثير للسخرية أنه بعد كل هذه المحاولات الدائرية والمعالجات البائسة الملتوية لتلميع "زعيم أوحد" .. و "قائد ملهم" و "حزب شمولي أوحد" في الساحة عبر الزج بالخليفة التعايشي لمقارنته به . رأينا كيف أن جعفر نميري شرع ينحرف بســوء ؛ ويهيم على وجهه عن مساره القومي والوطني ؛ حتى إنتهى به المطاف "مقاول أنفار" .... وصاحب "وكالة توريد أيدي عاملة" ... ووسيطاً "بالعمولة" لتهريب اليهود الفلاشا إلى إسرائيل ....
على أية حال ؛ فإنه لايمكن الثقة في نوايا جعفر نميري وسدنة نظامه تجاه المهدية . ويشهد التاريخ أنه فعل بهم ما لم يفعله ونجت باشا وسلاطين .. ولأجل ذلك نستغرب أن يدفع هذا النظام بمزاعم ومقولات عن مدى إرتباط اللون الأحمر في العلم بمعركة كرري وشهداء هذه المعركة.
كل الأمم تحتفل بالإنتصارات .. ولكن سدنة مايو البائد قصدوا عن عمد هنا الإحتفاء والإحتفال بشماتة صامتة على هـزيمة المهدية في معركة كرري.
ونلفت الإنتباه أن الإمام المهدي بالذات كان في جميع خطبه ورسائله ومناظراته المحفزة للجهاد .. كان يركز على إستنهاض الدافع الديني ... ويبشر أتباعه بالشهادة ومرافقة الحور العين في الفردوس الأعلى .
فكيف إذن يناقض بعضنا أنفسهم والعقيدة ؛ حين يجعلون من اللون الأحمر في العلم دلالة على الإحتفاء بدماء الشهداء والقتلى؟
ألا يعرف هؤلاء أن الفردوس الأعلى هو منزلة الشهيد في الجنة ؟ .. وأن الفردوس الأعلى أخضر هو الآخر وليس بأحمر؟
ألا يدرك هؤلاء أن اللون الأحمر هو الذي تبناه الصليبيون في حروبهم ، وجعلوا منه تخليداً لدماء قتلاهم ؟
ألا يدرك هؤلاء أن اللون الأحمر هو الذي تبنته العقلية الغربية ، وجيوش الفِرِنجَة في الأندلس ؟
أين هذا اللون الأحمر في رايات الإسلام التي رفعها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ؟
السيرة النبوية الشريفة من الألف إلى الياء ؛ لانشاهد بين راياتها المرفوعة وجودا للون الأحمر ؛ سوى تلك العصابة الحمراء التي أخرجها الصحابي أبودجانة الأنصاري من جيبه وعصب بها رأسه رأسه بمبادرة شخصية منه يوم أحـد ... وجاء ذلك حين أكرمه الله عز وجل أن يتسلم بيده من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً "يأخذه بِحَـقِّـه" ، ويفلق به هامات المشركين.
وقد أطلق الصحابة على هذه العصابة الحمراء إسم "عصابة الموت" .. وعرفت بهذا الإسم فقط ... ولم يتخذونها رمزاً للشهادة أو تمجيداً لأرواح الشهداء.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قوله : كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض ورايته سوداء.
...................
ثم أن أكثر ما يثير في النفس الشفقة ؛ هو ذلك اللون الأبيض الذي يحتل في علم نميري مستطيل مساوٍ للمساحة التي يحتلها كل من ا للونين الأحمر والأسود بدون داع.
ماذا يعني اللون الأبيض ؟ ومالنا نحن به حتى في ألوان بشرتنا السودانية المميزة ؟ ... وما هي علاقته بأية دلالة رمزية سودانية ننفرد بها دوناً عن غيرنا أو ندَّعيها ؟
جتى الجلابية والعمامة السودانية التقليدية ... وطاقية الوقار ؛ لم تعد محصورة في اللون الأبيض وحده .
ويزعمون أن اللون الأبيض تعبير عن حسن النوايا ، وبياض القلب ، ونقاء السريرة . ونبل الطباع والسجايا الصافية والوفاء ..إلخ التي نتميز بها كسودانيين .... سبحان الله ويا إلهي ! ....
