أبوعبيدة حســـن ... دهشة الغناء الشعبي
مصعب المشرّف
24 أغسطس 2015م
أبوعبيدة حسن في ضيافة رشا الرشيد 2015م
دهشة الغناء الشعبي ؛ المطرب المبدع " أبو عبيدة حسن" . أطل علينا مؤخراً من خلال لقاء توثيقي هادف عبر قناة النيل الأزرق ؛ قدمته الإعلامية الشابة المتميزة "رشـا الرشيد" بعنوان "عقد الجواهر".
تميز أبوعبيدة حسن بأنه قدم الجديد المبتكر في عالم الغناء الشعبي .. وهو من المبدعين القلائل الذين من الله عليهم بملكات ومواهب متعددة.
ويعتبر أبو عبيدة حسن نجم نجوم نهاية الستينات وسنوات عقد السبعينات من القرن الماضي في مجال الغناء الشعبي ... واستطاع أن يشق طريقه (وحده) بعنفوان التسونامي ؛ رغم الهجوم الشرس والعنيف الذي كان يتعرض له آنذاك في الصفحات الفنية من جانب أنصار القديم ؛ الذين يتهمونه بتخريب آلة الطنبور... وتحطيم القوالب الكلاسيكية الموروثة.
ولد أبوعبيدة عام 1952م في عاصمة ربوع السودان "تنقاسي" ... وطبقت شهرته الآفاق من خلال برنامج "ساعة سمر" الإذاعي الذي قدمه بأغنية "القلبي بيريدو". وكان عمر ه آنذاك 16 سنة فقط ... ثم جاءت أغنيته "يا ناس شوفوا لي حلل" بمثابة الكلمة الفصل في إرتفاع نجمه.
ثم غاب شهرين وعاد مرة أخرى بأغنية "الجنني" الراقصة ؛ فكانت في زمانها واسطة العقد ؛ والكافية الوافية التي لَـوَت إليه أعناق شباب ذلك العصر ؛ وإستدعتهم ليقبلوا عليه.
..............
وفي اللقاء التلفزيوني المشار إليه ؛ لوحظ أن أبوعبيدة يـرد الفضل في شهرته إلى أغنية "حلل" التي قدمها له عمر الجزلي في برنامج (7 ×7) . وربط بينها وبين التفاعل الجماهيري الذي حظي به على إثرها.
على أية حال فإن أكثر الذي يذهب إليه موثقي سيرته الفنية ؛ أن برنامج عمر عثمان "ساعة سمر" هو الذي أسهم بالقدر الأوفر في تقديمه للجماهير ...
وربما كان أبوعبيدة حسن محقاً في "تقديراته" لبدايات إنطلاقه . بسبب أنه وكما قال بلسانه . أن منزله قد إزدحم بالمعجبين (مباشرة) عقب تقديم عمر الجزلي له بأغنية "حلل" ... وأنه أصبح بها نجما من نجوم الغناء على مقياس إحتفاء الناس به في الشارع . والحجوزات لإحياء الحفلات الغنائية في المناسبات الإجتماعية والليالي الغنائية . ثم وإستضافته في البرامج الغنائية في الإذاعة والتلفزيون.
جديد أبوعبيدة حسـن:
1) أبو عبيدة حسن هو الذي إبتكر الطنبور الكهربائي . وغطاه بالأبلكاش بعد أن كان جوفه صحـن طـلِسْ بحجم القـدح ومغطى بالجلد ..
2) أضاف إلى أوتاره الخمسة التقليدية وترين .... فأصبح الطنبور على يديه خليط من الطنبور والجيتار..ومن ثـم أستطاع به أبوعبيده حسن تنويع إيقاعاته وإثرائها ؛ فشملت التم تم والدليب والمردوم والكراتش والبايو والريغي ومزيج من إيقاعات الجوقات الصوفية ....
وعلى إيقاع طنبور أبوعبيدة الكهربائي وألحانه الراقصة الدافئة ؛ رقصت العرائس على السباتة . وإندفعت أمواج الشباب إلى ساحة الرقص في حفلات الزواج والليالي الملاح إلى يومنا هـذا.
