على هامش كِدَه كِدَه يا التِـريلّـة
مصعب المشرّف
28 سبتمبر 2015م
الذي حرضني على كتابة هذا المقال ؛ هو إعلان إمتلأت به الفضائيات السودانية الخاصة عن إحياء بعض مطربي السودان لحفل غنائي للجالية السودانية في دولة الأمارات العربية المتحدة .... وقد أشرف على تنظيم الحفل ورعايته وكالة نقل وشحن وتخليص جمركي .
في معظم الدول العربية (ولا نقول الأوروبية) ؛ لا يسمح لغير الشركات والوكالات المتخصصة المرخص لها ؛ العاملة في حقل الإنتاج الفني بإقتحام هذا المجال .
واقع الأمر فإنه حين تكون وكالة شحن ونقل وتخليص جمركي هي التي تتولى فعالية إعداد وتنظيم ورعاية حفل غنائي . فلنا أن نتخيل كم هي المساخر التي تكتنف الثقافة والفنون لدينا ؟ وكم نحن متخلفون عن غيرنا لجهة التخصص والادارة ....
وطالما كانت وكالة شحن ونقل وتخليص جمركي هي المنظمة للحفلات الغنائية . فقد كان من حق الجمهور الإحتفاء خلال فعاليات هذا الحفل بكلمات وألحان أغنيات هابطة لمطربين من الدرجة العاشرة .. أغنيات هابطة "ترفـل" في مقدمتها أغنية مستوحاة من تعبير شوارع شعبية آفروعربية ؛ تقول كلماتها "كـده .. كدة .. يا التريلاّ .. القاطرا قندراني"؟
على هامش "كدة كدة يا التريلا":
واقع الأمر فإن جملة "التريلا القاطرا قندراني" لايمكن إلصاقها بالموروث الشعبي السوداني الوطني الأصيل . وذلك لكونها من قبيل العبارات والجمل التي ابتكرتها جماعات عرقية لاجئة إلى السودان من دول الجوار الأفريقي المتخلفة ؛ ولأسباب تتعلق بمجاعات ونزاعات عرقية سياسية مسلحة في بلادها.
وقد إصطدمت هذه المجموعات الأفريقية اللاجئة إلى السودان بثقافة إسلامية عربية سائدة من جهة ... ثم وتقدم وتعقيد نوعي لجهة الأطروحات في مجال الثقافة والفنون . وكذلك الوسائل والأدوات المستخدمة في حياة الناس . ومدى إنتشارها سواء في جانب المواصلات والتعليم والطعام والأزياء والمثل والمفاهيم .. إلخ .
فكان أن لجأت هذه المحموعات الأفريقية بعد إستقرارها في السودان . وتعلمها التخاطب البسيط المباشر باللغة العربية .. لجأت إلى التعبير عن نفسها بعبارات وجمل ومنتجات يجري اليوم تصنيفها (أكاديمياً) تحت بند "الآفروعربي" .... ويعتبرها المواطن السوداني الأصيل بمثابة "لغة شوارع". ومنتجات صعاليك وشمّـاسَـة.
وأحياناً كثيرة تجد هذه المنتجات "الأفروعربية" ترحيباً ودهشة في أوساط لعض المواطنين السودانين خاصة في سن الطفولة والصبا من بين من تلقى تعليما بسيطاً ... أو إكتفى بالتعليم الأكاديمي العام والعالي وفقاً للمناهج الدراسية وحدها ؛ دون أن يشغل نفسه بالأخذ من ثمار الثقافة العربية والحضارة الإسلامية بمعناها العريض ؛ والتي تسمو باللغة والمعاني وتلفظ الغث والفـج والـزَبَـدْ.
وعند تفكيك منطوق عبارة "كدة كدة يا التريلا القاطرا قندراني" من حيث المعنى المباشر ؛ فهي تشير إلى إندهاش هذا اللاجيء "الزنجـي" بهذه الوسيلة الضخمة التي تتكون من جزئين .. الجزء الأول عبارة عن قاطرة ؛ والجزء الثاني عبارة عن مقطورة.
