تساقط الأقنعة الإسلامية من شرُفات
القصر الجمهوري
مصعب
المشـرّف:-
التغيير
الذي أصاب ترويكا القصر الجمهوري لم يكن متوقعا لجهة التضحية بعلي عثمان طه من جهة
ونديده علي نافع من جهة أخرى دفعة واحدة .... ذلك أن أحدهما فقط كان المتوقع أن
يكون ضحية الطرف الآخر ... وليس أن يتم التضحية بهما الجـــوز هكذا دفعة واحدة.
الإحالة
إلى العمل الحزبي في حالة الأنظمة الحاكمة في بلدان العالم الثالث عشر ، هي حالة
شبيهة بالإحالة إلى المعاش الإختياري مع بعض مساحيق المكياج الرخيص ، وكريمات التبييض
المخلوطة واليمنية المنشأ التي تسلخ وجوه فتياتنا
(الأخضر الليمون) لهثا خلف بياض لن يأتي أبدا.
قبل
أن ينقشع ضباب التوقعات والتخمينات . كان البعض يراهن على أن نافع علي نافع هو
الذي سيحتل منصب النائب الأول .. ويبدو أن البعض قد غاب عن ذهنه أن الأساس العسكري
لحكومة البشير لا يمكن أن يستمر بدون وجود شخصية عسكرية على رأسه ..... ويبدو أن
تعيين الفريق بكري حسن صالح قد جاء تصحيحاً لوضع ظل مائلاً منذ وفاة اللواء الزبير
محمد صالح الذي كان يحتل هذا المنصب قبل حادث الطائرة المثير للجدل الذي أودى
بحياته عام 1998م.
التخلي
عن السلطة طواعية ليست من قناعات وثقافة وديدن ساستنا وحكامنا ووزراءنا وحتى مدراءنا وغفراءنا .... والتبرير
(المبستر) بإفساح المجال للوجوه الجديدة والشباب ، والحديث المنمق عن التضحيات لا
يبدو مقنعاً .. ولا يخيل حتى على البلهاء ... لا بل ويبدو مثل العودة بكأس اللعب
النظيف وأمثاله من جوائز الترضية التي عادة ما يتم توزيعها على فرقنا الفنية في
مهرجانات العروض العربية والعالمية.
لم
يكن يخفى على أحد أن العلاقة بين عمر البشير ونائبه الأول علي عثمان طه قد إتسمت
منذ قرار المحكمة الجنائية الدولية بقدر وافر من جوانب التنافس الصامت ....... وظل
البشير في شك من أن طه يعمل مثابراً لتقديم نفسه كرجل دولة مقبول لدى الخارج ....
فهل كان التغيير الوزاري الذي جرى بهذا الحجم والنوعية لمجرد إدخال عناسر شابة ؛ أم
أنه يجيء تساقط للأقنعة الإسلامية من فوق
شرفات القصر الجمهوري لمصلحة عمر البشير والعسكر أولاً ثم وكجزء من تفاهمات البشير
مع الصادق المهدي ... ونصائح الأخير له في تلك الجلسات الرمضانية الثنائية السرية
؟
بعض
الوزراء الذين خرجوا من التشكيلة الأخيرة يظل خروجهم مفهوما ومبرراً أكثر من
مبررات خروج علي عثمان ونافع المعلنة . وذلك أن بعضهم قد طالته إتهامات بالفساد
وإستغلال الوظيفة العامة للتكسب الحرام . كما أن البعض الآخر قد سجل فشلاً ذريعاً
في إحراز نتائج إيجابية مثمرة كانت ترتجى من تعيينه أو تنصيبه.
وطالما
كان الأمر كذلك فإن ملابسات إبعاد علي عثمان طه بالذات ، وتعيين الفريق بكري لمنصب
النائب الأول يعني كل أو جزء من الإحتمالات الآتية:
1- رغبة الرئيس البشير السيطرة الكاملة على زمام ومقاليد
السلطة ، ويجمع في يد واحدة بين رجل القصر القوي ورجل الحزب الحاكم القوي على حساب
علي عثمان طه بشكل خاص ؛ بوصفه الوجه الأكثر قبولاً وإقناعاً في المؤتمر الوطني من
بين النيازك والشظايا التي خلّفها إنفجار نجم الترابي العظيم صبيحة
إنقلاب القصر المعروف أواخر عام 1999م.
