لماذا يبكي وزير هذا
الزمان عند تفنيشـه ؟
مصعب المشرّف:
أحدث بكاء وجَعَـري وزير المعادن السابق السيد/ كمال عبد اللطيف صدى واسعا وذهولاً
ووجوماً في كافة أنحاء البلاد وأوساط المهاجرين والمغتربين ؛ كونه الأول من نوعه الذي
يجاهر بالبكاء ويجعر على الملأ من موظفي وزارته ؛ ويبالغ في إظهار الحزن ، ويتجزع على
هذا النحو الذي لم يعهده الناس في أقرانه ولا سابقيه منذ إعلان الوزارة الأولى عقب
الإستقلال المجيد.
كان الناس ولا يزالون عندما يتم رفدهم من وظائفهم وقطع سبّوبة أكل عيشهم في
موقع عمل ما .. كان الواحد منهم يأسف بالطبع ؛ لكنه يظل متمسكاً أمام الناس برباطة
جاشه وكرامته وعزة نفسه ... ويكتفي بترديد قناعات إستقاها وتشرب بها من صميم عقيدته
الإسلامية وهي "الحمد لله على كل حال" ... و "اللهم أجرني في مصيبتي وأرزقني خيراً منها" ..... و"الرزق على الله" .... و "الله الغني".... و
"المابانيك ما بيكسرك" .
ولكن يبدو أن "المشروع الحضاري" للإنقاذ قد بدأ يؤتي أكله . وها هي
بعض ثماره تؤكد أن هناك بعض التغيير في إنسان السودان ً.... وقد شمل ذلك الجنسين الذكر والأنثى ، ولم يعد يفرق ما بين وزير ووكيل
ومدير وأفندي وغفير.
ربما يكون لسياسة "عدم المحاسبة الجنائية" لشاغلي المناصب العليا
عن ما إرتكبوه من سرقات للمال العام وفساد وإستغلال للنفوذ (وجميعه يصب في نهاية المطاف
داخل بالوعة سرقة المال العام) .. وحيث يهرب السارق أو يترك منصبه بالغنيمة .. ربما
يكون ذلك أهم أسباب تمسك أمثال هؤلاء بالوظيفة
العامة .. وحيث يعتبرون أن كل يوم يمضي عليهم خارج الوزارة بمثابة خسارة بالملايين
.
وبالطبع فإن لكل إنسان شخصيته وأسلوبه وقدراته في التعامل وردود الأفعال ..
وإذا كان كمال عبد اللطيف قد جاهر بها ؛ فإن غيره من الوزراء ومن هو أكبر قدرا ومنصبا
وسناً من عامة الوزراء حتما حزن وبكى وسكب الدمع السخين ؛ ولكن في الخفاء أو فوق المخدة
بعد أن أغلق عليه باب غرفة نومه وخلا بنفسه . وتحسس دفاتره القديمة ، وتذكر الماضي
الذهبي الذي تبخر في غمضة عين .... أو كما قال الشاعر : ما بين غمضة عين وإنتباهتها
يغير الله من حالٍ إلى حالِ ..... فسبحان لله الذي يهب الملك لمن يشاء وينزع الملك
ممن يشاء.
يحيى البرمكي
ويذكر التاريخ أن يحيى البرمكي وزير هارون الرشيد الأشهر . وبعد أن غضب هارون الرشيد عليه وعلى البرامكة أجمعين ، وصادر
أملاكهم وقتل بعضهم ورمى بالبعض الآخر في السجون . بكى ولد يحيى البرمكي وتحسر على
الحال التي وصلوا إليها . فسأل أبيه عن السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحال من الفقر
والمرض والجوع والعطش والنوم على الأرض بعد أن كانت القصور مسكنهم والحرير ملبسهم ،
وأحلى حسناوات العرب والعجم نسائهم وملك يمينهم . وأصناف الأكل والفاكهة والراح والريحان
والماء البارد تطوف به الجواري الحسان عليهم . فقال له أبيه:
-
ربما كانت دعوة مظلوم
ظلمناه وجدت طريقها إلى السماء فكانت الإستجابة.
بعض الناس لا يقيم وزناً للناس وغير الناس من خلق الله . فيطيح في طريقه بكل
شيء . دون خوف أو وجل من خطورة دعوة المظلوم
التي تعهد الخالق عز وجل بالإستجابة لها حتى لو صدرت من لسان كافــر .....
