المشروع الحضاري وأعياد الكريسماس
مصعب المشرّف:-
من المؤسف أن مناسبة حلول رأس
السنة الهجرية تمر على النشء والشباب المسلم مرور الكرام .. ولا يكاد يشعر بها كبار
السن إلاّ من خلال إحتفالات نمطية تحييها بعض الحكومات (كتر خيرها) في بعض الدول
الإسلامية عبر خطب قصيرة محفوظة تبثها الأجهزة الإعلامية الرسمية .
وعلى العكس من ذلك تقوم الدنيا
وسط المسلمين ولا تقعد عند قرب حلول أعياد الكريسماس وراس السنة الميلادية .. ولم
لا ؟ فالإحتفالات هنا لذيذة ومُبهجة ومختلطة وراقصة ومُسكرة ومسطلة ؛ والحبل
دائماً على الغارب .... ويتبجح البعض بالقول "أن الشيطان شاطر" .. وينسى
أن "الإنسان هو الأشطـر".... لا بل وتفرد إعلام المشروع الحضاري هذا
العام بالذات بعدة إعلانات تتحدث عن عودة المطربة المقلدة الفلانية من بلاد الواق
واق إلى السودان خصيصاً لغرض إحياء حفلات غنائية بمناسبة الكريسماس ورأس السنة
الميلادية ... وعن إستعداد "لص الأغاني" الشاب زيد بن عبيد بأغاني
"مسروقة" جديدة للنباح والنهيق والتنطيط بها في إحتفالات الجالية
السودانية بالدولة الفلانية بمناسبة الكريسماس وأعياد راس السنة .
ثم ولا يزال كثيرون من
المسلمين يعكفون الآن على ضبط ساعات أيديهم وموبايلاتهم ومنازلهم وسياراتهم مع
ساعة بيج بين Big Ben في لندن بالدقيقة والثانية لتتزامن مع الرنات المعلنة لبداية العام
الميلادي الجديد بتوقيت قرينتش.
وفي الوقت الذي تتسع فيه رقعة
مشاركة المسلمين النشء والشباب في إحتفال النصارى بأعياد الكريسماس ورأس السنة
الميلادية . تثور ردود أفعال إسلامية نمطية هي الأخرى باتت تصاحب فقط حلول موعد
الإحتفال بهاتين المناسبتين الدينيتين لدى النصارى ... ثم لا يلبث أن يؤذن ديك الفجر
بالصِياح فتسكت شهرزاد عن الكلام المباح.
بعض ردود الأفعال هذه تتمثل في
الفتوى بتحريمها بشكل قاطع .. والبعض يتواضع ويكتفي عند المطالبة بمنع الجهر
بمظاهر هذه الإحتفالات .
البعض من شباب المسلمين في هذا
الزمان بوجه خاص يجهل بالطبع الكثير عن الأسس والقواعد المذهبية والإقتصادية
والتوافقية التي قامت عليها مثل هذه المناسبات النصرانية ، ويعمدون إلى المشاركة ببراءة
على سبيل الفرفشة والإختلاط وقضاء الليالي الحمراء ، دون إلتفات إلى ما يدور ويصدر
من أقوال وفتاوي إسلامية بتحريم مثل هذه المشاركات ...
والفتاوى الإسلامية وإن كانت لا
تنفك تصدر بهذا الشأن عند حلول هذه المناسبات خلال العام ... إلا أنه ليس من
المتوقع أن تتوقف أو يقل حجم رقعة هذه الظاهرة .. بل على العكس من كل ذلك فإن
المتوقع هو إزدياد عدد المشاركين فيها من شباب المسلمين ، وتوسع رقعتها داخل
المجتمعات الإسلامية ...
والأسباب كثيرة ليس أقلها
تأثير الثقافات الوافدة من مجتمعات متطورة علمياً وغنية مادياً على مجتمعات متخلفة
علمياً وفقيرة مادياً ، ثم وجهل البعض بتعاليم دينهم الإسلامي العميقة من جهة أخرى
كما أسلفنا ..