2- في التقليل من هيمنة الإخوان المسلمين (جناح علي عثمان)
و (جناح نافع) على ترويكا الحكم في القصر الرئاسي ؛ ما يمهد أدواراً شبه
محترمة وخانات إضافية لمزيد من دراويش الأمة
القومي ، وحيران الإتحادي الديمقراطي الخديوي الأصل من جهة ؛ بالإضافة إلى كومبارس
وشيالين وبغال الأحزاب الإسمية الأخرى التي ترغب في لعب دور ما في مسرحية (أكل
عيش) السارية العرض في التياترو السياسي.
3- إستعادة دور القوات المسلحة النظامية التقليدي بالمشاركة
بالحكم ، وبوصفها الأقدر على حماية النسيج الإجتماعي من التمزق .. وبعد أن أثبتت
التجربة أن إبعادها عن مباحثات نيفاشا ، وتهميشها في مباحثات أثيوبيا والدوحة لم
ينتج عنه سوى إغفال الكثير من الجوانب الأمنية الإستراتيجية ، وإتاحة الفرصة أمام
بعض الطامحين المدنيين بإدعاء تحقيق إنجازات في المفاوضات السياسية عبر إتباع
سياسة الكنس تحت السجادة ، ثم وتأتي الأيام لاحقا لتتكشف عن خروقات ومآسي وأخطاء
مفصلية تضمنتها بنود سرية وتفاهمات شفهية ربما لم يتم إطلاع الرئيس البشير نفسه عليها
في حينها.
4- ربما يكون الرئيس البشير يفكر جدياً بعدم ترشيح نفسه
للرئاسة في دورتها القادمة .... وأنه بتعيين الفريق بكري حسن صالح (والذي هو صديقه
المخلص الحميم) يضمن عدم تسليمه لمحكمة الجنايات حتى لو أدى ذلك إلى إستمرار
الحصار الذي يتعرض له السودان وعزلته الدبلوماسية التي ظل يعاني منها منذ صدور
قرار هذه المحكمة بطلب مثول البشير أمامها. .... وبالطبع فإن عمر البشير ما كان ليثق
في أن علي عثمان طه لن يسارع بالتضحية به في وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لو
أنه أصبح الرئيس خلفاً له.
5- ربما يكون الرئيس قد أخذ على علي عثمان طه النأي بنفسه عن
تلطيخ يديه بدماء وضحايا أحداث دارفور و إنتفاضة 23 سبتمبر . وممانعته الغير معلنة
وتعامله بذكاء سياسي يحسد عليه في هذا الجانب ، وحيث نلاحظ أنه دائماً ما كان يعطي
العالم الخارجي الإنطباع بأنه رجل دولة وحمامة سلام ومهندس مفاوضات .. فكان أن شال
البشير وحده الشيلة . فأصبح هدفا مشروعاً للمحكمة الجنائية الدولية ومنظمات حقوق
الإنسان ، وغير ذلك من إرتدادات وإبتزازات وتصرفات إستفزازية من دول عربية
وأفريقية مست شخصه وهيبته في الداخل والخارج كرئيس جمهورية ؛ في الوقت الذي حافظ
فيه علي عثمان طه على سجله ناصع البياض. وتمتع بحرية السفر والحركة والإجازات
والسياحة والتزحلق على الجليد في كل عواصم الدنيا الباردة والدافئة بما في ذلك
أداء الحج وزيارات العمرة ، وعبور الإجواء بكل حرية وسلاسة تستحق الغيرة والغيـــظ
؛ وشـرّ حاســـدٍ إذا حســــد.
