في فضل سور وآيات من القرآن الكريم
(حلقة 5)
خواتيم سُوُرَةُ البقرة
مصعب المشـرّف
22 رمضان 1435هـ
يقصد بـ "خواتيم سورة البقرة" كل من الآية رقم (285) والآية (286) من هذه السورة الكريمة ؛ التي جاءت بالرحمة والمغفرة ومضاعفة الحسنات لكل المسلمين مِمَّن يشهد بأن لاَ إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدأً عبده ورسوله ..
لقد جاءت خواتيم سورة البقرة إذن إستجابة من الله عز وجل لدعوة الحبيب المصطفى الشفيع المُشَفَّع في الدنيا والآخرة بإذنه تعالى.
وتتجلى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم (في الدنيا والآخرة) لأتباعه والمؤمنين به "خاصة" عند التعرف إلى أهم سببٍ "ظاهر" من أسباب تنزيل هذه الخواتيم . وذلك بعد النظر إلى الآية رقم (284) من سورة البقرة ؛ التي جاءت أسبق في الكِتاب والترتيب الزمني للتنزيل . وهو عند قوله عز وجل : [لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوُهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ واللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ] ...
فجاءت خواتيم البقرة على قول بعض العلماء ناسخة " لجزء " من هذه الآية عند قوله (وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوُهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ) .... ولكن جاء من طريق آخر عن إبن عباس ما ينفي نسخ هذا الجزء من الآية وفق ما سيتم التطرق إليه أدناه.
جاءت الآيتان خواتيم سورة البقرة على النحو الآتي:
{أعُوُذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤمِنُوُنَ كُلٌ آمَنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ (285) لاَيُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَاكَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَتْ رَبَّنَا لاتُؤَاخِذْنَا إنْ نَّسِينَا أوْ أخْطَأنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرَاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَىَ الَّذِيِنَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَالاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أنْتَ مَوْلانَا فانْصُرْنَا عَلَىَ القَوْمِ الكَافِرِينَ (286)] – سورة البقرة.
وفي السبب الظاهر من نزول خواتيم البقرة ؛ أنه عند نزول الآية رقم (284) المشار إليها من سورة البقرة ، وبعد قراءتها على الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم ؛ عند قوله عزَّ وَجَلَّ من هذه الآية [ وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوُهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ] أشفق هؤلاء على أنفسهم وعامة المسلمين . وهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكون بسبب أن المعنى هنا أن المسلمين سيكونون محاسبون على ما توسْوسُ به أنفسهم من شَـْر... وأشفق البعض الآخر من أن يحاسبهم الله عز وجل على جليل الأعمال وحقيرها. وأنه سيحاسبهم على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم.
قال الإمام أحمد : أنه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية [لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوُهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ واللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ].... قال أبوهريرة: خاف الصحابة منها خوفاً شديداً ، وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلسوا على ركبهم . وقالوا :
- يا رسول الله ؛ كُلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة . وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- [ أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ .. بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير].
قال أبوهريرة رضي الله عنه : أنه لما أقرّ بها الصحابة وذلّت بها ألسِنتهم ؛ أنزل الله عز وجل في أثرها قوله : [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤمِنُوُنَ كُلٌ آمَنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ] – الآية (285).
قال أبو هريرة : أنه لما فعل الصحابة ذلك نسخها الله فأنزل الآية رقم (286) من السورة (سورة البقرة) : [لاَيُكَلِّفُ اللهُ نَفْسَاً إلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَاكَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَتْ رَبَّنَا لاتُؤَاخِذْنَا إنْ نَّسِينَا أوْ أخْطَأنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرَاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَىَ الَّذِيِنَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَالاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أنْتَ مَوْلانَا فانْصُرْنَا عَلَىَ القَوْمِ الكَافِرِينَ ].
...............
وفي رواية لطلحة عن إبن عباس رضي الله عنهما أنه قال :- أن هذه الجزئية من الآية رقم (284) [وَإِنْ تُبْدُواْ مَا فِي أنفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوُهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ] لم تُنْسَخْ ؛ لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: [ إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ] . فأما المؤمنون فيخبرهم بما أخفوه ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله [يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ].... وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب . وهو قوله [فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ]. أي من الشك والنفاق.
.............
ومن الأحاديث الشريفة المتعلقة بهذا الشأن ، فقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تكلم أو تعمل ].
وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ قال الله : إذا هَمّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا همّ عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً ].
وذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره: أن من بين ما روي عن أسباب نزول خواتيم القرآن ؛ أنه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أن جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ هذه (خواتيم البقرة) . فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سمعها مباشرة من الله عز وجل ليلة المعراج .