وبإيجاز نستطيع القول أن أبو عبيدة حسن قد كان له الفضل الأكبر في تطوير ومنح آلة الطنبور المزيد من المساحة في التعبير ومخاطبة الوجدان . وإدخاله قلوب أهل السودان قاطبة ؛ كون أن إضافته إليه أو تاراً جديدة جعلته يتوافق مع معظم الإيقاعات السودانية الأخرى كما أسلفنا . وكذلك هيأ طنبور أبوعبيدة الطريق لـظهور آلة المندلين. وسار على هديه العشرات من المطربين .
3) ابتدع أبوعبيدة حسن أسلوب التبادل الديناميكي المنسجم في الترديد مع الكورس على الطريقة الملحوظة في أغانيه .. وقلده في هذا الأسلوب كمال ترباس ، وكذلك النور الجيلاني . ثم عبد الله البعيو .
وعلى نهج أبوعبدة حسن ؛ تحول الكورس من أداء وظيفة المُـردِّد التابع إلى كورس متفاعل "مُصـاحِب".
والطريف أن كمال ترباس حين سئل لاحقاً عن السر في لجوئه لهذا الأسلوب في الغناء بصحبة الكورس . برّر ذلك بقوله أنه يمنح حنجرته لحظات من الراحة ... وأنه عندما تقدم في السن أصبح يؤدي بمصاحبة الفرقة الموسيقية لذات السبب . ولما تتيحه الآلات الموسيقية للمطرب من لحظات توقف يرتاح فيها !
كان ذلك التبرير تخارُج ذكي من كمال ترباس .. ولكنه إن كان يحاول إقناع نفسه وبعض البسطاء حوله . فإنه لا يستطيع أن يقنع كل الناس بأنه لم يكن يهتدي في ذلك على آثار أبوعبيدة حسن.
كذلك كان حال حسين شندي في إعادته تقديم أغنيات وترية شهيرة في بداية تكوينه ، بصحبة المندلين والكورس طوال عقد الثمانينات . ومنها على سبيل المثال أغنيات "يا سائق" لعبيد الطيب ... و "الطيارة" للكاشف... وكان واضحاً أنه يهتدي في الأداء على آثار أبوعبيدة حسـن.
وعلى ذلك يكون القياس لكافة من سبق أبوعبيدة بفترة قليلة ، أو عاصره .. أو جاء بعد "إنقلابه الغنائي" .
للأسف لم تستفسر المحاورة الشابة "رشا الرشيد" من أبوعبيدة حسن عن سر إبتكاره لهذا الأسلوب في الغناء .. وحتماً كنا سنجد عنده الإجابة الدقيقة المرجوة . خاصة وأن أبوعبيدة حسن حين إبتدع هذا الأسلوب كان لا يتجاوز عمره 16 سنة .. وبالتالي فإنه حتماً لم يكن ينشد منح حنجرته وأوتاره الصوتية لحظات إستراحة تحوُل بينها وبين الإلتهاب والحشرجة.
أغلب الظن أن الأمر مرتبط بإبداع فطري لدى أبوعبيدة حسن ؛ صادف إشرافه بنفسه على إختيار وتدجين خامات كورس غنائي لم يسبق لها العمل الممنهج في هذا المجال أو على سبيل الهواية .... فجاء بهذا الكورس إذن صفحات بيضاء .
والملاحظ أن أبوعبيدة حسن لم يكن ينتمي لأية مدرسة غنائية في تكوينه .. ولم يعبر إلى جهاز الإعلام الرسمي من خلال مدرسة محمود فلاح مثلاً أو على هدي محمد أحمد عوض ، أو من خلال نادي الخرطوم جنوب ، أو فرقة فنون بجري . وغيرها من "مؤسسات" أهلية شعبية ؛ تساهم في إحتضان المبدعين وتدريبهم وإعدادهم وتقديمهم لاحقاً إلى الساحة الفنية بالبلاد على نسق قوالب مؤطرة.
أبوعبيدة حسن كان إذن متمرد على كافة القوالب المطروحة في عصره .... وربما لأجل ذلك جاء متفرداً عن غيره على هذا النحو المحسوس في الإبداع.
المبدع أبوعبيدة حسن نهاية عقد الستينات
وفي ذلك يقول أبوعبيدة:-
أنه بدأ مشوار الغناء "بمصاحبة" طنبوره فقط. ولم تكن لديه فرقة موسيقية .. وأنه لم يفكر في إنشاء هذه الفرقة إلا بعد أن أذاع له عمر الجزلي في برنامجه (7×7) أغنية "حـلل" . فتزاحم الناس على منزله يتعرفون إليه ويحجزونه للحفلات ...