6- وعلى كل حال يظل خروج نافع علي نافع مثيراً للدهشة ؛
كونه لم يكن مزاحماً طبيعياً للبشير على قمة هرم السلطة والحزب .. ويبدو أن
الإنطباع المنغرس في الأذهان بأنه وراء الأسلوب العنيف الذي تم به وأد إنتفاضة 23
سبتمبر . وهو الذي أشارت إليه الإدانات ومظاهر الغضب التي واجهته في المواقع
الألكترونية الحرة وبعض أحياء العاصمة ... يبدو أنه اقتضى تواريه عن الأنظار
مؤقتاً ربما.
كذلك فقد إستهل نافع علي نافع تدشين الحملة
العسكرية على عناصر التمرد في دارفور وجنوب كردفان ببذله وعوداً ملزمة بالقضاء على
هذه الحركات نهائياً .. ولكن يبدو أن حسابات البـِلدات لم تكن مطابقة لحسابات
المطامير . وهو ما تدل عليه الضبابية التي تصاحب النتائج المعلنة لعمليات القضاء
على الحركات المسلحة المتمردة في دارفور وجنوب كردفان .. وحقيقة ما يجري هناك . ومن
ثم فإن المرجح أن فداحة الخسائر في الأرواح والمعدات وكثرة الجرحى التي ترد عنها
الأخبار تباعاً قد أغضبت عمر البشير الذي آثر إبعاده عن الصورة بوصفه كبش الفداء .
وبعد
كل هذا وذاك ؛ فإنه مهما قيل عن ترنح النظام الحاكم وسقوطه الوشيك . فإن هذا الأمر
يظل مجرد إفراط في الأمل . لكنه لا يبدو ماثلاً للعيان في الوقت الحاضر .....
إن
المسألة لا تكمن في قوة كوادر ومتانة هياكل حزب المؤتمر الوطني ؛ بقدر ما تكمن في
وهن وضعف وهشاشة المعارضة السياسية التي بالإضافة إلى إفلاسها المالي وضعف هياكلها
التنظيمية وميوعة قياداتها ؛ نراها منقسمة على بعضها ومنكفئة على ذاتها مرّة وعلى بعضها
مرّات ..... لا تفتأ تتبادل الإتهامات بالتراخي والإرتزاق والعمالة والرقص
والتطبيل وهـز الأرداف في مؤخرة موكب الحـزب الحاكم .
وبإختصار
فإن المعارضة الحزبية السياسية ليسوا أكثر من نِعاجٍ حائلة ترعى في عشب الشعب
عصراً ، وتركبها كباش المؤتمر الوطني داخل زريبة الحزب ليلاً .... وعلى الرغم من
الحكمة القائلة : "خير للمرء أن يكون أسداً في قطيع من الأسود من أن يكون
أسداً على رأس قطيع من النعاج" .... فيبدو أن حزب المؤتمر الوطني يرى أن لعبة
الحكم وواقعها في البلاد تقتضي أن من الأفضل أن يكون أسداً على رأس قطيع من
النعاج.
ومن
جهتها فإن الحركات المتمردة المسلحة في دارفور خاصة لا تمارس حراكاً سياسياً عسكرياً
مثمراً بالمعنى المفهوم ؛ بقدر ما تدل هجماتها العسكرية المحدودة الأثر ؛ على أنها
مجموعات متفلتة وعصابات لصوص وقطاع طرق ؛ يهاجمون التجمعات السكانية المسالمة
والمدن والبلدات والقرى لأجل النهب والسلب والأكل والشـرب والإغتصاب الجنسي لا غير
؛ ثم يهربون إلى جوف الصحراء ويختبئون وراء القيزان حتى إشعار آخـر .... وكذلك
الحال بالنسبة للحركة الشعبية قطاع الشمال ؛ فجميعهم وحركات دارفور المسلحة لا
يبدو أنهم مؤهلون لخوض معارك عسكرية حقيقية بعيداً عن مناطق تجمعاتهم القبلية
ومجالاتهم الحيوية الجغرافية . ناهيك عن التقدم لإحتلال مدن وإدارتها أو الزحف نحو
العاصمة المثلثة.
هذه
هي الحقائق مجردة بعيداً عن أية أجندة ... وسيظل الواقع ماثلاً بالقول : "
لــن نصنع من البحـر طحـينة" ....... و"لــن نحني من الشوك العنـب".