والمصيبة الكبرى أن الفتاوى
الدينية الإسلامية تبدو خلال هذه الحقبة في وادي؛ والواقع الذي يمارسه زعماء المسلمين في وادٍ آخر
...
الفتاوى الدينية من جانب آخر نراها تتجاذبها الكثير من العوامل السياسية
المحيطة وكذلك تتأثر ببنود الدساتير التي تعمل بها كل بلد .. ففي بلد مثل السعودية
على سبيل المثال وحيث لا يوجد بها مواطن مسجل غير مسلم . فإن الفتاوي الخاصة
بأعياد النصارى واليهود المبتدعة التي لم ينزل بها نص في التوراة والإنجيل الأصلية
تجابه بكل الشفافية العقائدية وتعتبر من أعياد الكفار .. ويتم الإشارة إلى غير
المسلمين بالكفار من واقع أن الدين عند الله الإسلام ..... ولكن في دول أخرى مثل
مصر يختلف الحال ولا يسمح الدستور ومعاهدة كامب ديفيد بوصف النصارى واليهود
بالكفار .... وفي سوداننا الحبيب تبدو الظاهرة واضحة في خطاب أهل الفتوى والوعاظ
من فوق المنابر أو شاشات الفضائيات . والذين لا يترددون في مخاطبة النصارى
السودانيين بالقول (إخواننا المسيحيين) ... على الرغم من تعارض هذا الوصف
(إخواننا) الصارخ مع نصوص واردة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة ....
ولكنها السياسة والدستور الذي يجعل المواطنة هي الأساس وليس الديانة ... ولاشك أن
دواعي "أكل العيش" لها جانب في هذا الوصف والحب الذي يُجبر عليه أئمتنا
ووعاظنا وأهل الفتاوى لدينا .
ومن ثم فإن وصف النصراني بوجه
خاص بأنه "أخ" يجرح ويقدح في كل فتوى تتعرض لقناعاته ولأسلوب تعاطيه وممارسته
لديانته .. وتجعل من كل تحريم بالمشاركة في إحتفالاته الدينية .. يجعل منها عُهْـر
عقائدي وتناقض مسيخ بكل ما تحمله هذه الأوصاف من دلالات ..... ولم لا ؟؟ ألم يقل
الله عز وجل في محكم تنزيله من سورة الحجرات (إنما المؤمنون إخوة ) ؟ .... وحيث
نلاحظ أن إستخدامه عز وجل لتعبير (إنما) هنا بالذات ليفيد (الحـصـر) ..... وكذلك
قوله صلى الله عليه وسلم "المسلم أخو المسلم" ... فكيف أصف النصراني
بالأخ وأخاطبه بالأخ . ثم أنقلب على الجانب الآخر فأقول له أنت غير مؤمن وأنت غير
مسلم يا شيوخنا ووعاظنا وأهل فتاوينا (الشجعان) في الراديو والتلفزيون ومن فوق
المنابر ؟.... منابر المشروع الحضاري.
إنها مشكلة ومعضلة ليست
بالبسيطة .. ولا يظنن أحد أنها تمر مرور الكرام على عقلية النشء خاصة والناس عامة
.... إنها مصيبة في العقيدة عندما يحاول بعض شيوخها المحدثين التجول بنا في داخل
دائرة رمادية مغلقة ضاربين عرض الحائط بحتمية لزوم إما الأبيض أو الأسود في الدين.
