لا تتوقعوا أن يضع السودان يده على خده يا عرب
الزيارة
التي قامت بها في اليومين الماضيين سفن حربية إيرانية إلى ميناء بورتسودان ؛ وإستقبال
السوداني لها وقادتها وطواقمها بالسلام الجمهوري والورود والزغاريد والرياحين.
أثارت كما توقعنا غضب بعض العرب واعتبروها توجه معادي من جانب حكومة عمر البشير.
لا
أدري كيف يتخيل أو يتوقع بعض العرب أن يكتفي نظام الحكم في السودان بوضع يده على
خده هكذا ببساطة ؛ وهو يتعرض لكل هذا الحصار الإقتصادي والسياسي غير المعلن بسبب
الخط الأصولي العام الذي يتبناه ؟ .... وكل هذا الحصار يتصاعد دون مبرر بالنظر إلى
أن إخوان السودان قد أثبتوا طوال سيطرتهم على مقاليد الحكم في السودان أنهم إخوان
من منازلهم و"حالة خاصة" ؛ وأنهم
أكثر إنفتاحاً وعلمانية ، وطرباً وبهجةً وإختلاطاً ... ورقصاً وغنائية وفرفشة وأشــدّ
إباحيـة من معارضيهم وخصومهم أصحاب الأفكار والقناعات السياسية الليبرالية في الداخل
السوداني والخارج .. ناهيك عند المقارنة بممارسات وتوجهات وردود أفعال أمثالهم من
الإخوان والإسلاميين عامة في الجزائر وأفغانستان والصومال ..... وهلم جرا من أحزاب وتنظيمات أصولية إسلامية
متشددة حاكمة أو واعدة.
وإذا
كان البعض يفسر هذا الإستقبال الحافل لهذه القطع البحرية الحربية الإيرانية في
ميناء بورتسودان .. يفسره على أنه ردة فعل وقتية من جانب الرئيس عمر البشير بسبب
حادثة منع السلطات السعودية لطائرته من عبور أجوائها في طريقها إلى طهران ؛ فإن
الذي يقلل من رجاحة هذا السبب أن هذه الزيارة الحربية الإيرانية لميناء بورتسودان
لم تكن الأولى من نوعها . بل سبقتها قبل ذلك أكثر من زيارة مماثلة ؛ وكان لها صدى
واسع في أرجاء العالم أكثر بكثير من الصدى وردود الأفعال التي واجهتها هذه الزيارة
الأخيرة . والتي لم تثير سوى حفيظة بعض العرب الذين يرابطون في جبهة الصراع العربي
الفارسي الإستراتيجي خاصـة ..... لكننا نلحظ أن الغضب كان هذه المرّة أشـد وطئاً
وأقوم قيلا.... ويبدو أن توجهات القاهرة المتشددة العداء لنظام الحكم في الخرطوم
بعد إنقلاب السيسي ؛ يبدو أنها قد ساهمت بقدر واف في إزكاء نيران هذا الغضب
الإستثنائي من نوعه على غير العادة هذه المرّة .
إن
على بعض العرب أن لا يلوموا حكومة البشير على تقاربها مع طهران . فالتقارب بين
الجانبين قد أملته ظروف قاهرة تتلخص في أن طهران قد سارعت إلى مد يدها إلى الخرطوم
بعد تعرض السودان لحصار سياسي وإقتصادي معلن وغير معلن .. وبعد إيقاع الإرادة
الأمريكية والغربية بعمر البشير خاصة في شراك محكمة الجنايات الدولية التي لافكاك
منها على ما يبدو...... والمرء عادة ما تترسخ ثقته بالصديق الذي يمد إليه يده وقت
الضيق.
