لماذا يحتقرنا رئيس الجمهورية ويسخر؟
مصعب المشرّف
6 ديسمبر 2014م
الحديث الذي أفاض فيه الرئيس عمر البشير عن مشروع الجزيرة . ثم إنحرف فيه بالهجوم المتجني على إنسان الجزيرة . يجيء ضمن سلسلة طويلة من إستغراقه المتعدد في الحديث الساخر غير المبرر عن شعب هو رئيسه ..
نعم نعرف "موهبة" عمر البشير في السخرية من الغير وإطلاق النكات ... ولكنه هنا وبحكم منصبه الدستوري يصبح مثل هذا الحديث غير مباح سواء أكان في السر أو العلن.
والذي أستغرب له كيف يقدم البشير على السخرية وإحتقار مواطني الجزيرة ؛ في الوقت الذي تقبل فيه البلاد على إنتخابات رئيس الجمهورية في أبريل 2015م !!...
وهل يستقيم بعد كل هذه الشتائم والسخرية والنكات في أهل الجزيرة ؛ أن يعلن "مختار الأصم" رئيس مفوضية الإنتخابات غداً عن حصول عمر البشير على 89% من أصوات الناخبين في ولاية الجزيرة؟
لقد بدأت حلقات مسلسل هذه الشتائم الرئاسية الجامعة بشعب الجنوب السابق قبل الإنفصال . ثم قطاعات عريضة من شعب دارفور وجنوب كردفان .... ولكن الذي ينبغي أن يعيه عمر البشير هو أن الحاكم بمختلف مسمياته لا يشتم شعبه بأية حال من الأحوال.
نعم ربما يكون من حق الحاكم مهاجمة "أحزاب" و"مؤسسات" و "تنظيمات" معارضيه وخصومه وأعدائه في جانب الحكم والممارسة السياسية .. ولكن أن يقفز الحاكم فيعمم الشتائم والنعوت السالبة والساخرة على شعبه أو جزء عريض من شعبه ؛ فهذه بدعة لم يسبق البشير إليها أحد في الأولين والآخرين ...
ولا أدري كيف يسوغ حاكم لنفسه شتم شعبه وهو حاكمه؟
أخشى أن يكون البشير قد تأثر بأسلوب وزير الصحة بولاية الخرطوم "د. حُمّيدة" حين سخر من شعب ولايته وعرض عليهم أكل الضفادع ... كل ذلك في الوقت الذي يدرك فيه دكتور حميدة أنه ما كان ليحصل على شهاداته الأكاديمية ويتمتع بمزايا منصبه لولا هذا الشعب الذي أنفق عليه من جيبه وعرقه وكد يده طوال سنوات تحصيله العلمي من الإبتدائية وحتى الدكتوراة... ولا يزال.
من جهة أخرى فإن وصف عمر البشير لمزارعي مشروع الجزيرة بأنهم شيوعيون قد جاء يجانبه الصواب جملة وتفصيلا.
ولكن يبدو أن مولد وترعرع البشير في منطقة كافوري جنوب شرق مدينة الخرطوم بحري لم تمكنه من معرفة شعب بلاده على النحو المفروض .
ونراه في هذا الجانب يعتمد فقط على إنطباعات يغذيها ، ويحقن بها عقله وسريرته بعض مستشاري السوء وأفراد حاشيته لغرض في نفس يعقوب ؛ كلما أرادوا بمشروع وموسسة مّـــا نهباً وسرقةً.
والواقع أن معرفة الحاكم الدقيقة لشعب بلاده . تظل هي مفتاح الحكم الرشيد . والقدرة على الإمساك بكافة الخيوط ، دون حاجة إلى وسيط من أفراد حاشيته أو مستشاريه ؛ اللهم إلا في جانب التسيير والإدارة لا غير.
أستغرب إذن وصف الرئيس البشير لشعب الجزيرة (الذين هم أهل مشروع الجزيرة الزراعي ) بأنهم شيوعيين !
واقع الحال أن أهل الجزيرة كانوا ولا يزالون تسيطر عليهم توجهات متعددة ، تجعل من الصعب فرزهم في جانب ثقافي فكري سياسي أو حتى عرقي واحد.
فالولاء السياسي لأهل الجزيرة تتقاسمه كل من طائفة الشريف الهندي ، حزب الأمة ، الوطني الإتحادي ، الطرق الصوفية .. وهناك بالطبع قليل من الشيوعيين .. وولاءات أخرى لاتشكل في ذاتها ثقلاً . ولكنها تتحالف يوما مع هذه الأغلبية . ويوم آخر مع الأغلبية الأخرى حفاظاً على مصالحها ورغبتها في مواصلة الحياة والعيش الكريم.
وفي هذا الصدد أعجب أن يظن الرئيس البشير أنه لايزال هناك شيوعيون في عموم البلاد على ذات النحو والخطر الداهم الذي كان عليه الحال قديما في مقتبل سنوات حكم مايو البائد . وأبان سطوة الإتحاد السوفيتي والمد الإشتراكي الذي إنحسر منذ بداية التسعينات من القرن الماضي.
