كيف نستفيد من اللاجيء السوري في السودان ؟
مصعب المشرّف
8 سبتمبر 2015م
في تقرير تلفزيوني مصور بثته قناة الجزيرة القطرية مؤخراً . فقد أظهر التقرير أن السوريين قد وجدوا في السودان الملاذ الآمن ؛ بسبب أننا لا نشترط على المواطن السوري تأشيرة دخول مسبقة .. ولا نفرض عليه قيوداً في الإقامة .... أو حرية السفر والإنتقال داخل الأراضي السودانية...... وبلغت أعدادهم اليوم قرابة ألمائة ألف أو يزيدون.
بداية نؤكد أن المواطن السوري هو بالفعل محل ترحيب بين ظهرانينا .. ولدينا في الأرض متسع ..... والماء من النيل على قفا من يشيل.
والذين بدأوا يرفعون عقيرتهم بالتحذير من مزاحمة السوري للسوداني في الحصول على خدمات الدولة .. نذكر أمثال هؤلاء بأن الدولة قد رفعت يدها من زمان عن تقديم خدمات مجانية للمواطن .. فما بالك بغير المواطن؟
وعليه ؛ فإن الذي نرجوه أن تحسن الحكومة والشعب إستغلال هذا التواجد السوري لمصلحة دفع عجلة الإنتاج الزراعي والحيواني؛ عوضا عن إبقائهم كلاجئين غير منتجين أو التعامل معهم على طريقة "لي في المسالمة غـزال".
ولا ننكر هنا أن المسار الشعبي يرمق اليوم اللاجيء السوري من ثقب باب "تحسين النسل" على الجهتين ...
واقع الأمر فإن اللاجيء السوري يعتبر إضافة حضارية حقيقية للشعب السوداني . لو جرى إستغلال هذا التواجد على نحو من الذكاء والدهاء المفيد.
الذي قد لا يعلمه البعض من الأجيال السودانية الماثلة ؛ أن محمد علي أغـا باشا حين عزم على غزو السودان عام 1821م . فقد هداه تفكيره آنذاك إلى تسخير تجربة الإنسان السوري في مجال الزراعة والتعدين ، والصناعات الحرفية داخل الأراضي السودانية المحتلة الجديدة.
وكان أن أرسل رفقة الجيش المصري الغازي للسودان بقيادة إبنه إسماعيل ..... أرسل معه عديد السوريين (كان يطلق عليهم الشوام) من الحرفيين والمزارعين ؛ والبنائين.
وبقي المواطن السوري في السودان . وإندمج مع المجتمع السوداني دونا عن غيره من الأجانب في تلك الحقبة التي بدأت من عام 1821م.
وقد كان من أبرز مظاهر وديمومة هذا الإندماج ؛ هو التزاوج بين السوري والسوداني ... وقد أثمر هذا التزاوج عن أجيال متفردة لجهة العطاء والإبداع في مجال الطب والهندسة والشعر الغنائي بنحو خاص .. وحيث تحفل حقبة منتجات أغاني الحقيبة بالعديد من الشعراء ؛ وبعض المطربين المنحدرين من آباء سوريين وأمهات سودانيات سواء في العاصمة المثلثة أو ودمدني وغيرها .
وربما لاننسىى أن أمراء بني أمية وجنودهم من الشوام هم الذين تحالفوا مع قبيلة الفونج بالتزاوج والمصاهرة . وأسسوا مملكة سنار التي عرفت بسطوتها وقدراتها السياسية الفذة على التحالفات مع القبائل السودانية الأخرى.
والذي نعترف به للمواطن السوري ؛ هو قدراته الإستثنائية لجهة الأعمال الحرفية .... وقد إستفاد منهم الخليفة التعايشي (رحمه الله) كثيراً في الصناعات الحربية آنذاك ؛ وإدارة وتشغيل المدافع ، والطباعة ... ثم وفي مجال المنتجات الحرفية الأخرى مثل صناعة المحاريت . وصناعة السواقي التي برعوا فيها... وكذلك في تصميم شبكات الري وفي مجال البناء.
وبوجه عام فقد رفد المواطن السوري (الشوام) الدولة المهدية بعد تحرير الخرطوم وأيلولة الحكم إلى "تور شين" .. رفد الدولة المهدية بكثير من الخبرات.
وحتماً فإن تحرر "الشوام" من عقدة التفوق التي كان ولا يزال يعانيها الإنسان المصري تجاه السوداني "البربري" و "البوّاب" ...
وكذلك تحرر الشوام من قناعات يعاني منها الإنسان المصري الذي يتعامل مع السودان بوصفه مساحة جغرافية مملوكة له ..
وهو ما يقف عائقاً نفسياً وأمنياً في وجه إي تكامل وعلاقات إقتصادية مثمرة ، وقسمة عادلة ما بين الشعبين السوداني والمصري إلى قيام الساعة...
