منتصر الهلالية وأغنيات مصطفى سيد أحمد
مصعب المشرّف
بثت قناة النيل الأزرق مساء يوم الخميس 21 أبريل 2016م الحفل الغنائي الساهر الذي أقامه المطرب المبدع الشاب "منتصر هلالية" في المسرح القومي بأمدرمان .
المطرب والملحن منتصر الهلالية
يأتي هذا الحفل على صدى إعلان منتصر الهلالية مسبقاً أنه سيتغنى فيه بأغنيات للمطرب الراحل مصطفى سيد أحمد ..... وهو الإعلان الذي أثار حفيظة البعض في مختلف الوسائط الإعلامية . وذلك على خلفية وواقع أن مصطفى سيد أحمد ولأسباب تتعلق بميوله السياسية ومعاداته للنظام الحاكم ؛ وإلى حين وفاته قد تحول إلى "قضية" يتقاذفها المعسكر الحاكم مع الطرف المعارض في الميدان الثقافي .
وكان من جراء ذلك التراشق نشوء معسكران ؛ كلاهما للأسف يعملان في الإتجاه السالب المفضي إلى دفن إنتاج مصطفى سيد أحمد الغنائي داخل العلب القديمة.
فمن جهة النظام الحاكم اليوم . ندرك جميعاً أن "الطيب سيخة" إنما هو الذي حوّل بعنفه المُبير وجبروته وقِصر نظره .. حوّل مصطفى سيد أحمد (دون أن يقصد) إلى كاريزما معارضة ، وضحية من ضحايا نظام الإسلام السياسي الحاكم .... ولفت إليه الأنظار في هذا الجانب حتى أصبح بطلاً و أيقونة من أيقونات الطرح السياسي المعارض بأدوات ووسائل الفنون الجماهيرية الرائجة وعلى رأسها الغناء.
...... وكان من جملة ما ترتب على ذلك هو مسارعة الأقلام في وسائل الإعلام المحسوبة على النظام الحاكم إلى ركوب موجة بث الكراهية تجاه مصطفى سيد أحمد ومحاصرة إنتاجه ، والحط من شأن تأثيره في ساحة الغناء .... واصدار أحكام مسبقة تسخر من محاولة منتصر هلالية إعادة تقديم بعض إغنياته للأجيال الجديدة.
ولكن ؛ وكالعادة فقد أتت مثل هذه المحاولات (الرسمية) فاقدة للروح والصدق وممجوجةً مكشوفة كدأب إعلام السلطة الغبي دائما ، فانقلب السحر على الساحر . وأصبح عكس ما يتمناه الطيب سيخة هو الحاصل .. فجاءت الثمرة إيجابية لمصلحة مصطفى سيد أحمد.
ثم أنه ومن الجانب الآخر ؛ فقد نشأ وتعاظم بدعم حزبي يساري مؤسسي ممنهج ... نشأ وتعاظم معسكر وتيار يصب في خانة تسييس إبداع وأغاني مصطفى سيد أحمد. وتفسيرها على نحو يعري ويفضح مقولات ومزاعم الجهاز الدعائي للنظام الحاكم وتنظيمه السياسي .....
وبغض النظر عما إذا كان تحميل إبداع مصطفى سيد أحمد الغنائي مقاصد سياسية وفلسفية قد جاء على نحو أكثر مما يجب . إلا أن الواقع هو ما جرى وكان .. وربما يحتاج الأمر إلى سنوات طويلة بعد زوال نظام الإنقاذ حتى يتمكن الناس من إعادة هذا الإنتاج الغنائي إلى مساره الفني الصحيح ؛ وتفسيره على بصيرة وأسس منطقية لا يلتحفها الإنفعال.
وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا المحمل الذي جرى فيه تصنيف أغنيات بعينها على إعتبار أنها سياسية المغزى وتشكل محاكمة للنظام الحاكم .... ومنها على سبيل المثال أغنية "يا خـائـن" التي تغنى بها إبراهيم عوض خلال حقبة حكم الفريق إبراهيم عبود . وجرى حظرها وملاحقة شاعرها ومطربها ؛ على إعتبار أنها كانت تغمز وتلمز من شخصية اللواء المقبول عضو المجلس العسكري الحاكم .
كذلك كانت أغنية "الساقية" .. الساقية لسا مدورة ... التي تغنى بها حمد الريح خلال عهد المشير جعفر نميري . وجرى حظرها .....
وينطبق الحال أيضا على أغنية "ضابط السجـن" التي تغنى بها عبد الرحمن عبد الله . وكاد أن يدخل بسببها السجن لولا مسارعته بالهجرة إلى ليبيا.