والشيوعية كفكر سياسي وإجتماعي إقتصادي لم تعد موجودة سوى كفلسفة في خزانات الأرشيف...
السمة العامة للحزب الشيوعي السوداني أنه لم يعد متجدد الدماء ... ومتوسط أعمار الشيوعيين في السودان تتجاوز اليوم ألـ 75 سنة ... ومعظم قادتهم أصبحوا اليوم من كبار السن ، بعضهم يعاني الزهايمر ، وآخرون مشغولون بأوجاع العظام والرطوبة وغيرها من أمراض الشيخوخة .. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ....
ولكن يبدو أن البعض من الإخوانجية يخاف حتى من قبور وأشباح الشيوعي ، بسبب ما كان عليه حالهم من مشاغبات فاعلة وحراك ملفت للنظر في الماضي.
ثم أن الذي ما كان يجب أن يفوت على ذهن عمر البشير ؛ هو أن القضاء على إنقلاب 19 يوليو الشيوعي العسكري بقيادة الرائد هاشم العطا .... أن القضاء وإجهاض هذا الإنقلاب بدأ من مدينة مدني عاصمة الجزيرة ؛ حين لجأ إليها الرائد أبو القاسم إبراهيم . ومنها ومن خلال تلفزيونها الإقليمي أعلن بداية المسيرة لتحرير الخرطوم من الشيوعيين.
ولجهة المكونات العرقية في منطقة الجزيرة . فإننا نجد فيها جميع قبائل السودان ومن الدول المجاورة كذلك خاصة غرب أفريقيا.
ونحن أبناء الجزيرة لا نتعارف على وجه العموم بمسميات قبائلنا إلا في حالات ضيقة جداً منها على سبيل المثال حالة التقدم للنسب والمصاهرة . فنعرف أن هذا الرجل شايقى مثلا وأن العروس دنقلاوية . أو أن هذا شكري وهذه عبدلابية . وذاك محسي وتلك بطحانية وأولئك مغاربة .. إلخ .
أو حين نرغب في "تأصيل" و "تأريخ " الإنتماء . وأن يعرف الناس بعضهم في النسب عملا بقوله عز وجل من الآية (13) في سورة الحجرات : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ] .
فالشعب هو النسب البعيد . والقبيلة هي النسب القريب . ثم تأتي الأفخاذ بوصفها النسب الأقرب.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاَلَ:" تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي المَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ."
أما في الأحوال العادية التي تشمل المشاركة والجوار والصداقة والتعارف والزمالة والعمل والترقي .. وغير ذلك من مجاملات في مناسبات أو نشأة علاقات إجتماعية بين الأفراد وسبل كسب العيش ؛ فلا نتذكر سوى أن الشخص سوداني ..... وبما يعني في نهاية المطاف أن أهل الجزيرة وبسبب إنصهارهم في فعاليات المشروع الزراعي قد تناسوا مسألة القبلية والجهوية إلى حد كبير ... وهو تناسي لو قدرناه بنسبة مئوية لقلنا أنها تصل إلى 99%.
وكذلك فإن الزراعة معروفة بأنها أساس الحضارة في كل مكان . وأنها دافعة للإستقرار وإتباع النهج السلمي في التعامل والتعايش.
والواقع أنه حين نؤرخ للشيوعية في السودان فعادة ما تتجه الأبصار نحو المدن الصناعية . وكذلك حقيقة إرتباط الحزب الشيوعي بنقابات عمال السكك الحديدية والمصانع .. وهذه جميعها في المدن الكبرى وأهمها أتبرا وبحري .
وأنه على الرغم من تواجد شيوعي كان في وقت سابق بمدينة مدني . فهو تواجد على مستوى النخبة فقط ... فلم يكن بتلك الدرجة الملحوظة في الإنتشار على مستوى القاعدة مقارنة بعطبرة وبحري أو حتى الخرطوم ..
ويعود سبب هذا التواجد الشيوعي الباهت في ودمدني إلى غلبة تيار المزارعين وإلتصاقهم بالأحزاب الوطنية والطرق الصوفية بوجه خاص ... ثم وهيمنة الإدارة الأهلية وقوة قبضتها الإقتصادية ، وأثرها النفسي على صغار المزارعين والرعاة حتى وقت قريب.
وحتى لايكون الكلام على عواهنه ؛ كنا نرجو من عمر البشير لو عاد بذاكرته إلى الوراء قليلاً . أو طلب تقريرا عن تاريخ الأحزاب السياسية في البلاد .... ثم ويضع أصبعه على الدوائر في العاصمة والأقاليم التي جاءت بنواب شيوعيين إلى مجلس الشعب خلال الديمقراطيات الأولى والثانية والثالثة التي كانت إنتخاباتها حرة نزيهة جقيقية ، وتتسم بشفافية الكريستال.
......................