ويتبقى بعد كل هذا أن المصيبة
تكمن في أنظمة الدولة الحديثة التي حولت رجل الدين بمختلف درجاته سواء أكان مفتي
أو شيخ معلم أو واعظ أو إمام أو مؤذن .. حولته إلى مجرد موظف عمومي يتوجه كل آخـر
شهر لإستلام راتبه . وينتظر الترقيات والتنقلات والعلاوات والمكافآت والبدلات قبل
الإحالة إلى التقاعد. فماذا نتوقع من مفتي يفتي بالماهية ، وإمام يؤم المصلين
بالماهية .. ومؤذن يؤذن بالماهية والوردية؟
والمشاهد أنه ومصداقاً لقوله
صلى الله عليه وسلم "الشعوب على دين ملوكها" .... فإن الذي ينشر بالصوت
والصورة على مواقع المعلوماتية بين حين وآخر يفضح أن البعض من كبار المسئولين والقادة
والساسة ومليارديرات الغفلة في دولة "المشروع الحضاري" خاصة ، والدول
الإسلامية الأخرى عامة هم أول من ينقلب على هذه الفتاوي ويكسر عظامها ويحرقها
وينثر رمادها في الهواء الطلق ..... فأعياد الكريسماس والميلاد يجري الإحتفال بها
داخل القصور والفلل من جانبهم وفي معية نسائهم وأولادهم وبناتهم ، والحاشية والأقارب
والأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء .... وكاميرات الهواتف الذكية وكاميرات الأقلام والنظارات
وغيرها من تلك التي كنا نشاهدها في أفلام جيمس بوند أصبحت الآن متاحة في محلات
الألكترونيات على قفا من يشيل وبأسعار تنافسية ..... وكل هذه تساهم في نقل المخفي
بواسطة المعازيم من أصدقاء السوء ، وبثه على مواقع المعلوماتية الفضولية أو المعارضة
بمجانية تحسدها عليها المجانية نفسها .... لا بل وأصبح تصوير مثل هذه الوقائع ومناسبات
الكبار الخاصة سلعة رائجة وتجارة رابحة لكل بودي غارد وسائق خصوصي وطباخ وعامل مشاوي وجرسون.
شيوع هذه الأفلام التي تبث على
وسائل المعلوماتية تسهم إذن في تأثر المزيد من المراهقين والشباب بها ، وإكتساب
قناعات تشجعهم عليها خصلة الرغبة المتأصلة في الإنسان لمحاكاة غيره ؛ خاصة إذا كان
هذا الغير أكثر ثراء ومن نفس الجنسية والقومية والديانة .
من جهة أخرى لا ننكر تلبية
مظاهر هذه الإحتفالات النصرانية الدخيلة لرغبات معظم الشباب أبناء الأثرياء خاصة في
الغناء والرقص والإختلاط ، والتسيب والتحلل من كافة الأعراف الإجتماعية والتعاليم
الدينية التي يعتقدون أنها مقيدة لحريتهم الفردية من تدخين للتبغ والحشيش وتعاطي
المخدرات وشرب للخمر ، وممارسة للجنس خارج نطاق الزواج ؛ والسهـر بين الموائد حتى
الفجر ؛ وإشباع غريزة إستعراض المفاتن أمام الذكور والتسلي بحرق أعصابهم وتحريك
الشهوة الكامنة لديهم ....... ثم وإستعراض الجنسين لمدى إمكانات أهلهم المالية عبر
أحدث موضات الأناقة ، والموبايلات والسيارات وإكسسواراتها ؛ وغيرها من مقتنيات أهدتها
لهم الماما أو أموال أغدقها عليهم البابا من حصيلة الإحتكار والعمولات ، وإستغلال
النفوذ والرشاوي ، وغسيل الأموال ، وتجارة السلاح ، وسرقات المال العام .... وحيث
لا بد أن يذهب الحرام من حيث أتى.
لأجل كل ما ذكر أعلاه فليس من
المتوقع أن تقل أو تنحسر ظاهرة إقبال النشء من الجنسين على المشاركة بقوة في
إحتفالات النصارى بالكريسماس وراس السنة . وتبادل التهاني عبر رسائل الموبايلات
ومواقع التواصل الإجتماعي ... وبالتواجد الشخصي وسط الحفلات والإحتفالات وتبادل
القبلات والأحضان والأنخاب. ... وحيث لا ننسى أن البعض من النشء والشباب المثقف يشارك
في ذلك لصيانة موقعه داخل الشلّة ووسط الزملاء وحتى لا يقال عنه أنه متخلف ومتزمت
... والمصيبة في كل الأحوال واحدة أو كما قال إبن القيم في قصيدته الشهيرة : ( إن
كنت لا تدري فتلك مصيبة .. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم).