ما
بين إنتفاضة اللّـوبــة .... وثورة الهوت دوغ
إنتفاضة
اللوبة والويكة أطلقها البعض الممسوخ على إنتفاضة أبريل 1985م على سبيل التندر
والتنكيت السوداوي المغرق في السخرية من الذات .. وسبب التسمية التي قد لا يدركها صبيان وشباب اليوم
الذي يمثل 60% من مجموع الشعب .. سبب التسمية أن جعفر نميري حين إشتدت الضائقة
الإقتصادية وعمت المجاعات أرجاء السودان جراء فشله الذريع في أدارة دفة الحكم . تلقى
دعوة (مشفوعة بتأشيرة دخول مسبقة) لزيارة واشنطون ومقابلة الرئيس الأمريكي رونالد
ريجان .. فظن نميري أن هذه الزيارة ومقابلة ريجان تعتبر في حد ذاتها إنجاز تاريخي
. ومقدمة لإستجلاب المعونات وإصلاح الحال المتردي وكسب رضوان شعبه الجائع . فانتفخ
نميري غروراً . وخرج يسخر ويتبرم من "طموحات" شعبه الأغبش كونه بشكو
الجوع والضنك ويشتهي اللحم والأرز المصري والسكر ... فقال لهم أكلوا الكسرة
والويكة واللوبة والشرموط ..... دايرين باللحمة والرز شنو ؟ رُز في عينكم.
والشاهد
أن عهد نميري قد تميز بالبطش الأمني القاسي الفاشي الغريب على قيم الشعب السوداني
آنذاك ... وبدلاً من أن يعوضهم نظام نميري عن بطش الأمن وتكميم الأفواه ببعض
الرفاهية في المأكل والمشرب والحياة اليومية الرغدة بوجه عام ؛ إذا به يفرض عليهم
نيران بطشه من جهة وسعار الجوع وذل الفقر من جهة اخرى ...... وبين كل هذا وذاك كانت تفوح روائح الفساد المالي
والإداري والتكسب الحرام من الوظيفة العامة وتفشت ظاهرة الواسطة والمحسوبية وسيادة
الإمعة والأخرق والأحمق على رقاب الناس . كما طفحت لأول مرة في تاريخ البلاد ظاهرة
"المرأة الحرامية" من بين قيادات الإتحادات النسوية والإتحاد الإشتراكي ؛
بعد أن كانت سرقة المال العام وإستغلال النفوذ وفرض العمولات وتلقي الرشاوي ومجمل
ظواهر الفساد مقصورة على الذكور وحدهم دون الإناث ....
واليوم
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن مع الفارق ، وفي الإتجـاه المعاكس ....... فالرئيس
البشير لم يقل للعامة والغبش والشماسة من شعبه أكلوا الكسرة باللوبة والويكة
والشرموط وأشربوا الموية .. ولكنه قال لهم
أنهم لم يعرفوا الهوت دوغ إلا في عهده الميمون.
يبدو
أن هناك تطور وبون شاسع بين الأمس واليوم .... وبعد أن كان شعب الأمس يتميز شبابه
من الغيظ كون أن رئيسه يسخر من طموحاتهم لأكل اللحمة الضاني والرز المصري ؛
وينصحهم بالعودة للجذور وعجن الكسرة باللوبة والويكة والتحلية بشرب الموية .. هـا
نحن اليوم نستوعب القرن الواحد والعشرين ، ونقفز قفزة تبدو للوهلة الأولى طفرة حضارية
، ولحاق بأهل الذهب الأسود ، وركاب الغرب الأوروبي المتطور ..... بل وتبدو حالتنا نتاج
عكسي "غير طبيعي" لحالة الجوع والضنك والحرمان والفقر المزمن حين يمنّ
علينا الرئيس بأننا لم نعرف الهوت دوغ إلا في عهده ... ويزيد وزير ماليته على ذلك
بأن الشعب لم يسمع بالبيتزا إلا في عهد الإنقاذ ... أو كأن ّ الإنقاذ ما جاءت
إلينا إلا لتعرفنا الهوت دوغ والبيتزا .. وكفاية جداً علينا كده.