القـــوندران (قاطرة)
والقاطرة الضخمة للتريلة ؛ تسمى في الموروث الشعبي السوداني "قوندران" . وهو في الأصل إسم لشركة شحن ونقل عالمية Gondrand تأسست عام 1866م .
قوندراند GONDRAND
جاءت هذه الشركة مع الإستعمار البريطاني للسودان ما بين عامي 1898م و 1956م . فجرى تحريف الإسم إلى "قوندران" باللهجة السودانية .... وبالتالي يؤخذ على أنه مذكر.
التريلة (أو التريـلاّ) TRAILER
أما التريلاّ (التريلة) فهو التحريف للإسم الإنجليزي للمقطورة Trailer بمختلف أشكالها ووظائفها وأغراضها ... وأخذ من اللفظ على أنها مؤنث.
كده كده يالتريلة .. القاطرا قوندراني !
وهكذا أصبح كل شاب يُشاهد في الشارع العام أو الحدائق يتمشي بصحبته فتاة .. أصبح هدفاً للتعليقات والتحرشات اللفظية الظريفة من جانب الصعاليك والمتسكِعين والشمّاسَة ؛ التي تصفه بأنه (قندران قاطر تريلة).
الجدير بالملاحظة أن المجتمع العربي الكبير من الخليج إلى المحيط ؛ نراه دائما ما يعجب بكلمات وألحان هذه الأغنيات السودانية الخفيفة ؛ التي عادة ما يجري تصنيفها بأنها هابطة على مقياس الذوق السوداني المحلي.
ولكن هذا الإعجاب إنما يدل دلالة واضحة على مدى إهتمام وتفاعل العالم العربي بكل ماهو هجين جديد رافد إلى ثقافته ؛ بغض النظر عما إذا كان على هيئة "موشحـات" جاءت بها الأندلس .. أو عبارات ومونولوجات جاء بها السودان في أغنياته ومسمياته.... لا بل وحتى روايات هي في الأصل مغرقة في المحلية السودانية بشخوصها وأحداثها وحواراتها ؛ مثل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.
ويندرج داخل إطار هذا التوجه العربي القومي العام ؛ إحتفاء العرب بأغنيات سودانية من قبيل "المامبو السوداني" و "التريلة" و "إزيكم كيفنكم" . دونا عن بقية الأغنيات الرصينة التي تستهوي عامة الشعب السوداني .. وحيث يبقى مطربون سودانيون أفذاذ من أمثال "محمد الأمين" و "محمد وردي" و "عبد الكريم الكابلي" ... يبقى هؤلاء مجهولون لدى العرب من جهة ولا يجدون آذاناً صاغية من جهة أخرى ؛ رغم أنهم مصنفون من مطربي الدرجة الإستثنائية الممتازة ... ويعتبرون عمالقة داخل السودان.
إن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو :
لماذا يفهم العربي كلمات أغنية "المامبو السوداني" و "كده كده يا التريلة" رغم غرقها في المحلية والمولودية الآفروعربية .. ويستصعب فهم كلمات أغنيات مثل "وعد النـوّار" و "الطير المهاجر" و "ضنين الوعد" .. لا بل وينكر ذوقه العام تقبلها أو إستيعاب مفرداتها؟
الأذن العربية والذوق القومي العام لايمكن وصفه بالإنحطاط ... فهو يدرك ما يسمع .. ويعجب بأغنيات رصينة الكلمات والصياغة واللحن والغناء منذ عمر بن أبي ربيعة وفي معيته زرياب وإسحاق الموصلي وميادة ومروراً بمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وطلال مداح .... إلخ إلى يومنا هذا .
ترى هل هذا هو الدور والمساهمة المطلوبة مننا نحن السودانيون ؛ في مجال رفد الثقافة والفنون والحضارة العربية المتجددة؟ .. وبأن نقتصر على "المامبو" و "كده يا التريلة" وأخواتها؟
ومن أين جاء هذا الإنطباع والتحديد لهذا الإطار.... والتنميط لشخصية الزول السودانية؟
ولا أدري أين مكمن الخطأ هنا ..... هل العيب فينا أم في غيرنا؟
mosaabc@gmail.com