بعد شراكة الإخوان ؛ هل يركب
البشير المهديّـة؟
البشير والصادق المهدي
اللقاء
الذي جمع بين الرئيس البشير والسيد الصادق المهدي بمنزله في حي الملازمين مؤخراً
.. خرج منه حزب الأمة ببيان مقتضب من ديباجة وفقرتين . لكنه جاء برغم ذلك شاملاً
وقد صيغ بأسلوب مدمج على طريقة " ما قلّ ودل " لكنه لا يخلو من التفاؤل
والسرور .. وكان أهم فقرتيه الآتي:
"واتفقنا على أن قضايا الحكم
والدستور والسلام قضايا قومية ينبغي ألا تعزل أحداً وألا يسيطر عليها أحدٌ. وسوف
تجري الاتصالات اللازمة لإبرام الاتفاقيات المنشودة بمشاركة الأجهزة الحزبية المعنية".
معنى ذلك أن حزب الأمة قد
وافق على الآتي :-
1) المشاركة
في الحكم تحت مظلة مهما جاءت مسمياتها فإنها تبقى في النهاية "مشاركة"
لحزب المؤتمر الوطني الحاكم.
2) المشاركة
في وضع وصياغة البنود الخاصة بدستور البلاد الذي يهدف الجميع أن يأتي ملبياً لمطلب
كافة ألوان الطيف السياسي والإحتماعي والفكري . وعقائد وقناعات وقيم ومثل المجتمع
السوداني على مختلف أنماطه ومشاربه.
3) المشاركة
في مفاوضات السلام الجارية أو المستقبلية ، على أمل أن لا تدفع الضغوط الخارجية
بنظام الإنقاذ الحالي إلى التفريط بوحدة التراب السوداني. أو التخلي عن بعض
أراضيه.
4) أن تأطير
وتقنين هذه المشاركة سوف يتم عبر إبرام
إتفاقيات منشودة بمشاركة الأجهزة الحزبية المعنية في كلا الجانبين.
............
إذن فقد تم الإتفاق مبدئياً
على تهيئة الأسباب والأرضيات لدخول حزب الأمة شريكا في الحكم صراحةً ، وبما يقتضي
ضمناً قبول حزب المؤتمر الوطني بأبجديات الفلسفة والمنحى الليبرالي لحزب الأمة (في
جانبه السياسي) المتمثل في إيمانه الراسخ (حتى هذه اللحظة) بالديمقراطية والتعددية
والإحتكام بشفافية إلى صناديق الإنتخابات طريقاً للوصول إلى كراسي الحكم.
ولكن الذي يدهش من بين كل
هذا هي تلك السرعة النموذجية التي توصل بها البشير والصادق لمثل هكذا مسودة ومشروع
إتفاق يأخذ من الصادق المهدي أعز ما يملك من غير أن يتمنع .... أو هكذا بدأ الأمر
مقارنة بما جرى سابقاً بينه وبين النميري في مفاوضات بورتسوادان الشهيرة.
وربما تأتي الإجابة المنطقية
على هذا السؤال المشروع بأن هذا التوافق قد تم الترتيب له منذ ذلك اليوم الذي رمى
فيه الصادق المهدي القصر الجمهوري بفلذة كبده "عبد الرحمن" الذي نلاحظ
أنه على غير ما جرى لمن سبقوه في هذا المنصب الفخري قد أصبحت أخبار نشاطه تتصدر
الكثير من صفحات الصحف الورقية ونشرات الأخبار والأنباء في الإعلام الحكومي الرسمي
المكشوف أو الخاص والتجاري "المدعوم" بقوة في وقت رفعت فيه وزارة
المالية الدعم عن المحروقات وغيرها.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه
هنا هو:
" بالنظر إلى وجود
مشروع تمكين إسلامي أصولي إجتماعي معلن لدى المؤتمر الوطني الحاكم الذراع السياسي
لجماعة من الإخوان ... وفي غياب ما يقابله لدى حزب الأمة .. فهل تنجح مثل هكذا
شراكة مرتقبة في الصمود طويلاً ؟"
إن الذي تشهد به الأحداث
وتفاعلاتها منذ يونيو 1989م أن الرئيس البشير ومجموعته العسكرية في إندماجهم الإستراتيجي
مع جانب من الإخوان قد أفلح في إمتطائهم سياسياً نهاية المطاف ، وترك لهم الجمل
بما حمل في جانب التمكين والتأصيل العقائدي على نحو يرضي الطموحات الدعوية للقاعدة
الحقيقية الأعرض لديهم ... وحيث لابد هنا من التنويه بأن هناك من الإخوان المسلمين
من لايزالون على تمسك بمباديء الجماعة الأساسية التي تتلخص في فرض الدستور
الإسلامي ولو بعد حين... أو بما معناه أننا هنا بإزاء ثلاث فئات من هذه الجماعة ..