عندها فقط فكر أبوعبيدة حسن في إنشاء فرقة موسيقية لمصاحبته الغناء في الحفلات . لكنه خاف أن يستعين بفرقة موسيقية محترفة (يصعب تدجينها) تتبع الأسلوب السائد النمطي في أغاني الحقيبة التي ورثـوها واعتادوا عليها منذ حقبة الصعاليك.
إذن نستنتج أن أبوعبيدة حسن هنا قد هداه حرصه على فرض وتمكين أسلوبه ونمط تفكيره العبقري الخاص به إلى الإستعاضة عن الفرق الموسيقية الجاهزة بتجميع بعض ذوي الإستعداد من فتيان الحـي أصدقائه ومعارفه يبدأ بهم من الصفر ... وعكف على تدريبهم وصقلهم بنفسه .. ولينشأوا حواريون على تلموده ومحجته البيضاء.
وهو ما أدى إلى نجاح أبوعبيدة حسن في فرض رؤيته الخاصة به على كافة أعضاء فرقته . ثم وعلى أجهزة الإعلام . فخرج إلى ساحة الغناء بمثل هذا الأسلوب المتفرد الجديد.
..............
من المسلمات إن المبدع يظل وليد ظروفه والبيئة المحيطة به . والأحداث الجسام المفصلية التي يموج بها العالم الخارجي ؛ ويتعرض لها موطنه وشعبه.
جانب من مسيرات ثورة 21 أكتوبر 1974م الشعبية
ومن ثم ؛ فلربما لا أكون مبالغاً لو ذهبت إلى الإعتقاد والتفسير أن أبوعبيدة حسن قد تأثر بنحو أو بآخر بشعارات ومنتجات ثورة 21 أكتوبر 1964م .. ثم وبحالة وأجواء التفاؤل والحماس التي صاحبت إنقلاب 25 مايو 1969م العسكري بقيادة العقيد جعفر نميري ؛ ومحموعة من الرتب العسكرية الصغيرة أغلبها بدرجة رائـد.
وعلى وقع ثورة 21 أكتوبر 1964م . مارس الشعب وقطاعات الفنون حرية الرأي والفكر والإبداع ؛ فكان ابوعبيدة جزءاً من هذا المد الديمقراطي بإبتداعه طنبوره الكهربائي وإضافة أوتار . وتعديل وظيفة الكورس من مردد تابع إلى " نسـيـج " مصاحب.....
ثم جاء إنقلاب 25 مايو بالحماس المتدفق في بداياته ورأي الشعب في جعفر نميري ورفاقه الرواد أحلام وحماس الشباب ؛ فكان ابوعبيدة جزءاً من هذا الحماس في ألحانه وإيقاعاته القوية السريعة.
من جهة أخرى كان العالم في عصر ابوعبيدة يموج بالأحلام ؛ وينادي بالمشاركة كفكرة عامة ..
وفي السودان ، ملأت صور عبد الناصر وجيفارا ، وفيديل كاسترو ولينين الجدران .
وفي السودان؛ كان يكفي أن يكون في الحي عامود نور ؛ ليصبح بؤرة لتجمع فتيان الحي على مختلف ثقافاتهم ؛ وساحة للنقاش وتبادل الأفكار ؛ وسوقاً رائجة للإستقطاب الفكري والسياسي والرياضي .. إلخ.
كان النشاط الثقافي والسياسي .. ووتيرة ديناميكية المجتمع .. وإستعداده وتعطشه لتلقي وهضم المزيد على أشده ؛ كنتاج طبيعي للإنفتاح الفكري والسياسي الذي أتاحته ثورة 21 أكتوبر 1964 المجيدة.
وكان لابد أن تنداح مثل هذه الأفكار ، وأساطير الكاريزما والنقاء الإنساني المحض ساحات الغناء وضروب الفن في السودان ؛ الذي شهد هو الآخر موضة فرق الجاز بأداءها الجماعي.... ونشطت الثنائيات والثلاثيات الغنائية رجالاً ونساء.
