مغـزى تقـديم الشعب بائعة شاي لإفتتاح مستشفى
مصعب المشرّف
22 مايو 2015م
الذي لم يفهمه شخص واحد ؛ شذوذاً عن الملايين من أبناء الشعب فيما يتعلق بالمغزى الذي إختارت فيه الأمة تقديم بائعة الشاي لإفتتاح مستشفى متاح لعامة الشعب .. الذي لم يفهمه هذا الشخص من كل هذا وبعضه أن الغرض إرسال رسالة واضحة بكل الشفافية إلى ولاة الأمر في داخل البلاد .. وإلى كافة الشعوب الأخرى التي نقلت إليها وسائط المعلوماتية النبأ .. يتمثل مضمون هذه الرسالة في التالي:
1) أن بائعة الشاي هذه تجيء رمزاً لعفة النفس وطهارة اليد ، وكبرياء الإنسان السوداني الأصيل الحـر ؛ الذي آمن بخالقه حق إيمانه ، وآثر أن بكسب رزقه بعرق جبينه وكد يده . وعلى هدي حبيبه المصطفى عند قوله صلى الله عليه وسلم : [ ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يديه ، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده] ..... كل ذلك على العكس مما أصبحنا نراه من نماذج إمتهنت الإنحراف الأخلاقي . أو جعلت من الوظيفة العامة مدخلا للكسب والثراء الحرام . ولم يتورع بعضهم حتى في سرقة أموال الله . وتبديدها على رفاهيتهم في هذه الحياة الدنيا القصيرة مهما طال الأمد بالإنسان.
2) إحجام رعاة المستشفى عن دعوة وزير الصحة هو رد عملي على إستهزاء هذا الوزير بمشاعر الشعب حين سخر منه بالأمس ، ونصحه بأكل الضفادع ... كل هذا رغم أن هذا الشعب الذي يزدريه اليوم ؛ هو الذي تولى الصرف والإنفاق عليه بالأمس حتى وصل إلى ما وصل إليه من مركز أكاديمي ....
والطريف أن أهل "المشروع الحضاري" من القاع إلى القمة وبمن فيهم علماء السلاطين ؛ لم يحاولوا إفهام هذا الوزير "الإسلامي" بحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل الضفدع ....... فقد روى البيهقي في سننه عن سهل بن سعد الساعدي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل خمسة: النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد ) ... وبذلك رأى العلماء أن تحريم قتل الضفدع يستلزم منع أكله.
3) من جهة أخرى فقد إنبرى هذا الشخص الصحفي الثـري الوارث ؛ يحتج وحده على الناس أنهم لم يأتوا بوزير الصحة لإفتتاح المستشفى . وفضلوا بدلا عنه بائعة شاي من عامة الشعب .....
أما لماذا يحتج هذا الصحفي بضرورة أن يتعبد الناس على بلاط المنصب الحكومي الرسمي ؛ ففيه دليل باديء ذي بدء على أنه (الصحفي هذا) يعيش في عالم غير العالم الذي يعيش فيه أقرانه من الشباب .. لا بل ويعيش زمناً غير زمانه .. وأنه بالجملة والتفصيل قد إختار الإنزواء مكبلاً في كهوف الماضي الإصطفائي ..... فلم يعد يعلم بمعطيات الحاضر . وكيف أصبح يفكر أمثاله وأقرانه من الشباب الذي أتاح لهم فقرهم أن تمتليء سواعدهم وأقدامهم وشعر رأسهم وجباههم بتراب وغبار الوطن الغالي ...... ويتفاعل هذا الشباب مع قناعات ومثل جديدة تبلورت وأفصحت عن جيل جديد غير مكبل بقيود أولاد المصارين البيض ؛ وقدسية صاحب السجادة الطائفية ... وإمتيازات صاحب المنصب الحكومي . وغيرها من عناقيد غرور وتعالي عفا عليه الزمن.
4) مطلب هذا "الفتى الصحفي الموالي" ؛ الذي يشترط أن يكون وزير الصحة هو الذي يناط به إفتتاح هذا المستشفى ؛ يذكرنا بقول بعض كفار قريش [لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم].
5) إحتجاج هذا "الفتى الصحفي الثري" بأن يكون فلان وعلان من أصحاب المناصب العليا هو الذي يفتتح هذا المستشفى ؛ وتغييب بائعة الشاي يذكرنا أيضاً بقول بني إسرائيل حين قال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا :[ قالوا أنّىَ يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله قد إصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم]..
