ضرورة التوازن في العلاقة السودانية مع مصر وأثيوبيا
مصعب المشـرّف
4 أغسطس 2015م
الزيارة التي قام بها وفد من الإعلاميين السودانيين إلى العاصمة الأثيوبية تلبية لدعوة وبترتيب أثيوبي رسمي ..... هذه الزيارة التي بثت فعالياتها قناة النيل الأزرق مؤخراً ؛ أراها أتت في إطار سياسة علاقات عامة ذكية من الجانب الأثيوبي . بوصفها آلية منتجة للتقارب المباشر مع الشعب السوداني ؛ دون إملاءات ؛ وقرارات رسمية فوقية ؛ ومحاذير أمنية ؛ كتلك التي تلازم وتعاني منها العلاقة بين السودان ومصر.
ونلاحظ في البداية أن تشكيلة (المجموعة) الإعلامية في الجانب السوداني قد جاءت على نحو تنفي فيه عن نفسها الوجه الرسمي الروتيني . وهو ما أعطى الإنطباع بأننا على مشارف نموذج جديد من العلاقة بين دول الجوار ، تقترحه علينا أثيوبيا بأسلوبها الهادي الرصين الموغل في التحضر.
شملت وغطت هذه الزيارة معظم المفاصل الحيوية المشتركة بين الشعبين السوداني والأثيوبي . من مواقف سياسية ، وعلاقات إجتماعية ، ومصالح إقتصادية ـ وضروب من الثقافة والفنون الجماهيرية المشتركة.
ولأسباب تتعلق ببناء سد النهضة الأثيوبي العملاق . فإن العلاقة السودانية مع كل من الجارتين أثيوبيا ومصر تدخل الآن في منعطف جديد من تبادل المنافع . يفرض علينا التفكير ملياً وبواقعية وحيادية ؛ وبما يضمن مصالحنا الوطنية ....... وعدم الإنجرار خلف الشعارات البراقة والكلمات المدهونة والوعود المعسولة . وسياسات الضحك على الدقون التي كانت ولا تزال تمارسها الميديا المصرية تجاهنا طوال عقود... ولا ترتجي من كل هذا سوى مصالحها على حساب المصلحة العامة للسودان وشعبه.
كفانا تغفيل إذن ...
وإذا كان بعض الرسميين يعملون لحسابهم الخاص .. ويتاجرون بمناصبهم للحصول على منافع من مخابرات الخارج وجيوب المستثمرين على حساب البلاد ...... فلقد آن الأوان أن يسعى الأنقياء المخلَصين من الشعب السوداني "بتلقائية" إلى تشكيل جماعات ضغط شعبية داخل الحزب الحاكم ، وكافة أحزاب المعارضة والطوائف والجمعيات الغير رسمية ؛ ومنابر الأدب والثقافة والفنون والرياضة ؛ بحيث يتم فرض "توازن" مصالح فعال (غير مأجور) . يراقب ويدعم مسار العلاقات الرسمية الثنائية بيننا وبين مصر من جهة وبين أثيوبيا من جهة أخرى .. وعلى نحو لا تميل فيه كفة على حساب أخرى ... وبحيث تكون مصلحة السودان هي الغاية وطريقتنا المُثلَى في كل الأحوال.
تشكيل جماعات الضغط لا تحتاج إلى صدور قرار رسمي من الدولة أو هذا الحزب أو ذاك.
غاية المسألة أنها تحتاج إلى أرادة وطنية ، ووعي لأفرادها بما يدور حولهم .. وإطلاع على المصالح المرتجاة حصادها ؛ والمخاطـرالماثلة لتلافيها ....
والنوافذ الإعلامية اليوم ؛ في ظل ثورة الإتصال والمعلوماتية أصبحت كتاحة كالهواء .... ولم تعد حكراً على دولة دون غيرها . أو رئيس تحرير ، ومدير قناة وإذاعة أو إعلام حكومة ....
ولغرض تحقيق مصالحنا الوطنية الماثلة . فالمطلوب دائماً مــد حـبل الصـبر الجميل ؛ وإتاحة الفرصة لنمو جماعات وطنية معافاة تخرج من رحم المعاناة ولتحقق التوازن في العلاقات الرسمية بيننا وبين دول الجوار ...