من ظن أن النجاح يأتي به الفرد وحده من الفراغ فهو واهم ..... فلابد من ظروف محيطة مواتية ؛ تلهم الفرد ، وتستجيب لها المجموعة المهيأة نفسيا وثقافياً لإستيعاب الجديد المبتكر في مرحلة مفصلية من مراحل مسيرة المجتمع.
ومن ثم فلا نستغرب أن أصبح أبوعبيدة حسن جزءاً من هذا الحراك الذي لم يترك بيتاً إلا وطرق أبوابه بعنف أو دخل من نوافذه إلى قلوب وعقول الشباب آنذاك .... وأن أبوعبيدة قد جاء وبإحتصار ثمرة فريدة من ثمار ثورة أكتوبر 1964م ... وسواء أكان يعي ذلك أو لايعيه.
عبقرية أبوعبيدة حسن تلخصت في خروجه إلى الناس بإبتداعه الأداء " الجماعي " المتبادل بينه وبين الكورس.
إستمع إلى أغنيات أبوعبيدة حسن بصوته ، أو التي يعكف بعض عموم المطربين على ترديدها اليوم مع إضافة آلات موسيقية جديدة لم تكن متوفرة في عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي . فتلاحظ أن الكورس لا يكتفى بالترديد خلف المطرب ؛ بقدر ما أصبح عند أبوعبيدة حسن جزءاً من الأداء الكامل للأغنية .....
لاحظ مثلاً أسلوب أبوعبيدة حسن في أداء أغنيته الشهيرة "إنتي تبري من الألم" كلمات عزمي أحمد خليل .. وكيف أنه تقاسم الأداء مع فرقته . فقضى بذلك على سيطرة أسلوب "التخت الشرقي" الذي كان سائداً (الشيّالين) في أغاني الحقيبة والطنبور الكلاسيكي.
أصبح الغناء على يد أبوعبيدة حسن تبادل ديناميكي بين المطرب (القائد) والكورس التابع .. ولم يعد هناك "شيالين".
وهو نفس النهج الذي إعتمده لاحقا كمال ترباس والنور الجيلاني .. ويسير عليه عبد الله البعيو وحسين شندي ... وكافة مطربي الجيل الحالي ممن قد يتم تصنيفهم في المستقبل تحت مظلة "الغناء الشعبي" . فلا هو ربوع ؛ ولا هو حقيبة ..... ولا هو حديث.
وحتى يكون الأسلوب الجديد الذي أبتكره أبوعبيدة حسن أوضح . فإنه في أغنية " إنتي تبري من الألم " ، يفتتح أبو عبيدة بغناء البيتين الأول والثاني كاملين منفرداً:
والله ما رضيناها ليك .......تغمر الدمعات عينيك
رغم كل خصام وجفوة برضو شفقانين عليك
وبعد هذه الإفتتاحية ؛ يردد الكورس نفس الأبيات على ذات النسق التقليدي السائد في لونية النعام آدم والحقيبة.
ولكن بعد هذا الكوبليه تتغير الصورة تماما . فيتبادل أبوعبيدة والكورس الأداء الجماعي المتبادل على النحو التالي:
يردد أبوعبيدة:-
انتي تبري من الالم
فيرد عليه الكورس :-
والالم ما لينا نحنا
ويردد أبوعبيدة:-
ماهو باين في عيونا
فيردد الكورس:-
مهما جينا ولا رحنا
ويردد أبوعبيدة:-
الا يوم فاتنا وطـراكـي
فيجيبه الكورس:-
دابـو اصبح لينا محنه
وبعد جملة موسيقية فاصلة ؛ يختتم الكورس الكوبليه (منفرداً) بنفس الطريقة التي إفتتح بها أبوعبيدة الكوبليه (منفرداً):
والله ما رضيناها ليك ....... تغمر الدمعات عينيك
رغم كل خصام وجفوة ...... برضو شفقانين عليك
وهكذا يمضي الأداء على هذا النحو ؛ حتى ينتهي بعودة أبوعبيدة حسن إلى أبيات المطلع نفسه ؛ ليختتم بها الأغنية (منفرداً) بمثل ما إفتتحه به:
والله ما رضيناها ليك ....... تغمر الدمعات عينيك
رغم كل خصام وجفوة ...... برضو شفقانين عليك
..........
ربما وجد كمال ترباس والنور الجيلاني ، وعبد الله البعيو الطريق ممهداً والأسلوب واضحاً على هدي رائدهم ابوعبيدة حسن .... فسلكوا دروبه بعد التدريب المضني والسهر المستمر.
ولكن حين نتخيل أن أبوعبيدة قد إبتدع هذا الأسلوب الفريد من تلقاء نفسه . ودرب عليه أفراد فرقته من أولاد الجيران في الحي .. فلنا أن نتخيل كم هي ينابيع الإبداع والصبر عليه عنده ......
ربما كان ويظل الآخرون من تلك المجموعة في جيله مطربين وأساطين في ساحة الغناء والتطريب ..... ولكن أبوعبيدة حسن يتميز عنهم بأنه كان مبدعاً إلى جانب أنه مطرب.
اللافت أن أبوعبيدة حسن . وخلال اللقاء الذي حاورته فيه "رشا الرشيد"؛ جرى على لسانه قوله أنه "غنى أيضا أغاني الحقيبة" ...
وكان من الأفضل لو أتاحت له رشا الفرصة كي يعدد إغنيات الحقيبة التي رددها .. فلربما يجد (في المستقبلً) باحث أكاديمي متخصص مشتهاه للوصول بسرعة وسهولة إلى المنابع التي إستقى منها أبوعبيدة بعض عبقريته الغنائية.
وحين أقول عبقرية فإنني لا أبالغ ولا أسوق جزافاً . فالعبقرية ليست شهادة تمنحها وزارة التربية والتعليم .. وينبغي علينا دائما التفريق بين "عالم الأشياء المادية " و "عالم الأفكار الإنسانية".
واقع الأمر فقد كان هناك ولا يزال إلى يومنا هذا من يعترض ، ويرفض بشدة تصنيف لونية أبوعبيدة حسن على أنها تندرج تحت مظلة فن غناء الطنبور ..... فن غناء الطنبور التقليدي الذي جرى التعارف عليه عند النعام آدم ، و إدريس إبراهيم ، واليمني.
السهولة التي تمكن بها المطرب المؤدي حسن شرف الدين من ترديد أغنيات أبوعبيدة حسن ؛ خلال تلك الحلقة المتلفزة المشار إليها بمصاحبة فرقة موسيقية حديثة تتضمن آلة "المندلين" و "الأورغ" و "الجيتار" و "الساكسفون" ..... السهولة هذه تعـزز القناعة بأن موسيقى وألحان وأداء أبوعبيدة حسن تمثل خطاً متفردا خاصاً به ؛ حتى وإن جاء فرعـاً من أصل الأغنية الشعبية ....
وأفضل ما ينبغي المسارعة به هو إعادة اللقاء مع أبوعبيدة حسن من خلال حلقات توثيقية لاتتوقف عند مولده وأين تعلم ومن أحب .. ولكن أن يركز الحوار على إستدراج وجهات نظر أبوعبيدة حسن في تصنيفه للونيته وأين يضعها . وكيف كان تفاعله مع البيئة من حوله . ما هي النظم السياسية ، والأحداث المفصلية التي عبرت أمامه ؟ ... ثم ورؤيته الخاصة لكل ما كانت تموج به الساحة الفنية في زمانه ... وعلى نحو يتمكن فيه المحاور من الحصول على إفادات وإجابات صريحة أو مبطنة تصلح أن تكون أساساً لدراسات وبحوث علمية تفيد في رفد فن الغناء السوداني بأفكار جديدة ؛ وأجوبة عن إستفسارات ومعاني ربما تكون غائبة عن الذهن في هذا الزمان الذي يشكو فيه الجميع من ندرة التواصل بين الأجيال ... وتنعدم فيه الأقلام النقدية المتخصصة والموهوبة.
.........................
كان أبوعبيدة بوجه عام متصالحاً مع نفسه ومع مجتمعه . ولم يبخل عليه هذا المجتمع بالدعم والحب والتشجيع ..... ولكن شفافيته وحساسيته الكامنة فيه لم تحتمل رؤيته لوالدته وهي تعاني المرض طريحة المستشفى .. ثم فراقها له بإنتقالها إلى جوار ربها الرحيم ... فكان أن أصيب أبوعبيدة بإكتئاب نفسي حاد وخلل في مستويات الأحماض الكيميائية التي تحافظ على تناغم عمل المخ . فبقي أبوعبيدة طريح مستشفى التجاني الماحي لسنوات طويلة ؛ قبل أن يخرج معافى عام 2009م .. ولكن المرض كان قد أخذ من جسده وأعصابه كل مأخذ . ولم يعد أبوعبيدة ذلك الفتى الضخم المفتول العضلات ؛ الذي يحمل لقب "البطل" ؛ ويستطيع بقبضة يديه رفع عربية صالون إنجليزية ماركة "هنتر" من على الأرض ؛ ومنعها من التحرك إلى الأمام ....
وكان "طنبور أبوعبيدة" ضخماً هو الآخر ثقيل الوزن لا يحتمل حمله وإحتضانه والإتكاء به للعزف عليه .. فلم يعد أبوعبيدة اليوم يمتلك من بنيان الجسد ما يجعله قادراً على ذلك.
واليوم يمارس أبوعبيدة حسن نشاطه في كسب قوته بشرف من خلال أعمال النحت والديكور والنسيج . ولا يزال يبدع في كل شيء . ويستخرج من البيئة المحلية (وخاصة أشجار النخيل) أروع منتجاته الفنية في مجال الديكور..... فطوبى لك أبوعبيدة في ظل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده] .... رواه البخاري في صحيحه.
التحية لأبوعبيدة حسن ... والإشادة بنفسه العصامية العالية . وتمسكه بكرامته وعفته ونظافة يده كما عهدناه عليه دائماً .....
شخصية وإبداع أبوعبيدة جسن ينبغي الحرص على توثيقها كأنموذج لأجيال قادمة ترغب في إحتراف الغناء على أقل تقدير ؛ ناهيك عن العزف والتلحين.
إن العقل حين يستدعي اليوم سيرة أبوعبيدة حسن . يكاد لا يصدق كيف إجتمعت فيه كل جوانب صوت شجي ، وتلقائية شفافة ، وشجاعة واثقة من نفسها ، لا تخشى إقتحام الحواجز وتحدي المستحيل . ويمتلك من الجرأة والبسالة ما أهّله لإضافة أوتار جديدة إلى آلة الطنبور القادمة من أعماق التاريخ الوجداني على مدى الآلاف من السنوات قبل الميلاد ؛ ثم ويحوله إلى آلة موسيقية كهربائية .. ويتقدم يحمله بين يديه في خطى ثابتة واثقة نحو برنامج إذاعي "كان" الأشهر من نوعه نهاية عقد الستينات من القرن الماضي ..... و " كان " عمر أبوعبيدة وقتها لا يتجاوز 16 سنة.
لا بل كيف إمتلك الشجاعة الأدبية ليتصور أن بإمكانه أن يجتاز بهذا الطنبور الكهربائي باب وممرات الإذاعة في زمان النعام آدم ، وإدريس إبراهيم ,,,,,,, ثم يعبر به حاجز لجنة الألحان والنصوص الفولاذي ... هذه اللجنة التي يقال أنها كانت في صرامتها ودقتها كابوساً يؤرق مضاجع المطربين القدامى والجدد والشعراء والملحنين على حدٍ سواء.......
مثل هذا المبدع النادر لايمكن إلا أن يكون عبقرياً صاحب نفس وثابة ؛ وموهبة بحساسية ميزان الذهب ..... مثقفاً من تلقاء نفسـه .... مدركاً لما يدور حوله من أحداث ومتغيرات .... ومتأثراً بها متشرباً له .... فينحى هذا المنحى الجديد في الكلمات واللحن ةالأداء ؛ بمصاحبة آلة جديدة وفرقة موسيقية وكورس من صنع يديه ...
وبالفعل . فلم يخيب أبوعبيدة حَـسَـن حُـسْـنَ ظـن الأقـدار به ....
وكان أن جلس أبو عبيدة منذ لحظة دخوله الأولى للإذاعة على الكرسي الذهبي في حضرة برعي محمد دفع الله (رحمه الله) .... والذي مازحه بقوله:
- "ياخي إنت حكايتك شنو؟ شاعر وملحن ومغني ونحّات ورسام . ما داير تــدي معاك الناس فرصة ليه؟".
-
وكانت هذه الممازحة هي فحوى الشهادة التي علقها أبوعبيدة حسن على صدره . وخرج بها مطرباً مُجـازاً إلى ساحات الغناء الأرحب ....... ولا يزال بفاخر بها إلـى يومنا هــذا.