وقد رد بعض العلماء على هذا القول بأن سورة البقرة كلها مدنية (نزلت بالمدينة المنورة) . وأن ليلة المعراج كان بمكة المكرمة قبل الهجرة.
وربما (وهذا من عندي) أن يكون بعض التكليم بين سيد الخلق وخالق الخلق قد جرى بهذه الخواتيم ليلة المعراج ؛ ثم حفظت الآيتان تكليماً في كنزٍ تحت العرش . وتنزلتا لاحقا بالمدينة المنورة ، عندما حان زمان ومكان ومناسبة التنزيل رحمة للمسلمين. فوصلتا بسورة البقرة وختمت بها مِسْكَا.
وقد يعزز هذا الإتجاه ما روي عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه ، قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أعْطِيت خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش]..... وأحاديث أخرى تَصُبًّ في ذات المعنى والإتجاه وأنها قد وُصِلَتْ بسورة البقرة.
وعلى ذلك فقد ذكَرَ من قال أنها كانت ليلة المعراج ؛ أنه لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل عليه السلام حتى جاوز سدرة المنتهى ؛ قال له جبريل :
- إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر بالمجاوزة أحدٌ هذا الموضع غيرك.
فجاوز (تقدم) النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الموضع الذي شاء الله . فأشار إليه جبريل بأن يسلِّم على ربه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
- [التحيات لله والصلوات والطيبات].
قال الله تعالى:
- {السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته}.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لأمته حظ في هذا السلام فقال:
- [السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] .
فقال جبريل وأهل السماوات كلهم:
- أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال الله تعالى:
- {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه}.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشارك أمته في الكرامة والفضيلة فقال:
- [والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرِّق بين أحدٍ من رسله].
فقال له الله عز وجل :
- {كيف قبولهم بآي الذي أنزلتها ؟} ... وهو قوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ....}. من الآية رقم (284) في سورة البقرة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- [قالوا سمِعنا وأطَعنا غفرانك ربنا وإليك المصير].
قال الله تعالى عند ذلك:
- {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
فقال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
- سَـلْ تُعْـطَـهُ (يقصد أسأل ربك ما تشاء سيعطيك سؤلك.
....................
ترى ماذا سأل أشرف الخلق ربه ؟ .. هل سأل لنفسه مالاً وعقاراً؟ ... هل سأل مُلكاً؟ .... هل سأل طول العمر؟ ... هل سأل شيئاً من متاع وملذات الدنيا الفانية؟ .
.................
لا ؛ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الرحمة لجميع أمته:
- [ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا].
فقال له جبريل عليه السلام:
- قد أُعطِيتَ ذلك ، قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان . فَسَلْ شيئاً آخر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل التخفيف والعفو والرحمة لأمته:
- [ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ].
ثم قال :
- [ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين]
................
وفي فضل الآيتين من آخر سورة البقرة (الخواتيم) . وردت أحاديث نبوية شريفة حسنة صحيحة ؛ وذلك على النحو الآتي:
جاء في الصحيحين أنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كَـفَـتَـاهُ].
وقال الإمام أحمد في رواية عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعْطِيتُ خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرشَ لم يُعطَهُـنَّ نبي قبلي].
وقال إبن مردويه أن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ فُضِّلنا على الناس بثلاث أوُتِيتُ هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بَيْتِ كنز تحت العرش لم يُعْطَهَا أحدٌ قبلي ولا يُعْطَاهَا أحدٌ بعـدي].
وقال التِرمِذيُّ أن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يُقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان].
وقال إبن مردويه أن عبد الله عباس رضي الله عنهما قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال: [إنهما من كنز الرحمن تحت العرش].
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة. أربع من أولها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث آيات من آخرها ."
وفي رواية أخرى قال "لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شئ يكرهه ولا يُقْرَأنَ على مجنون إلا أفاق"
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن نمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ارتقى إلى سدرة المنتهى وتجاوزها ؛ أُعْطِيَ ثلاثاً "أُعْطِيَ الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المُقْحِمات".
ويقصد بالمُقْحِماتِ هنا الذنوبَ العظيمة التي تلقي (تُقحِم) أصحابها في النار والعياذ بالله..
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال " ما أرى أحداً يعقل بلغة الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنزٍ تحت العرش".
المراجع:
1) تفسير إبن كثير.
2) تفسير القرطبي.
جرى النشر في تاريخ : 22 رمضان 1435 هـ