1) سياسية براغماتية .. 2) سياسية أصولية .. 3) أصولية
دعوية ؛ ترى عدم الإنغماس والتورط في السياسة.
على أية حال فإنه وعلى
الرغم مما أدى إليه هذا الإعتلاء العسكري للإخوان من "إعوجاج" ملحوظ
وكبوات خلال المسير . فإن المحصلة النهائية أن هذا الإعوجاج قد تمكن من السير سنوات
طويلة مدعوماً بفقه الضرورة تارة والبندقية تارة والوعود البراقة والآمال تارة أخرى
... فبدى وكأنه مثال يستحق أن يحتذى به في
الكثير من بلدان العالم المتخلف.
علي عثمان طه
وبرغم ما يجري تداوله
حالياً من شائعات حول تغيير حكومي يستبعد الأستاذ على عثمان طه من منصب النائب
الأول ومركز إتخاذ القرار ، ويضعه على الـرف التشريعي (رئيساً للبرلمان) . فلربما
لايكون هذا الإنطباع صحيحاً بالنظر إلى حساسية المرحلة المقبلة التي ستكون أهم
فعالياتها الفراغ من وضع اللمسات الأخيرة على مشروع الدستور تمهيداً لطرحه
للإستفتاء .. وهو ما يقتضي تواجد علي عثمان طه عن قرب والتفرغ الكامل حتى لاتضيع
على الأخوان تضحياتهم ومجاهدات 25 سنة في ساحات التأصيل والتمكين لمشروعهم الحضاري
الذي يظل مطلبا ملحا للقاعدة الأصولية الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين التي تمثل
الدعامة الوحيدة لحزب المؤتمر الوطني رغم أنف كل اللصقات القشرية المتأسلمة الوصولية
؛ والأعشاب والطفيليات والنباتات المتسلقة ؛ وقناعات السماسرة والتجار والأفندية
المؤلفة قلوبهم التي سادت وزاحمت بالمناكب في ساحة حزب المؤتمر الوطني خلال الفترة
الماضية . وكانت سببا في تلاشي ملامح الوجه الإسلامي الحقيقي المأمول لهذا الحزب وضمور
أطرافه الفكرية . بل وتحويله إلى مسخ عجيب من نوعه تسوده عديد التناقضات والمضحك
المبكي مابين حب الآخرة والعمل بتجرد في سبيلها ؛ وبين التعلق بالدنيا والإقبال
عليها والإستغراق في نهب خيراتها والإستمتاع بملذاتها بالحق والباطل... وحيث لا
يألوا مفتي السلاطين جهداً في تبرير الحرام بشتى المزاعم وتحريف الكلم عن مواضعه.
ربما تكون كلمات تلك الفقرة
التي تضمنها بيان حزب الأمة حول العلاقة التي سيتم الإتفاق بموجبها على الشراكة مع
حزب المؤتمر الوطني أو نظام الإنقاذ (لايهم) ... ربما تكون كلمات تلك الفقرة رنانة
مفرطة في التفاؤل . ولكن هكذا هي السياسة والمساسية التي تتقنها الأحزاب القومية
التقليدية ..... والذي يخيف ويقلل من درجات التفاؤل هنا يتجلى في إحتفاظ البشير
بهيمنته السياسية على نظام الحكم ، ونقل علي عثمان طه للهيمنة كلياً على الجانب
التشريعي (في حالة رئاسته للبرلمان) ...
حتماً هناك مساحة مشتركة
للتعايش والطرح وبعض الإحتكاك بين حبات السبحة السودانية وحراكها الدائم الدوران من
الأعلى إلى الأسفل وبالعكس .... ولكن ليس بالأماني الطيبة وحدها يتعايش الناس ، ويموج
المجتمع فوق بعضه البعض أو دفعا لبعضه في السلم الإجتماعي أوالحرب الأهلية وحراك
التمرد المسلح ... هناك أطماع في أقصى الجانب السلبي .. وهناك من يظن أنه وحده
الأقدر والأنسب دوناً عن غيره في منتصف الجانب السلبي .... ومن العبث البحث في
الجانب الإيجابي الصرف بعد أن إنقضى زمان الرسل والأنبياء.