وطالما
كان الشيء بالشيء يذكر فإن الكسرة باللّوبة وإن كانت تؤدي إلى بعض المشاكل الأسرية
والطلاقات أحياناً ، وإنتفاخ المعدة والمصارين ، وكثرة خروج الغازات التي تنقض الوضوء وتبطل
الصلوات الخمس ؛ وتتسبب في هجر المساجد طوال اليوم الأول وربما اليوم التالي . فإن
"الهوت دوغ" ليس بذلك الطعام الصحي المشكور في كل الأحوال .. بل يصنف
لدى أهله وأسياده الخواجات ضمن قائمة الأطعمة الغير صحية (Chunk Food) .. ولو كان عموم السوداني يدرك كيف
يصنع هذا الهوت دوغ . وما هي محتوياته الخفية من شحوم ودهن خنزير ومواد وتتبيلات
مشهية كيميائية , ومنظر اللحم السائل قبل تماسكه ... لو أدرك هذا لما أقدم على
أكله وإلتهامه بشراهة وتلذذ في البيوت والشوارع والمكاتب والمدارس والرحلات بهذه
الطريقة المتفشية.
إذن
وكمحصلة لما تم رصده من سلبيات في وجبة الهوت دوغ ، فإنه من غير الصواب أن تمتن علينا
حكومة الإنقاذ بأنها علمتنا أكله .. وليت اللّوبة عاودتنا.
كنا
نرجو لو أفلح النظام السياسي القائم في دعواه ووعوده الوردية بالتمكين والتأصيل ؛
هذا لو كان حقاً يرغب في ترجمة شعاراته وأفكاره صدقاً على الأرض . فيؤصل للسودنة بعقائدها
وقناعاتها وقيمها ومثلها العليا التي إمتازت بها قرون وعقود مضت ؛ مقارنة بغيرها
من شعوب القارة والعالم العربي ... لكن الذي تبين أن الشعارات كانت واهية وأضغاث
أحلام إستحالت إلى منجزات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع المعاش .... وكانت
حالة الفشل والفساد المرير وحدها القائمة على الأرض . فنشأت عادات وقيم سلبية مستجدة
جاءت من الخارج مبتورة بلا طعم ولا لون . ولا رائحة لها سوى رائحة المال والدولار
. فأخذنا بها دون تمحيص أو غربلة . وتحولنا إلى مسخ غريب لا تشبه تصرفاته واقعه
وإمكانياته أو حتى دياناته ... فقد كان الكل مشغولاً بنفسه وبجمع الغنائم والسبايا
ولسان حاله يردد " نفسي .. نفسي" ثم بعدي الطوفان.
الإحتجاجات
تتصاعد . وصبر النظام الحاكم ينفذ .. ولا يدري أحد مجريات الأيام القادمة ؛ والخطوط
الغائرة التي ستتركها الأحداث الجارية على وجه الوطن ... وهل سينجو المؤتمر الوطني
الحاكم هذه الجولة أيضاً أم لا ينجو؟ .... بل هل سينجو السودان برمته أم لاينجو؟
وفي
كل الأحوال ؛ نرجو أن تكون تلك السنوات الماضية كبوة يعود بعدها الشعب أكثر جدية
وموهبة وقدرة على الإصلاح . ورغبة في النهضة عبر التعلق بإيجابيات واقعه وخاصيته المتفردة
.... . وأن يترك بالجملة التعلق بالقشور والمظاهر ، ومحاكاة وتبني العادات
والتقاليد المستوردة التي أثبتت المرحلة الماضية من عهد الإنقاذ أنها قد عطلت ووأدت
كثيراً من مواهبنا . وبددت معظم ثرواتنا ومواردنا على بضع عشرات من لصوص المال
العام . وأحالت عامة الشعب إلى مجرد
مستهلكين هامشيين ، وطبقة بشرية مغلوبة على أمرها هائمة على وجهها لاتتقن سوى ممارسة
التخلف وصناعة الفشل.