وبحيث لا يترك إتخاذا القرار لرئيس الدولة وحده أو لشخص واحد يشغل منصب وزير أو لطائفة أو لحزب ...
فلربما يكون رئيس الدولة يتعرض هو الآخر لضغوط مباشرة مّا وتهديدات بالإطاحة به ؛ تجعله يرضح أحيانا لتمرير خطط لتحقيق مطامع دول أجنبية لها مصلحة ما ..
أو لربما يكون صاحب منصب ما ضعيف النفس سيء الخلق ؛ يستفيد مالياً من تلك الدولة ... أو ربما يكون حزب وطائفة ما يتحصل على دعم مالي وإعلامي ومعنوي من دولة أجنبية ما.
نرحب إذن بجماعات ضغط شعبية ترعى مصالحنا مع الجارة أثيوبيا ...
وعلى ذات القدر نرحب بجماعات ضغط شعبية ، ترعى مصالحنا مع الجارة مصر.
لكن وفي كل الأحوال ؛ نتوقع ونرجو أن تتفهم جماعات الضغط هذه الدور المنوط بها ؛ بحيث تلتقي كلها في نهاية المطاف عند مصلحة السودان ....
وفي الإختلاف بين هذه الجماعة وتلك رحمة للبلاد وأهلها .... وتتكشف لنا عند إختلافهما مكامن الخلل وجوانب المصلحة.
إذن نعود فنذكر أن الرسالة التي أراد الجانب الأثيوبي إيصالها لأذهان وإنطباعات الشعب السوداني تتمحور في الآتي:
1) طرح رئيس الوزراء الأثيوبي أفكاراً واقعية لعلاقات ثنائية داخل إطار إقتصادي ثقافي سياسي بعيد عن الفهلوة والإملاءات والملفات الأمنية.
فقد جاء حديث رئيس الوزراء الأثيوبي خلال إستقباله للوفد الإعلامي (غير الرسمي) يحمل في طياته جوانب مشرقة من قناعات الإنسان الأثيوبي بوجه عام تجاهنا .... ولخص هذه العلاقة في جوانب واقعية ثلاث سياسية وإقتصادية وثقافية .... وشدد على أنه يسعى حثيثاً لتكريس قناعاته هذه حتى لو إضطر إلى تعلم اللغة العربية.
2) توثيق مدى الإحترام للشخصية السودانية والقناعة بدورها الحضاري وأهميتها السياسية في القارة الأفريقية.
يخطيء بعضنا حين يظن أن شعوب القارة الأفريقية السمراء لا تفهم معاناتنا الحضارية لجهة عدم مبالاة وعدم إكتراث العربي بمساهماتنا الثقافية والحضارية على المستوى القومي ...
وربما لا يعي البعض مننا أن أثرياء العرب في المجمل ؛ يؤكدون لساستنا دائماً أن أفصر طريق إلى قلوبهم وإستثماراتهم إنمـا يمر فقط عبر القاهرة .
ويخطيء بعضنا حين يعتقد أن شعوب القارة الأفريقية السمراء لا يستشعرون أننا نعيش كارثة ثقافية . وحالة معاناة نفسية لا مثيل لها لجهة تأصيل الإنتماء (تصعب على الكافر) .... وإننا في الوقت الذي ندير فيه ظهورنا للقارة الأفريقية . فإن العرب بدورهم يديرون لنا ظهورهم .
يضحكني أن بعضنا وفي الوقت الذي يفتخرون فيه بمعرفة كل مطربي وكتاب وشعراء مصر والعرب ..... نجد بالمقابل أن المصريين ومعظم العرب يفتخرون بأنهم لا يعرفون مننا سوى بعض ممثلي السينما السود الذين يجيدون لعب أدوار خــدم الباشوات والطباخين والبوابين.
إنها بالفعل حالة يرثى لها .......
وفي خضم ولجة هذه المعاناة ؛ تمتد لنا اليد الأثيوبية اليوم ، تدعونا للعودة إلى أفريقيا حاضتنا الأم .... منها نستمد القوة ... ثقل وزننا الحضاري في المنطقة والقارة ..... نعزز ثقتنا بأنفسنا ...... وفيها تتشكل سماتنا الناضجة وملامحنا الجديدة.
3) توضيح المدى الذي يمكن أن تسهم به "الطاقة الكهربائية" في النمو الإقتصادي. وتوفير خدمات متعددة للشعبين السوداني والأثيوبي.