كان من نتيجة هذا الإحساس الكامن والظاهر لدى الإنسان السوري أن تمكن من الإندماج التلقائي مع الإنسان السوداني "داخل" أرض السودان ... وكذلك تصالحه مع البيئة السودانية وأنظمة البلاد الحاكمة . فلم نسمع له تقليلاً من شأن السوداني . أو نرصـد إرثاً من التنميط السلبي للشخصية السودانية ... والسخرية الجارحة تجاهنا .... لم نختبر معه فترة إحتلال أراضي .. ولم تشرئب عنقه إلى الربوبية ، والإحتواء والإستحواذ في علاقته مع نظيره السوداني.
المواطن السوري من جانب آخر هو نتاج حضارات إنسانية عميقة تلاقحت وتواطأت مع رسالات سماوية . ومهابط وحي ومواطن رسـل وأنبياء لا يعرف سوى الله عددهم .....
ثم كان الشام بعد ذلك عاصمة الخلافة الإسلامية الأموية الملكية العضوض ... ومن محاسن الصدف أن هذه الخلافة الأموية حين إنهارت على يد بني العباس ؛ لم تجد لها في العالم الإسلامي من حولها سوى السودان . فنشأت مملكة سنار على النحو المعروف الذي جاء نتيجة إنصهار عرقي ما بين الفونج وبني أمية
ونخلص من كل ذلك إلى أن :
"كل الإتجاهات التي نتوجه إليها . ونستقبلها في هذا الإطار ؛ تؤكد أن تجربتنا الحضارية بالشراكة مع أهل الشام السوريين تظل مثمرة ".
وعليـه :
["هل من إمكانية أن يكرر التاريخ نفسه .. ويشهد السودان اليوم قفزة نوعية تترجم مفاهيم وأحـلام "العودة إلى سنار ؟"]
ربما ..... ولم لا؟ ... من حقنا أن نحلم.
عديد من المدن والبلدات السودانية يقيم فيها المواطن السوري اليوم ... وهي فرصة مواتية للإستفادة من خبرات هؤلاء وتجاربهم الثرية في مجال البناء وزرعة القطن والقمح التي تنتجهما سوريا هي الأخرى ... وكذلك يتقن المواطن السوري العديد من المهن الحرفية ..... وحبذا لو بلغ تعداد الشوام في البلاد المليونان.
لدينا في شرق السودان وشماله على نحو خاص أكثر من بئر معطلة ... ومساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة ولكنها غير مستغلة ..
وهي مهددة حاليا في الشمال بالتمدد الإستيطاني المصري الذي لامحالة قائم على شاكلة حلايب وشلاتين ، وحواف بحيرة ناصر الشرقية والغربية في ظل غياب تام لقبائل سودانية جرى التآمر في الماضي على تهجيرها قسراً إلى منطقة خشم القربة ..وقد كان من الممكن إعادة نشرها في الشمالية .. ولكن غياب التخطيط الإستراتيجي وحسن النوايا . وفساد البعض المالي والأخلاقي ؛ كان ولا يزال يأخذ من حاضرنا ومستقبلنا الكثير.
واقع الأمر فإن المخطط الإستراتيجي المصري قد يئس من أرض سيناء كما يئس الكفار من أهل القبور ..... فأهل سيناء لايشعرون بأنهم مثل غيرهم من المصريين ويتذمرون من التمييز والإهمال.
كذلك ولأسباب هذا التمييز والإحساس المرير بالظلم . فقد عشعش وباض وأفرخ الإرهاب في صحراء سيناء .... وجرى تلقيح كل هذا بأفكار داعش والجهاد الذي يتحين الفرصة والأخرى للقيام بعمليات إرهابية قد يغريه نجاحها إلى التفكير في العبور تجاه الغرب ليلتقي مع نظيره الكامن في شرق ليبيا ؛ الذي يتحين هو الآخر الفرص ومحاسن الصدف.
إذن لم يعد أمام مصر من "مساحة جغرافية" تتوجه إليها لتتمدد سكانيا وتصنع غذاءها ببـلاش سوى شمال السودان.
مخطط الإستيطان المصري في السودان:
تكتيك الزحف السكاني الإستيطاني داخل الشمال السوداني سيتم عبر الدفع بأبناء النوبة المصريين نحو الجنوب شيئا فشيئا ؛ وإغرائهم بالكثيرمن الإمتيازات والأموال . للنزوج من مناطقهم الحالية جنوب صعيد مصر إلى شمال السودان ... ومن ثم إحلال الفلاح والصعيدي المصري محل النوبي في جنوب مصر ؛ بوصفهما الكتلتان البشريتان اللتان تمثلان جناحي السلطة والإدارة والحكم في مصر منذ تفجير ثورة جمال عبد الناصر.