وقد قلنا أعلاه أن الله قد إصطفى بائعة الشاي هذه بشرف إكتسابها الرزق الحلال . وجعلها في أعين شعبها رمزاً لعفة النفس وطهارة القلب ونظافة اليد . لأنها إختارت من النجدين المهديين طريق كسب الرزق بالحلال . ولم تمتد يدها للمال العام والرشاوي والعمولات والشراكات النائمة على عهدة نفوذ المنصب العام.
إن الذي لم يستوعبه البعض القليل القليل ؛ هو أن الشعب قد سئم من الفساد وفضائح السرقات التي عبقت روائحها طول البلاد وعرضها . وجرى تصدير رائحة عفونتها إلى الخارج ؛ حتى بات الحال مضرب الأمثال . وحصل السودان على الترتيب "العالمي" الرابع في قائمة الدول الأكثر فساداً.
6) الطريف أن هذا الفتى الصحفي المُنَعَّـم ؛ قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين أفتى قائلاً : (ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﻡ ﺳﺖ ﺍﻟﺸﺎﻱ ﻋﻠﻰ ﻭﺯﻳﺮ ﺍﻟﺼﺤﺔ ﻟﻦ ﺗﺘﻘﺪﻡ ﺃﺑﺪﺍً ) .... ومثل هذا القول مردود عليه بأن الأمة قد سبق وقدمت الوزير تلو الوزير على غيره من أبناء الشعب الشرفاء المخلصين . وظلت تنتظر كالخراف والنعاج طوال عقود ولكنها لم تتقدم أبداً .....
ثم أن هذه الأمة التي يمثلها هذا القطاع الواسع من المتبرعين ذوي الأيادي البيضاء والشباب العامل العاشق لبلاده ومواطنيه عندما أقاموا هذه المستشفى على أكتافهم العارية ..... لو كان هؤلاء جميعهم يأنسون في وزير الصحة خيراً لما كانوا قد تجاوزوه إلى غيره من رموز نسائية تمثل سنام الشرف الرفيع في عرف وثقافة وتجربة الشعب على مر العصور ....
ولا ينكر أحد أن وسائل التواصل الإجتماعي ومواقع الإنترنت قد شهدت إجماعاً منقطع النظير على تأييد هذه الخطوة التي إتخذها الشباب القائم على إنشاء هذا المستشفى ......... ولا تجتمع أمة محمد على ضــلال .
7) تتبقى أيضا الإشارة إلى أن الأرامل ، ومن ترك لهن أزواجهن يتامى . أو من تخلى عنهن وعن أطفالهن آباء وأزواج بالطلاق أو الهروب والإختفاء بسبب عدم القدرة على الإنفاق عليهم . وهو ما دفع بمعظم هؤلاء النسوة إلى طرق أبواب العمل الشريف الشاق المتمثل في بيع الشاي والكسرة ، وغيرها من مهن يدوية .. هذه الشريحة من المرأة العاملة قد تعرضت للأسف إلى الكثير من العسف والظلم من جانب الأجهزة المعنية الرسمية ، التي سامتهن الخسف والمصادرة .. لا بل ولم تسلم بعضهن حتى من سـلق ألسنة أئمة المساجد الحِـداد ، وهمز ولمز وخائنة أعين شيوخ الفتاوي السلطانية في الأجهزة الإعلامية على علاتها ... وتناسى هؤلاء عن عمد ضرورة وأولوية الحديث الصريح عن حرمة الربا ، وسرقة المال العام وأموال الزكاة ، وغسيل الأموال . وسرقة أراضي المغتربين ، ودفن النفايات .. إلخ من جرائم كان ينبغي تسليط الضوء الشرعي عليها بقوة . وليس الإنحراف وإلهاء الرأي العام عنها بالتجني الغير مبرر على بائعات الشاي والكسرة والطواقي والبخور.
8) وقبل أن يجعل هؤلاء الشيوخ من يائعات الشاي والكسرة مادة أساسية دسمة لهجوم ألسنتهم . فحبذا لو إلتفت هؤلاء إلى التساؤل عن طبيعة وحقيقة المصارف التي تصب فيها الزكاة .. ولربما ما كانت أرملة أو مطلقة لتضطر إلى تحمل ومكابدة تحصيل الرزق عبر مهن صعبة في ظروف قاسية لو أن مصارف الزكاة قد طرقت أبوابهن ؛ وقامت على رعايتهن وأطفالهن على النحو الذي أمر به الله ورسوله.