بدأ الجانب الأثيوبي في غرس هذا الإنطباع لدى الإعلامي والمشاهد السوداني بترتيب زيارة للوفد لركوب القطار الكهربائي الأثيوبي . الذي يربط معظم مناطق العاصمة الأثيوبية وضواحيها ببعضها البعض ، ويساهم بقدر وافر في حل مشكلة المواصلات وإزدحام الطرق .. وبما يعني ذلك من توفير للوقت والجهد لمواطنيها..... ولمزيد من التفرغ للإنتاج.
وكانت الرسالة والإشارة التي يفهمها اللبيب السوداني هنا . هي رغبة الجانب الأثيوبي في إبراز " فاكهة " سد النهضة ..... وتوضيح المدى الذي يمكن أن تساهم به الكهرباء المنتجة منه في النهوض بالبلدان وتحقيق التنمية للسودان.
إنها والحق يقال ؛ فاكهة يسيل لها لعاب الشخص العادي . فما بالك بنا وقد جــفّ ريـقـــنا وبلغت القلوب الحناجر من ندرة الطاقة الكهربائية ؟
وإتساقاً مع أعلاه . تم دعوة الوفد الإعلامي السوداني لزيارة سد النهضة العملاق ، والإطلاع على مسار العمل به ، والثمار المؤكدة المنتظرة للشعبين الأثيوبي والسوداني.
كنا ولا نزال نتعامل مع الكهرباء على إعتبار أنها "إضـاءة" ونسميها على كافة المستويات " النــور" ... ويغيب عن أذهاننا جميعاً أنها "طاقـة" محركة لماكينات وآليات الإنتاج الصناعي والزراعي على حـدٍ ســواء.
كان من بين بنود إتفاقية تخلي السودان عن بعض أراضيه ، ورضاه بإغراق مدينة وادي حلفا وعشرات القرى . وتهجير قاطنيها إلى خشم القربة والشتات الداخلي .. كان من بين البنود أن يحصل السودان على نسبة 30% من كهرباء السد العالي ...
ولكن الواقع أننا وإلى يومنا هذا لم نحصل سوى على البعابيص الممتدة الأثـر.
كان البعبوص الأول إحداث فراغ سكاني في مساحات شاسعة من الأراضي السودانية الشمالية.
وترتب على البعبوص الأول بعبوض ثاني هو تآكل مئات الكيلومترات من حدودنا الشمالية على إمتداد جانبي بحيرة السد العالي ؛ ودخولها بشكل تلقائي ضمن الأراضي المصرية.
وكان البعبوص الثالث إحتلال مصر لمنطقة حلايب وشلاتين. ثم إعلانها أراضي مصرية في ظل سكوت الحكومة السودانية مرغمة لأسباب تتعلق بالحصار الإقتصادي ؛ ومطالب المحكمة الجنائية الدولية.
وهناك جملة أخرى من البعابيص ؛ كان أقلها إجهاض التنمية الزراعية والصناعية ؛ التي وعدت بها الولايات المتحدة وألمانيا الإتحادية حكومة الرئيس إبراهيم عبود...... فتلاشت هذه المشاريع جميعها بسبب عدم وفاء مصر بتعهداتها المنصوص عليها في الإتفاقية بمد السودان بـ 30% من كهرباء السد العالي.
واليوم تقدم لنا أثيوبيا وعوداً قابلة للتطبيق على طبق من ذهب لتزويدنا بفوائض زهيدة الثمن من الطاقة الكهربائية التي سينتجها سد النهضة ... وهو ما يعني التالي:
1) نهوض العديد من المشاريع الزراعية والصناعية الكبرى المعطلة في منطقة النيل الأزرق وجنوب كردفان والبحر الأحمر ... وعلى نحو يكون بالإمكان تحقيق التنمية المنشودة في تلك المناطق الثلاث . وبما يبعد عنها شبح الفقر والتهميش والنزوح .... ويوقف محاذير نشأة وتمدد مناطق النزاعات المسلحة ضد الحكومة .. وينفي تماماً مصداقية المطالبات لبعض الفئات من تلك المناطق بالإنفصال.