ومع التسليم بوجود وشيوع
هذه المساحة المشتركة ... فإن سيطرة البشير على الجانب السياسي من جهة . وفرضية
إحتمال تولي علي عثمان طه رئاسة البرلمان ؛ سيعني في جانب من جوانبه إغلاق كافة
السبل والأبواب والنوافذ التي بإمكان شركاء جدد من الأحزاب والجماعات والفصائل
والحركات الدخول منها إلى صلب القرارات التنفيذية والتشريعية المقنعة لعامة الشعب
والمعبرة لمصداقية مشاركته الفاعلة .... أو
بمعنى أوضح أن البشير سيكون أمامهم يمسك بتلابيبهم ويوجّه أقبالهم ؛ وسيكون علي
عثمان طه من خلفهم يهشّ عليهم بعصاه ويضرب أدبارهم.
ولن يتم إستثناء أحد في
ميكانيزم هذا الحراك المشارك إليه أعلاه ؛ حتى وإن شارك فيه السَيّـدان بالإنصار
والمريدين وفلذات الأكباد .....
ثم أنه إذا كانت نمطية
وأفندية ومائيـة الحزب الإتحادي الديمقراطي (الخديوي) الأصل لا تخفى على أحد . فإن
الشيء الملفت أن فكر وفلسفة وإهتمامات ومواهب الصادق المهدي نجدها أكثر ميلاً
وتركيزاً على جانب الممارسة السياسية مقارنة بمقارباته الغير مقنعة في الجانب
الإجتماعي والتأصيل العقائدي .. وحيث لم يفلح حتى تاريخه في تطوير المسار الطائفي
لسواد أنصار جده الكبير. وظل راتب المهدي الإنتاج الفكري والمنطوق الثقافي الوحيد
دون منازع لديهم ؛ على الرغم من أن الناس قد وصلوا إلى القمر وكوكب المريخ (وأكلوا
الهوت دوغ على رأي البشير) . وعلى واقع أن هذا الراتب لم يكن منزلاً من فوق سبع
سماوات حتى يقال بصلاحه لكل زمان ومكان ؛ وسموه عن محاولات التجديد. .....
ولو كنت مكان الصادق لكنت قد قمت بتشكيل لجنة من شيوخ الطائفة لإبتكار راتب عصري لأهل
المدينة ، وتركت الراتب القديم لأهل الفيافي والأرياف.
مهما تطورت العلاقة إيجابياً بين مجموعة البشير
وبين حزب الأمة . فإن حائط الصـد الطائفي الغير قابل للهدم أو القفز فوقه لدى
الأنصار ؛ والمتمثل في إحتكار القيادة للورثة من صلب الإمام المهدي عامة والصادق
المهدي خاصة مستقبلاً .. يظل هذا الحائط حائلاً موضوعياً يحد كثيراً من طموحات
البشير وغيره بالتمادي في مفهوم وجوهر العلاقة مع حزب الأمة القومي . ويحعل كل
علاقة تحالف معه وقتية تكتيكية قصيرة الصلاحية وغير صالحة للإمتطاء.
ومع
كل هذه الحقائق والواقع والمنطق في علاقة البشير بالإخوان فإنه من العبث التفكير
بمجرد إحتمال أنه سيتخلى عنهم أو يتخلون عنه حتى لو دبر له يعضهم إنقلاباً فاشلاً أو
خطة جهنمية لتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية .. لقد نجح الطرفان عبر لعبة كراسي
داخلية مغلقة على الصمود معاً في مواجهة العواصف والمتغيرات ، وأجادوا المسير فوق
صفيح ساخن . والرقص تحت المطر ، وعبور المستنقعات بالقفز فوق ظهر التماسيح طوال
هذه الفترة منذ يونيو 1989م ....... بل وأصبح
الطرفان في علاقتهما شبيهان بتلك العلاقة المثمرة التي نشأت بين الكسيح المُبصـر والأعمى
العملاق المفـتول العضلات.