جـــون قــرنق
والسودان
من بين كل هذا وذاك يتذكر على مضض المدى الذي ذهبت إليه بعض الأنظمة العربية في
مساندة "جون قرنق" مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان .. حيث ساعدته
بكل الوسائل الممكنة وأهمها المال والإستقبال . وتوفير الدعم اللوجستي فيما يتعلق
بإمتلاك المقر وفتح المكاتب التمثيلية . وحرية التحويلات المصرفية وإستلام الأسلحة
من الرصاصة إلى الدبابة ...... وليت كل هذا الدعم كان لأسباب موضوعية أو إستراتيجية
تخدم القضايا العربية أو جزءاً منها ... ولكن كان كل هذا الحراك الغير منطقي الذي
يصب في خانة اللامعقول ... كان لمجرد المكايدة لنظام المؤتمر الحاكم (بقيادة حسن
الترابي وقتها) الذي قد فقد صوابه وانخدع بالشعارات القومية الثورية البراقة .
فـزلّ لسانه وساند صدام حسين معنوياً في غزوه للكويت عام 1980م.
البروفيسور حسـن الترابي
وعلى
الرغم من أن موقف الترابي لم يكن له ما يبرره وقتها ولا بعدها ... وأنه كان موقفاً
شخصياً لكون الترابي لم يكن رئيساً للجمهورية
أو لمجلس الوزراء أو الخارجية .. أو وأي منصب رسمي تنفيذي آخر ؛ فإن المستغرب أن
يؤخذ موقفه ذاك على إعتبار أنه الموقف الرسمي للدولة والشعب .... ثم أن جون قرنق
لم يكن يبدي تعاطفاً مع العرب سواء من قريب أو بعيد .. وكانت له علاقاته المميزة
مع إسرائيل والصهاينة والمحافظين الجدد والأصولية المسيحية العالمية ... ولكن ماذا
نقول وماذا نفعل تجاه أمة عربية زرافاتها ووحدانها لايفرقون بين التكتيك
والإستراتيجية في تأصيل العلاقات وردود الأفعال فيما بينهم كعرب .. يدمنون إتكالية
القطيع الجمعية ... ولا يرغبون في التفكير وإعمال العقل أو مجرد إستذكار دروس
هولاكو في بوابة العراق الشرقية عام 1258م . ثم الملك فيرناندو والملكة إيزابيلا عند
بوابة الأندلس الغربية عام 1492م....
والمؤسف
أن جون قرنق كان مغرماً بتجربة إسقاط الأندلس ؛ كان يحفظ ملابساتها عن ظهر قلب على
ما يبدو ..... ولم يكن يخفي إعجابه بالفكرة في مقولاته ويكررها .. يلوكها بالنهار
ويجترها بالليل . ويهدد ويتوعد في أكثر من مناسبة بأن السودان سيكون يوماً ما
أندلس العرب الجنوبية الجديدة حال سقوط الخرطوم في يده .....
إذن
وبعد كل هذا وذاك فإنه يحق لنا أن نجادل بالتساؤل :- "من قال أن التاريخ
العربي لا يكرر نفسه؟" .
لانزكي
أنفسنا لأحد .. ولكن الذي نرجو أن يتفهمه بعض العرب أننا لسنا ضمن أملاك الديار
المصرية ... وأن الشخصية السودانية لها سماتها وقناعاتها وتوجهاتها ووريدها
وشريانها الخاص بها ... وأن هذه الشخصية على قدر بساطتها عن قناعة وتواضعها الجـم . فإن
نساءها لسن لعب ، ورجالها ليسوا تبع لمن غلب .. وأنهم لا تجمعهم الطبول ولا تفرقهم
العصي.... وأنه يحرص دائما أن لا يعيش في جلباب أحـد.
وربما
كان تلك السمات والحقائق هي التي توصلت إليها طهران واقتنعت بها . فتعاملت مع
السودان على أساس من الندية والإستقلالية ؛ متحررة من قيود التأطير المغشوشة والإنطباعية
السلبية عن الشخصية السودانية ؛ التي كرستها ماكينة الإعلام المصرية على مدى عقود بدأت
منذ إجبار بريطانيا لها التوقيع على معاهدة عام 1936م.