2) إقامة محطات لضخ مياه الشرب وإمداد ولاية البحر الأحمر بها .. وبحيث يتم المحافظة على وجود الإنسان السوداني من جنوب أراضي هذه الولاية وحتى شمالها ... آخذين في الإعتبار أن من بين أهم المسلمات لتحقيق الأمن القومي هو عدم ترك أراضي فضاء غير مأهولة بالسكان ... وأن من بين أهم الحلول المطروحة اليوم هو توطين الرعاة في مناطق التماس الحدودي مع البلدان المجاورة.
3) إيجاد حلول سريعة لمشكلة إنقطاع التيار الكهربائي المخصص للإستخدامات المنزلية والمكتبية .. وبما يسهم في تحقيق رفاهية المواطن . وتسيير دولاب العمل في المصالح الحكومية والشركات.... وليتفرغ الجميع للإنتاج على كافة المستويات.
إذن .. ومن كل هذا . نرحب بجماعات ضغط سودانية في كافة أجهزة الدولة والأحزاب والمدارس والجامعات ، والقطاع الأهلي من أندية ثقافية ورياضية وفنية ؛ تساهم في دعم الدولة وجهازها الرسمي ... تضغط بوسائلها السلمية وإتصالاتها الجماهيرية ، وتدفع بإتجاه الحفاظ على مصلحة البلاد ومستقبل أجيالها القادمة......
نحن نعيش اليوم في عالم أصبحت فيه المصلحة المتبادلة بين الدول هي الحاكمية الوحيدة لإضطراد أي علاقة .... وكفانا بلاهـــة وطـيبة قـلــب . وإمعان في تقديم تنازلات لا معنى لها.
إدمان مهنة وخصلة البوّابين ....
إن الذي يتمعن حالنا منذ تفكك دولة مروي ؛ يكاد يُصعق حين يدرك أننا بالفعل كنا منذ ذلك الحين وحتى تاريخه نؤدي فقط دور "البوابين" لحراسة حصة مصر من مياه النيل ... وصيانة المصالح المصرية في عمق القارة.
وفي هذا الإطار الوظيفي يسجل التاريخ حرباً مكلفة لا معنى لها ولا جدوى منها شنها الملك بادي أبو شلوخ على الملك الأثيوبي ياسو . ولمجرد دسيسة مصرية أقنعته بأن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر قد أرسل المسيو لانوار دي رول ، لتحويل مجرى مياه النيل الأزرق عن سنار . وتعليم الأحباش صناعة الأسلحة النارية.
أضاع وبدد الملك بادي أبو شلوخ في هذه الحرب الكثير من أرواح وموارد مملكة الفونج .. وخسر دعم جارة أفريقية قوية بحجم أثيوبيا . لها معنا مصالح .. ولها ثقلها العالمي كقلعة مسيحية تاريخية . فكانت النتيجة الحتمية أن تجرأ محمد علي باشا على غزو السودان 1821م وتدمير دولة الفونج .
وبسبب حرب الفونج على الحبشة ؛ ثم بسبب حرب القلابات 1888م (الغير مبررة) بقيادة حمدان أبوعنجة أبان عهد الخليفة عبد الله التعايشي ..... تعمق الجرح الأثيوبي ... وخسرنا الكثير من ألق وصدى في عمق القارة الأفريقية الإستراتيجي بالنسبة لنا آنذاك ....... وعاد الإستعمار الثنائي المصري البريطاني لإجهاض الدولة المهدية بالقوة وإحتلال وحكم السودان عام 1898م بأقل من تكلفة إحتطـاب على مشارف غابة.
وربما لذات هذا الإطار الوظيفي من إدمان لمهنة وخصلة"البـوّاب" وتماهيه لأجل خاطر عيون البـاشــا المصري ؛ يقف المواطن السوداني اليوم مذهولاً ، وهو لا يكاد يصدق ما يجري أمام عينيه من ترتيبات وإعداد لسيناريو تدمير (بأيدي سودانية) لمشروع الجزيرة.
جانب من حفل أقامه المطرب الأثيوبي الأفريقي الشهير "تيدي آفرو" في الخرطوم .... لا نرى مطرب عربي غنى لنا أغنياتنا أو رقصت لنا شعوب العرب .. إنها الحماقة تمشي على قدمين كوننا ندير ظهورنا لأفريقيا والأفارقة . ونتشعلق بدلاً من ذلك في الحبال الدائبة