كل شعب من شعوب العالم (بمن فيهم التتار والصليبيين والغجر والصهائنة ) ؛ وكذا عصابات المافيا الإيطالية ، وآل كابوني في شيكاغو ، وكاوبويات تكساس ؛ يأنسون ويدَّعون في أنفسهم نقاء السريرة وبياض القلب ؛ ونبل الطباع والسجايا الصافية والوفاء .. إلخ .. وعلى نحو جعل من هذه المعاني الطلائية الجمعية محض إستعراض تسميع تلقيني أمام أولياء الأمور في حضانات الأطفال ...... ومجرد رؤوس أقلام رصاص لورقة إنشاء تحريري على طاولة إمتحانات النقل بين الصفوف في مدارس الأساس الحكومية من شنغهاي إلى شنغهاي؛ ومن مهد قبائل الزولو إلى شعب الإسكيمو.
لا بل ويقال أن أبليس لعنه الله ؛ سيقف خلف الصفوف يشب بقدميه ، ويمدّ عنقه ويحرك رأسه ؛ يطالع ويدَّعي حسن النية وبياض القلب ؛ ونبل الطباع والسجايا الصافية والوفاء ؛ طمعا في أن تناله رحمة الله.
وهاهو اللون الأبيض قد دخل على صحة فتياتنا ونساءنا ، والأجِنَّة في أرحام أمهاتهم بالساحق والبلاء المتلاحق ؛ حين إنكببن بسببه على إستخدام الكريمات المسرطنة والمعطلة للكلى ؛ لهثاً خلف "تبييض" البشرة واكتساب اللون العربي بلا طائل.
......................
ويقولون :
[أن اللون الأسود هو اللون الذي أشتق منه إسم بلاد السودان ، ويجسد الشجاعة والإعتزاز بالوطن والتراث. ويرمز أيضاً للإنتماء إلى القارة السمراء]
سبحان الله .. أخيراً تذكرنا عند اللون الأسود فقط واقع إنتماءنا للقارة السمراء ؟ ... وطفقنا نعبر عن فرحتنا وسعادتنا أن "الأشقاء" العرب أطلقوا علينا إسم "السودان" لأننا سود البشرة؟
إذن أينما تذهب في هذه المعاني التي ساقها نظام نميري الفاشل ؛ تجد بصمات القوميين العرب حتى في سخريتهم من سواد ألواننا.
والمفيد هنا أن العرب لم يطلقوا إسم السودان على سكان الرقعة الجغرافية المعروفة حالياً بالسودان .. فالسودان الحالي كان يسمى لدى العرب "بلاد الحبشة" .. وكذلك كانت له أسماء أخرى لدى أهل الحضارات القديمة من فرس وأغريق ورومان ؛ أشهرها "كوش" و "أثيوبيا" .
وطالما كان الأمر . فلماذا الأخذ والعبرة هنا فقط بمسميات العرب ونعوتهم وأوصافهم لنا وحدها ؟
هل يعني "السودان" The Sudan باللغة الإنجليزية مثلا نفس المدلول في اللغة الإنجليزية الذي تعطيه الكلمة العربية؟...
هل يقال للسودان باللغة الإنجليزية BLACK .. أم هل يقولون له باللغة الهندية " كـآلا " ... أم هل يقولون له باللغة الإسبانية NEGRO ؟
الإجابة أنه لا هذا ولا ذاك ...
كل العالم يعرفنا بإسم The Sudan .. وهو ما جعل هذا الإسم يتحول إلى "علم" .. أي أنه إسم موضع لمعيَّن من غير إحتياج إلى قرينة ، وبالتالي لم يعد له علاقة بالمعنى والمدلول الذي يبرره تصميم علم نميري....
ثم لماذا هذا العـض الذاتي في جلودنا والشقاء الملازم ؟ .. لماذا وقد كان لبلادنا منذ أكثر من 7000 عام أسماء أخرى منها أثيوبيا وكوش ، ونبتة ومروي؟
كذلك من ضمن المزاعم والتبريرات الأخرى في غير محلها ؛ هو قولهم أن اللون الأسود يجسد الشجاعة والاعتزاز بالوطن والتراث . ويرمز أيضا للإنتماء .... وجميع هذا مزاعم فارغة من باب الإنشاء التي لا تعني شيئا.... ولا يستحق عناء تفنيده.
يبقى بعد ذلك الإشارة إلى أن الجزء الأول من هذا المقال قد تناول ببعض الإسهاب اللون الأخضر في علم البلاد .. والتساؤل عن السبب في التقليل من أهميته ومساحته على الرغم من أن السودان بلد زراعي . ولا مستقبل إقتصادي منتج له سوى الزراعة ... وأن المنتجات الزراعية والغابية وما يرتبط بها من أنشطة ومنتجات حيوانية أخرى كانت ولا تزال تشكل صمام الأمان للسودان…. وكذلك يثار التساؤل عن مغزى تجاهل علم نميري لنهر النيل!
ومن ثم أحيل القاريء إلى الجزء الأول من هذا المقال منعا للتكرار وتحاشياً للإطالة.
(إنتهى)