الإمام محمد أحمد المهدي قائد الثورة المهدية 1881 - 1885م
إن
على بعض العرب أن يتوصلوا إلى قناعة راسخة بأن السودان له تاريخه الحضاري الخاص به
منذ آلاف السنوات .. وأنه إن كان قد تعرض عام 1821م للغزو والإحتلال المصري لأجزاء
من أراضيه ؛ فإنه قد تجاوز منذ عام 1885م عبر ثورة وطنية إسلامية حضارية فريدة من
نوعها ... تجاوز حالة وإعتبار أنه جزء من أملاك الخديوية المصرية ... بل ويفخر هذا الشعب السوداني النبيل أنه أب
الثورات الوطنية العربية والأفريقية ضد الإحتلال الأجنبي ، وكذلك صاحب قصب السبق
والقدح المعلى في تفجير الثورات الشعبية ضد حكامه من الوطنيين الديكتاتوريين ..
وأنه الشعب العربي الوحيد الذي قاد ثوراته الوطنية المسلحة والشعبية البيضاء بنفسه
.... ووصل بها إلى ساحة القصر الجمهوري بنفسه ، دون حاجة إلى إستجداء ومناشدة تدخلات
من الخارج تعينه وتخلصه من نيران حكامه الأجانب أوالوطنيين المتسلطين على حد سواء
.. وعلى مدى تاريخنا المشرق العريض تشهد لنا متمة المك نمر 1822م . والثورة
المهدية (1881- 1885م) ، وأكتوبر 64م ، و
أبريل 85م على سبيل المثال لا الحصر ...... وأنه لايقلل من شأننا أو يضيرنا ويقدح
في عظيم عطاءنا أن الغير لا يعرف تاريخنا لأسباب تتعلق بعدم حب هذا الغير للقراءة بوجه
عام ؛ وإستذكار التاريخ بوجه خاص
واليوم
فإن الشاهد يفيد بأن الحصار الإقتصادي والسياسي غير المعلن الذي ظل السودان يعاني
منه ؛ قد إنسحب ضرره على الشعب وحده دون طبقة الحكام ومنسوبي الحزب الحاكم الذين
لا يزيد عددهم عن بضع مئات من بين ملايين الشعب.
وعلى واقع حاجة الحكومة السودانية لصيانة الحد
الأدنى من التحالفات الممكنة ، وفتح ثغرات في جدران هذا الحصار ، نراها تبحث في كل
جانب عن مخرج ... ولن تكتفي بوضع يدها على خدها والإستسلام للمجهول بأية حال من
الأحوال.
محاولات
تركيع السودان بحشره في الزاوية لن تجدي فتيلا .. بل هي على العكس من كل هذا تزيد
من شعبية النظام ، وتطيل من عمره "حتى الشيخوخة" بما تؤدي إليه من تحفيز
لكرامة الشعب وإستدعائه لعزته وأنفته التي لاتقدر بثمن.
لاينتظر
أحد إذن أن يكتفي النظام الحاكم في السودان بوضع يده على خده وإنتظار المجهول
بإستسلام ... حب البقاء غريزة خلقها الله ولم يبتكرها الإنسان لنفسه .... والسياسة
فتاة لعوب يتقلب قلبها وكأنه قطة فوق صفيح ساخن .... وبمفدورها أن تبيت كل مساء في
حضن عشيق جديد.
ولاشك
أن هناك أكثر من نظام حاكم معادي للإمبريالية الأمريكية يرغب في المضي قدما وتطوير
صداقته بالنظام الحاكم في السودان ؛ وأهمهما الصين وكوريا الشمالية وإيران وروسيا ؛
وكافة الدول التي تعاني من حصار أمريكي معلن
أو غير معلن، وتغريب قسري عن التفاعل الطبيعي مع المجتمع الدولي تجاهها لأسباب
تتعلق بمواقفها السياسية وقناعاتها الفكرية وإفرازاتها الحضارية..... بل ربما لن
يطول الأمر بروسيا كثيراً في حالة فقدانها لسوريا الأســد التي أصبحت خرابة .. لن
يطول بها الأمـد قبل أن تقرر تعويضها بسودان البشير.