أثــر غياب التمويل في إجهاض ثورة 23 سبتمبر
مصعب المشرّف:
CIA
·
نلحظ أولاً غياب الرغبة
الأمريكية في إزالة نظام حكم المؤتمر الوطني إلى حين إالفراغ من تنفيذ خطة تقسيم السودان الموضوعة
الآن على الطاولة .
·
وعلى أية حال فإن عدم رغبة
الولايات المتحدة وغياب التمويل يظلان في الواقع وجهان لعملة واحدة .. أو بما
معناه أنه لو كانت الولايات المتحدة ترغب في إسقاط النظام لقامت بتوفير التمويل.
·
بعد إنقلاب عمر البشير في يونيو
1989م شهد العالم تفكك الإتحاد السوفيتي ثم سقوط نظام البعث العراقي ، ومعمر
القذافي.
·
سقوط نظام القذافي جعل مشاركة حزب
الأمة القومي في 23 سبتمبر واهية ومظهرية فارغة من كل مضمون . وظل يراوح نفسه
ويمارس خوار الثور المربوط بحبل من التيل على وتـــد.
·
إنشغال مصر السيسي بمشاكلها
الداخلية حرم الحزب الإتحادي الديمقراطي (الخديوي) الأصل من التمويل السخي ؛ فآثر
البقاء ضمن المؤلفة قلوبهم ومقاعد الإحتياط خلال الأحداث .... وحتى إشعار آخر.
·
غياب قنوات الإتصال التاريخي
والمنهجي الفاعل لكل من حزبي الأمة وحزب الإتحادي الديمقراطي مع مصادر تمويل عربية
بترولية لتعويض غياب القذافي يبقى في حاجة إلى خبرات وقدرات إنتهاز فرص التباينات
السياسية ؛ وضرورة تحديد موقفها السياسي والمذهبي من إيران الخميني.
·
تفاجأ الناس طوال أحداث 23
سبتمبر بأن تحالف الجبهة الثورية ليس سوى نمور من ورق خارج مجالهم القبلي والجهوي
الحيوي ، فلا أسلحة مدفونة ولا ذخائر وقنابل ...... وأن خلاياها الهزيلة النائمة إشاعة
ومجموعات متفلتة لايحتكمون سوى على زجاجات بنزين وحفنة من علب الكبريت .
.........................
لعل
الذي لم يلتفت إليه كثير من المحللين للأسباب الجوهرية التي أدت إلى إجهاض ثورة 23
سبتمبر التي تسبب فيها رفع الدعم عن المحروقات ، وخمودها المفاجيء بهذه السرعة
النيوترونية .... لعل الذي لم يلتفت إليه هؤلاء ولم يتطرقوا إليه إنما يظل دائما
هو غياب التمويل المالي الللازم لإدارة وتنظيم حركة الجماهير الإحتجاجية في الشارع
.. وهو ما أدى بها في نهاية المطاف إلى إقتصارها وإنحسار مدّها لتصبح مجرد إحتجاجات وردود أفعال وقتية لازمت
حالة الغضب جراء القرار ؛؛؛؛ القرار الذي
لابد أن يعترف الجميع بأنه جاء عجولاً دون أن يأخذ وقته الكافي للتداول داخل
البرلمان وفي أجهزة الإعلام ..... ويبدو أن عدم ثقة وزارة المالية في قدرتها على
تمرير هذا القرار عبر الوسائل والقنوات التشريعية والإعلامية المتوفرة هو الذي أدى
بها إلى الرمي به بهذه الطريقة الخرقاء الحمقاء ؛ دون تمهيد وشرعنة وسابق إنذار.
وحين نتطرق إلى غياب التمويل نورد هنا حالة
"تمرد" المصرية التي إتضح أنها تلقت تمويلاً على دفعات وصل مقداره إلى 6
مليارات جنيه مصري حتى تاريخه ؛ جاء نصفها من رجال أعمال مصريين كبار على رأسهم
إمبراطور الإتصالات القبطي الفلولي "نجيب سواريس" .... ثم تدفقت عليها
الأموال بعد ذلك من بعض الأنظمة العربية والإستخبارات الإسرائلية ؛ التي ما كان
لها أن تسمح بإستمرار نظام الإخوان المسلمين ، وتكرار التجربة السودانية (بحذافيرها)
في بلد إستراتيجي محوري مثل مصر يتعدى أثره خارج حدوده ليشمل كل منطقة الشرق
الأوسط.