هذا التخطيط الإستراتيجي المصري ؛ لا يمكن إجهاض نجاحه المحتوم إلأّ إذا اسرعنا بملء الفراغ السكاني في الشمال ...
التواجد البشري على الأرض يظل في كافة الأحوال وحده الضمانة الوحيدة كي تحافظ البلاد على أراضيها من قضم الطامعين ميلاً على إثر ميل ؛ والإتجاه إلى فرض الأمر الواقع على ذات النسق الذي يجري في مهددات فقدان السودان لمنطقة ابيي ... فالأرض في نهاية المطاف لمن يحرثها ويبني عليها منزله . وتصبح مجالاً طبيعياً لتكريسه لغته وحضارته الإنسانية .... وحيث لم تعد الخرائط الجغرافية هي المرجع الوحيد لدى محكمة العدل الدولية اليوم.
وفي الشرق قد تحاول اثيوبيا بعد بناء سد النهضة التمهيد لإنتاج وإخراج ذات السيناريو المصري في الشمالية .... وفي هذا الإطار لا يجب الإستهانة بتهديدات "مالك عقار" الإنفصال عن السودان والإنضمام إلى اثيوبيا .. فلربما لم يطلق هذه التهديدات إلا من واقع عروض اثيوبية سرية.
الذي يجب الإعتراف به "كعقلاء" أن بلادنا تمر هذه الحقبة بأسوأ حالاتها لجهة المهددات الأمنية والأطماع المحيطة بها . والتي باتت تهدد أمننا القومي وتضرب في صميمه بعنف .....
فهل من سبيل لإقناع أهل الشمال والشرق معاً بأن هناك ضرورة إستراتيجية للقبول باللاجيء السوري "شـريكـاً" بالمزارعة كما جرت عليه الأعراف والمواثيق لجهة علاقة الشراكة مع العامل القادم من تشاد وأفريقيا الوسطى ونيجيريا ؛ وعموم دول غرب أفريقيا في مشروع الجنيد والجزيرة والرهد وسنار؟
ثم ؛ وهل من سبيل لتخطيط إستراتيجي لتوطين اللاجيء السوري في السودان؟
فرص رتق النسيج الإجتماعي:
رفد الشرايين السودانية بدماء جديدة بنقاء السوري لن يضير .. لا بل وسيؤدي إلى إنتاج مواليد هجين . يصبحون في المستقبل القريب بمثابة "رابط" لإعادة رتق نسيجنا الإجتماعي بالنسب والمصاهرة بين كافة القبائل السودانية والقبول بالآخر لامحالة. عوضاً عن حالة التكلس العرقي الذي يحول دون تخلص القبائل السودانية من عاداتها وتقاليدها بمنع الإختلاط والتزاوج مع بعضها البعض إلا في أضيق الحدود . ولما يحول ذلك بين الوصول إلى درجات معقولة من الوحدة الوطنية .. والإحساس بحب الوطن السودان ....
وحتماً سيسهم ذلك في التوصل مستقبلاً إلى خصائص "هوية سودانية" واضحة المعالم قائمة على أساس المواطنة ؛ لاتعاني من عنصرية العرق واللون ، وأصفاد الرقعة الجغرافية.
وحين تتحقق الوحدة الوطنية . فلربما نتخلص إلى حد كبير من ظاهرة سرقة المال العام والفساد الغير مسبوق .. ونتعامل مع الوطن ببعض الحب والإحساس بالإنتماء ؛ بدلاً مما نتعامل به معه الآن من تدمير ، ونهب ممنهج ولا مبالاة ... وممارسة أحقاد وتكسير مجاديف وعِـظام فيما بيننا.
لا نتوقع أن تنتهي المشكلة السورية ما بين عشية وضحاها ...... والإتفاق الروسي الأوروبي الغربي على إخراج بشار الأسد من التسوية المتوقعة لا يعني إنهاء المشكلة السورية التي تراكمت أسبابها الطائفية على مدى 1400 عام .
هل يتحقق الحلم بإستنطاق التراب السوداني بمشاركة السواعد السورية المنتجة المتحضرة الغنية بالتجربة ... أم ليس من حقنا حتى أن نحلم؟
لا نتوقع أن يقيم السوري في السودان عالة على أهل البلاد ومواردها .. فهذه ليست طبيعة الإنسان السوري عند مقارنته باللاجيء الأفريقي الميال للكسل والتواكل ؛ القليل التجربة وعديم الخبرات الصناعية المنتجة... ويبقى خصماً علينا.
وطالما أن السودان يستضيف اليوم مئات الآلاف من شعوب دولة جنوب السودان وأفريقيا الوسطى ونيجيريا والكونغو ودول القرن الأفريقي على تخلفهم وأمراضهم المعدية .. فلا أجدر إذن من أن نستضيف اللاجيء السوري على قناعة بأنه سيشكل إضافة حضارية حقيقية ولن يكون خصما علينا.