البعض حين تلعب برأسه خمر السلطة ينسى أو ربما لا يعي خطورة ومعنى أن الله وحين
إقتضت مشيئته أن يخلق الكون إبتدر كل ذلك بتحريم الظلم على نفسه ...
بعض مخرجات "المشروع الحضاري"
يظن لوهلة أن السودان كان ميتاً أو غائباً عن الوعي قبل مولده .... وأنه الوزير
المنتظر ... وأن كرسي الوزارة لم يُخلق إلاّ لأجله ..... لا بل وأنه وإن كان الأخير زمانه لآتٍ
بما لم يستطعه الأوائل ..... وينسى في غمرة سكرته بالمنصب ذلك القول المأثور:-
" لـو دامت لغيرك ما أتت إليك" .... وحتما وبهذه الآلية الواقعية ؛ فإنها
وإن أتت إليك إلاّ أنها حتما لن تدوم لك وستذهب إلى غيرك .. هذه سنة الله في هذه الحياة
الدنيا .. ولن تجدوا لسنة الله تبديلا.
وفي عصر وزمان "المشروع الحضاري"
شهدنا سرقات لم تكن على البال والخاطر .. منهم من سرق النساء من أزواجهن .. ومنهم من
أكل أموال الزكاة بدمٍ خنزيري بارد وهو يعلم أنها أموال الله مرسلة منه لخلق الله الذين
أوصى لهم بها في محكم تنزيله ...... ومنهم من سرق الطائرات في السماوات أو رابضة على
الأرض .. ومنهم من باع حقوق هبوطها وإقلاعها ورجع يتمطى إلى أهله مسرورا .... يتمطى
دون خشية حساب ولا عقاب .. فما أحلى الوزارة والمسئولية إذن لا بل وحتى الغفارة وتراب
الحكومة في مثل هذه الأحوال والظروف والمعطيات الحضارية.
وكمال عبد اللطيف الذي جاهر بالبكاء والجزع الصريح ربما كانت له أسباب خاصة
جعلته لا يستطيع ضبط مشاعره . لاسيما وأنه يعتبر من الشباب عند المقارنة بين سنوات
عمره وخطورة منصبه . وقد كان الرجل فرحا بمنصبه أيما فرح .. فهو وزير للمعادن .. وما
أدراك ما العادن ؟ .... وكان يشعر بأنه جالس على جبل من الذهب في هذا الوقت على أقل
تقدير ، إضافة إلى المتوقع مما هو آتي من معادن
أخرى أعظـم ...... وكما يقولون فإن من جاور السعيد يسعد .. فما بالك إذا كنت تجلس فوق
السعود نفسه ، وتتحكم في هذا المعدن النفيس الأصفر الرنان الذي يدخل نار جهنم بسببه
نصف الخلائق ولا يبالون ؟
وكل شخص بعد تعيينه وزيرا تنفتح أمامه الأبواب من حيث يدري ولا يدري ... لا
بل وتنفتح أمام أسرته وعائلته ونسابته وأصهاره وأصدقاء الطفولة . وبحسب طبيعة الإلفة
والإعتياد يصبح من العسير على الوزير أن يتصور العودة إلى صفوف عامة الشعب مرة أخرى
..
ومنهم من تأسره هذه الفكرة وتمنعه من النوم خوفاً على اليوم الذي سيفقد فيه
المنصب ... ومنهم من تسرقه السِكّينة فيظن أنه نسيج وحده ، وأن المنصب جاء يسعى إليه
على إستحياء بسبب عبقريته وقدراته النادرة ؛ أو كما جادل قارون موسى عليه السلام بأنه
هو صاحب المال ، وأنه هو الذي جمعه بقدراته وليس لله فضل عليه .
وكذلك فإن الشخص عند تعيينه وزيراً يبدأ نمط حياته يتغير من حيث المسكن والملبس
والمركب والمنشط والبيئة الإجتماعية التي يختلط بها ، ويصبح أحد أعمدتها لا لسبب سوى
أنه الوزير الفلاني .
الإنسان بحسب طبيعته التي خلقه الله عليها دائماً ما يكون لحب الخير شديد
..ولآيات الله عنيد.
المصيبة الأكبر أن الوزير في الأنظمة السياسية الشمولية والديكتاتورية يأتي
عادة من الشارع (إن صح التعبير) إلى كرسي الوزارة بالتعيين المباشر ، دون المرور بتصفيات
وغربلة وتصعيد من القاعدة إلى الصفوف الخلفية ، ثم رويدا رويدا حتى يجد لنفسه موطيء
قدم في الصفوف الأمامية للحزب عبر نظام إنتقاء دقيق ، وبعد التعرض لإختبارات ومحن وعواصف
طوال رحلته في تخطيه الصفوف المتراصة .
ثم أن الوزير في الأنظمة اديمقراطية عليه أن يعمل على ترسيخ مكانته في دائرته
الإنتخابية التي يتعلم فيها معنى ومغزى وكيفية الإلتصاق بالجماهير ، وهموم الشعب اليومية
وإحترام مطالبهم وحقوقهم.
مثل هذه الإشتراطات والأحوال والظروف لا تتأتّىَ بالنسبة للوزير في الأنظمة
الشمولية والدكتاتورية .. وهو ما يجعل من الوزير مجرد موظف لا يدين بالولاء سوى لمخدمه
صاحب العمل سواء أكان رئيس الحزب أو رئيس الجمهورية
أو رئيس الوزراء بحسب الأحوال .... ولأجل ذلك فهو لا يستطيع تفهم حاجات ومطالب الجماهير
لأنه لم يأتي عبرها ، ولم تتاح له فرصة التعرف على مشاكلها وحتى مشاعرها.
في الأنظمة الديمقراطية تظل أنظمة الرقابة الإدارية والمالية للدولة سيفا مسلطا
على عنق الوزير وحاشيته .. ويكون إحترام اللوائح والقوانين لزاما وواجبا لا يمكن الفكاك
منه .. ولأجل ذلك نلاحظ أنه حتى إذا كان الوزير فاسداً . فإنه لا يتمكن من جمع ثروات
طائلة ومليارات في ظرف سنوات قليلة... أو أن يخرج سليماً معافى في هذه الحالة ودون
محاسبة ومساءلة جنائية ، وفصل نهائي من الحزب وحرمان من ممارسة العمل العام بعد خروجه
من السجن.
أما الوزير في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية فهو سلطان الوزارة الآمر الناهي
وهو القانون واللوائح ، ولجنة المبيعات ، والمشتريات ، وأمين المخازن والخزينة ورئيس
الحسابات ومدير شئون الموظفين . وهو اللجنة الفنية .. ورئيس النقابة الفعلي ... وهو
مسئول البريد الذي يستلم العطاءات ، ويفض بيده الكريمة المظاريف ويمنح ما يشاء من مناقصات
لمن يشاء من مقاولين ورجال أعمال ومستوردين بغير حساب . .. وهو بإختصار الكل في الكل
ولا حسيب عليه ولا رقيب .. بل هو ربّ الوزارة والذي لو صفق لها بيديه ترقص اللول لول
من رأسها حتى أخمص قدميها.
وبعد الإقالة ينقلب الجال رأساً على عقب ... ولا يتوقف الأمر عند فقدان المداخيل
والسبوبات وتوقف نمو الأرصدة المالية الفلكية وتمدد الأملاك والعقارات . بل يمتد ليشمل
المراجعة الذاتية الدقيقة لميزانية الرحلات (التي كانت مجانية) من تذاكر سفر وإقامة
، ووزن العفش وتحانيس الحجوزات عند الإجازات السنوية وغير السنوية ، ورحلات الحج والعمرة
وحضور مهرجانت التسوق والسياحة .. بل يمتد الأمر إلى شكية النسوان من الشماتة وكشف
الحال وزحمة المواصلات وغلاء البنزين والأسعار ، وتكاليف الكهرباء ومكالمات الهواتف
الثابتة والمحمولة الذكية ، ومصاريف المدارس الخاصة .....إلخ مما لا يعد ولا يحصى من
مجانيات أصبحت ما بين يوم وليلة مدفوعات واجبة على دائر المليم.
فلماذا والحال كذلك لا يبكي الوزراء عند (تفنيشهم) وإقالتهم بأسلوب رقيق أحياناً
أو الرفت والركل بالشلّوت على المؤخرة تارة ؛ والفصل التعسفي من الخدمة تارة أخرى .
دون أن يكون لهم الحق سوى في الحزن والحسرة والبكاء والنحيب والجزع.