غياب
التمويل يظل العقبة االرئيسية التي تواجه نجاح كل نشاط يمكن أن يتخيله الإنسان في
هذا العصر بالذات ؛ رغم أنه كان يلزم في السابق بلا جدال ...... ولكن أثره ودوره
المحوري الفاعل أصبح أكثر الآن ... وقديماً قال الشيخ فرح ود تكتوك : ( أكان
ما عجيني منو البجيني؟)
إن
مجرد ترتيب موكب أو إقامة ليلة سياسية أو ندوة . فإنه لابد لها من تمويل مالي
لتغطية تكاليف تأجير الكراسي ، والمياه الصحية والغازية ، والصحون والخيام ، والكهرباء
، وإجراء الإتصالات الهاتفية وتوفير المواصلات ... إلخ . فكيف بك حين يتعلق الأمر
بتوفير تمويل لتدبير ثورة شعبية تسقط نظاماً سياسياً قائما ؛ سيطرت كوادره على
كافة مفاصل الدولة ، ودنيا المال والأعمال والتجارة ؟
وعند
الدخول في تفاصيل الأمر لاينبغي هنا أن نستغرب الدور الباهت لكافة الأحزاب
السياسية القومية ، ومجموعات التمرد الجهوية المسلحة خلال أحداث وإحتجاجات 23
سبتمبر 2013.
حزب
الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي ؛ لم تعد لديه مصادر التمويل الذاتي التي كان
يتميز بها في السابق نتيجة للإستهداف المنهجي لنظام مايو الشمولي لأملاك هذا الحزب
بالتصفية والتفكيك والتوزيع ؛ خاصة بعد أحداث الجزيرة أبا (1970م) التي أدت فيما
بعد لمقتل إمام طائفة الأنصار في ذلك الزمان وهو السيد الهادي عبد الرحمن المهدي ....
ولأن
نظام مايو إستمر قرابة 16 سنة ؛ فقد كان أثره في إفقار حزب الأمة ماحقاً وجوهرياً .. وظل الصادق المهدي بعد زوال
نظام مايو وحتى تاريخه في حالة إنشغال دائم بتسديد الديون وتجميع شعث ما تبقى
لدائرة المهدي من أملاك ومصانع ومعاصر متهالكة طالتها المصادرات والنهب والتبديدات
وتراكمت عليها الخسائر ، ثم وإنتقال الملكية من يد إلى أخرى على نحو تفرقت فيه معظم أملاك الدائرة بين
القبائل . ولا تزال دعاوي إسترجاعها والمطالبات بالتعويض قابعة معظمها في أدراج
المحاكم المدنية الباردة والطويلة الأنفاس .
دائرة
الميرغني الراعية والداعمة الرئيسية لما كان يعرف بــ "حزب الإتحادي
الديمقراطي" ؛ عانت هي الأخرى بعد وفاة السيد علي الميرغني من غياب
الكاريزمية الروحية والتاريخية . وتعرضت لنفس سياسة الإفقار الممنهج الذي مارسه
تجاهها نظام مايو ؛ حيث تم مصادرة العديد من ممتلكات الدائرة في الشمالية وكسلا
وعموم الشرق ... وكان في إلغاء الإدارة الأهلية قاصمة الظهر والدور الأبرز في
تحجيم كل ما يتعلق بطائفة الختمية من نفوذ ورهبة وهيبة وقناعات بالبركة والقدسية في
قلوب البسطاء ؛ ناهيك عن مخرجات سلم محي الدين صابر التعليمي ... ولولا بقاء مصدر التمويل المالي الذي كانت تغدقه
عليها مصر . ثم وريع أملاكها وعقاراتها وإستثماراتها هناك لما استطاعت أن تعود
لتقف على قدميها مرة أخرى... ولولا "كوتات" التعليم الجامعي الذي توفره
مصر للطلاب من أبناء أتباعها لزهد فيها هؤلاء وتفرقوا أيدي سـبأ.
حزبي
البعث والشيوعي مصادر تمويلهما معروفة ومكشوفة ما بين السفارة العراقية وسفارة
الإتحاد السوفيتي قبل تحلله ......
وبالتالي فإن تفكك الإتحاد السوفيتي (عام 1991م) . وسقوط نظام صدام البعثي (عام
2003م) قد كان لهما أهم الأثر في غياب التمويل ، وبالتالي إفلاس هذين الحزبين وإصابتهما
بالشيخوخة وآلام المفاصل والرطوبة فزهد صبيان الثانويات والجامعات فيهما ؛ وإنفض
أغلب الشباب من حولهما غير آسفين ولا نادمين.
ويجدر
الذكر أنه وفي صبيحة إنطلاق شرارة إنتفاضة مارس / أبريل عام 1985م لم يكن هناك في
البداية سوى إخوان الترابي المسلمين ؛ الذين ظلوا يحافظون على تمويل نقدي سري مباشر
من الأصولية العالمية . الأمر الذي جعلهم لا
يهتمون ببناء مصادر تمويل خاصة بهم على هيئة أملاك ومصانع داخل السودان ، وبالتالي
لم ينال منهم نظام مايو في كبدهم كما نال من الأنصار والختمية .. وربما لأجل ذلك
نلحظ أن تفجير إنتفاضة مارس/ أبريل 1985م إنما كانت إنطلاقاً من جامعة أمدرمان
الإسلامية التي تمثل أقوى أذرعتهم الثورية القوية في الشارع.
ظل
الناس يتلفتون ذات اليمين واليسار لهفة لما ظنوا أنها خلايا نائمة للتمرد داخل
العاصمة والمدن الكبرى .. ولكن خاب ظنهم . وليتضح جلياً أن فسيفساء الجبهة الثورية
لاتمتلك قواعد جماهيرية كافية يمكن التعويل عليها في العاصمة .. كما أنها ليست من
القوة العسكرية والإستخباراتية بأكثر من مجموعات متفرقة تعمل بخطط حرب العصابات
وتكتيك أضرب وأهرب داخل مجالها القبلي الحيوي فقط لا غير متى جمعت ما تيسر من
تمويل قصير الأمد؛ يكفل لها تجميع أفرادها لمهاجمة قرية نائية ، وأطراف مدينة مّا
قبل الإنسحاب منها بعد سويعات ..... وأن دونها برك الغماد من التأثير الأمني الجوهري
في العاصمة المثلثة ، أو إحتلال واحدة من مدن السودان الكبرى عسكرياً وإدارتها
مدنياً.
كان
إنحسار قدرات الجبهة الثورية عامة ؛ والعدل والمساواة ، وميناوي خاصة متوقعاً عقب
تحسن علاقات الخرطوم بإنجامينا ثم سقوط معمر القذافي في ليبيا ... وعلى الرغم من
وجود تمويل من دولة جنوب السودان إلا أنه يظل غير سخي مقارنة بالتمويل الذي كان
يأتي من القذافي أو الذي يمكن أن توفره إسرائيل بين الحين والآخر لعبد الواحد نور...
وتظل البيانات التي يدبجها هؤلاء وغيرهم ويجري توزيعها على المواقع الألكترونية
.... تظل وحدها الأكثر تواجداً في الساحة ، بغض النظر عن قول أبو تمام: السيف أصدق
انباءاً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
يبقى
بعد كل هذا التذكير بأن "قوى الإجماع الوطني" كانت قد توعدت بإسقاط نظام
المؤتمر الوطني الحاكم خلال 100 يوم .. وكان تاريخ إعلان هذا الوعيد منتصف يونيو
الماضي تقريباً .... ويتضح من الفرق بين توقيت ثورة 23 سبتمبر ومنتصف يونيو مرور
(100 يوم تقريبا) بالفعل .... فهل كانت هذه القوى على علم بأن هناك نوايا حكومية
برفع الدعم عن المحروقات ودقيق الخبز وغيرها من سلع وخدمات أم ماذا؟
الذي
لا يعلمه البعض أن خطة الحكومة كانت أبعد من مجرد رفع الدعم عن المحروقات فقط ..
وأنها كانت تنوي رفع يدها عن كافة أنواع الدعم . ولكن آثرت أن يكون الأمر على
مراحل ، وأن ترمي أولاً بورقة توت المحروقات لجس نبض الشارع ، وتلمس ردود أفعال المواطن
العادي قبل أن تكشف عن عورتها بالكامل.
ولكن
بعد كل هذا ؛ فلا ينبغي لحكومة المؤتمر الوطني أن تعوّل كثيراً على فقر المعارضة
الذي يجبرها على الإستكانة والتأليف وحتى الرضا بركوبها وضربها على أدبارها ....
وقديما قال الملك الإعرابي: "جوّع كلبك يتبعك" فاجتمع عليه قومه بعد
زمان فقتلوه . فقال إعرابي آخر مرّ على جثته: "ربما إشتد جوع الكلب فأكــل
سيده".