وإذا كان الرئيس عمر البشير يسخر ويقلل من شأن مشروع الجزيرة ويعايره بأنه خسران .. فلماذا لا يكلف نفسه بالبحث في أسباب هذه الخسارة التي طرأت عليه . وأن سببها الرئيسي هو فساد الإدارة التي جاءت بها ثورة الإنقاذ وفرضتها فرضاً على رأس مشروع الجزيرة.
لماذا لا يطلب عمر البشير قائمة بأسماء رؤساء مجلس الإدارة وكبار المدراء التنفيذيين لكل من مشروع الجزيرة وهيئة الخطوط الجوية السودانية ؛ الذين جاءت بهم حكومة المؤتمر الوطني في عهده ... .. ثم يبحث عن "فضـولي" و القاسم المشترك الأعظم فيعرف من هو سبب هذه الخسائر والخراب الذي إستجد ؟......
من هو الذي باع أصولها خردة وجنى من وراء ذلك ملايين الدولارات ؟
ومن هو الذي جلب البذور الفاسدة وارتفع رصيد حسابه في الخارج بالملايين؟
ومن هو الذي يضرب اليوم في قواعد المشروع بمعاول الخراب حتى يركع، تمهيدا لتحويله إلى شركة مساهمة فاشلة ؛ ثم الإستيلاء على أراضيه برخص التراب؟
من .. ومن .... ومن سرق وأكل وشرب ؛ ضمن منظومة وشبكة فساد جامعة شبيهة بالمافيا ؟
إن خسائر مشروع الجزيرة مستجدة . وهي ليست مزمنة ... ولكن لن يتغير حال مشروع الجزيرة الراهن حتى تغير حكومة الإنقاذ إدارة هذا المشروع . وتأتي بكفاءات تتحلى بالصدق والأمانة ، وتخاف الله في نفسها وأولادها قبل غيرها . وتكون على دراية بأن الموت آتي والقبر مفتوح طوال أربعة وعشرين ساعة... فلا تغتر بمنصب لو كان قد دام لغيرهم لما أتى إليهم.
وننصح كل مسئول حرامي يسرق سرقاته . ثم يذهب إلى بعض تجار الدين والزنادقة يطلب منهم منحه صكوك الغفران والفتاوي الإنقاذية ... ننصحه بأن يوفر على نفسه المشاوير ... فالحلال بَيِّن والحرام بَيِّن .... وأنه واهم إن كان يظن أنه يخدع الله . وأن صكوك غفران لجان الفتوى السلطانية تعفيه عن المساءلة وهو يعلم أو لايعلم أنها فالصو .. بل سيأتي بها هو والذي أصدرها له ؛ فيحشرهم الله يوم القيامة عمياناً .. واقرأ إن شئت قوله عز وجل في سورة طه: [قالَ رَبِّ لِمَ حَشرْتَنِي أعْمَى وَقدْ كُنتُ بَصِيرا (125) قال كذلك أتتك آياتُنا فنَسِيتَها وكذلكَ اليومَ تُنسَىَ (126) ].
وهناك من ذهب إلى القول بأن لمصر ومحاولة عمر البشير إرضاء مصر الضلع الأوفر . على إعتبار أن زوال مشروع الجزيرة يشكل فتحا إقتصاديا نصرا إستراتيجيا عظيما لمصر ؛ سواء في مجال إحتكارها زراعة وإنتاج القطن الأبيض طويل التيلة من جهة . وتوفير المزيد من ماء النهر لمصلحتها من جهة أخرى.
ربما يكون هناك وجه من وجوه الحقيقة هنا .... ولكنها ليست بالسبب الرئيسي ؛ كون أن علاقة الإخوان المسلمين مع نظام الحكم العلماني في مصر تكتنفه الهواجس . وتتمدد في أكنافه الكثير من الخطوط الحمراء ... وبالجملة تنعدم في طياته الثقة المتبادلة ... ولا يبشر بخير أبدا.
ونتوقف هنا لنؤكد لعمر البشير أن مصر لن تنفعه في شيء حتى لو أشعل لها شعر رأسه ؛ وأوقد أصابع يديه وقدميه العشرين شَمْــعَا .... وأنها لو كانت تنفع لنفعت قبله عراب التكامل جعفر نميري .. أو نفعت قبله اللواء الأبيض وأحزاب الأشقاء والوحدوية ، وأجلست الختمية على كراسي الحكم دهراً وعُصُورا
.............
أغلب الطن إذن أن الأصولية العالمية بالتحالف مع الرأسمالية الإسلامية الطفيلية السودانية ؛ ترغب في نزع ملكية أراضي مشروع الجزيرة . تمهيداً للسطو عليها بعد دفع تعويضات بخسة للمزارعين . وبذلك تكون الأصولية العالمية والطفيلية المحلية قد وضعت يدها على أكبر مشروع زراعي في أفريقيا . وواحد من أكبر المشاريع في العالم .... وهو ما سيوفر لها ولعناصرها ومحاربيها وكوادرها الإرهابية مستقبلاً ؛ الإمساك بسلاح الغذاء الإستراتيجي في هذا الإقليم الأفريقي الإسلامي العربي.