والشاهد أن هذه الأغنيات وغيرها قد فقد ألقه السياسي وتأثيرة فور زوال هذه الأنظمة الدكتاتورية والشمولية . وعاد مطربوها والناس يرددونها بوجدان عاطفي بحت.
وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا المحمل الذي جرى فيه تصنيف أغنيات بعينها على إعتبار أنها سياسية المغزى وتشكل محاكمة للنظام الحاكم .... ومنها على سبيل المثال أغنية "يا خـائـن" التي تغنى بها إبراهيم عوض خلال حقبة حكم الفريق إبراهيم عبود . وجرى حظرها وملاحقة شاعرها ومطربها ؛ على إعتبار أنها كانت تغمز وتلمز من شخصية اللواء المقبول عضو المجلس العسكري الحاكم .
كذلك كانت أغنية "الساقية" .. الساقية لسا مدورة ... التي تغنى بها حمد الريح خلال عهد المشير جعفر نميري . وجرى حظرها .....
وينطبق الحال أيضا على أغنية "ضابط السجـن" التي تغنى بها عبد الرحمن عبد الله . وكاد أن يدخل بسببها السجن لولا مسارعته بالهجرة إلى ليبيا.
والشاهد أن هذه الأغنيات وغيرها قد فقد ألقه السياسي وتأثيرة فور زوال هذه الأنظمة الدكتاتورية والشمولية . وعاد مطربوها والناس يرددونها بوجدان عاطفي بحت.
إبراهيم عوض
الذي ينبغي التأكيد عليه بقوة هنا هو أن منتصر هلالية ليس بصاحب أجندة أو ميول سياسية .... وأنه ليس بصائد حفلات ومرقص عرائس ومطرب أكل عيش .... ولكنه من الطبيعي أن يكون على دراية ووعي بما يدور حوله ... ولأجل ذلك نراه قد سارع إلى التأكيد في معظم وسائل الإعلام .... التأكيد على أنه إنما قصد من محاولته إعادة تقديم بعض أغنيات مصطفى سيد أحمد التعبير عن إعجابه وحبه الشخصي لهذا المبدع الراحل ....... واللبيب بالإشارة يفهم.
هذا المقال لا يتسول ويستجدي والصدقات للمطرب الشاب منتصر هلالية . فلهذا المبدع الملحن المطرب الشاب إبداع يحميه ويثريه .... ويحمله مضطردا على خطى ثابتة بتؤدة إلى القمة في سلم الغناء السوداني ؛ لما يمتلكه منتصر من رؤية واضحة ونظرة ثاقبة تجلت في حرصه على تقديم إنتاجه الخاص . وبما يحمله من رسائل متصلة بأحاسيس وقضايا جيله في قوالب من الألحان والجمل الموسيقية الحديثة الممتدة الواسعة المترعة بالثراء والصوت والأداء الصادق المفعم بالشجن...
وفوق هذا وذاك فقد جاء منتصر هلالية من ضفاف شرق النيل الأزرق وعلى مشارف البطانة يحمل بين جناحية حنان وشجن فياض ؛ ولا أشك مطلقاً في أنه في طريقه ليصبح المتمم لإبداع أسلافه الكاشف ومحمد وردي ومحمد الأمين في عالم الألحان والأداء والتعبير ... وأنه الوعد الجديد للأغنية السودانية الحديثة ونجمها الساطع بلا منازع.
تمتليء الساحة الغنائية بالتقليد والترديد والمحاكاة .... وهناك مطربون ظلوا يدورون في فلك الترديد لأغاني غيرهم بنفس أسلوب الأداء والألحان ، ولا يزالون على ذات النسق حتى بعد أن شابت رؤوسهم وبات الناس يخجلون لهم.
وهناك أكثرية من هؤلاء المرددين طرقوا أبواب مصطفى سيد أحمد ورددوا أغانيه ...... فلماذا والحال كذلك لم تقم الدنيا ولم تقعد إلا بعد أن أعلن منتصر هلالية رغبته في تخصيص حفله الغنائي هذا لتقديم أغنيات لمصطفى سيد أحمد؟
التفسير واضح ومنطقي ..... فهناك في المعسكران الموالي والمعادي لمصطفى سيد أحمد من يخاف أن يتسبب منتصر هلالية في إستدراج أغنيات مصطفى سيد أحمد إلى رحاب جديدة حرة ، ويمنحها بأدائه الشجي وموسيقاه المطورة بعداً غير الذي تدور في فلكه اليوم.
هذا التفسير يدعمه تقديم منتصر هلالية لأغنية "الشجن الأليم" بأداء وإثراء موسيقى وجمل لحنية ولزمات جديدة ملفتة مثيرة للشجن . تجاوب معها الجمهور داخل المسرح القومي بدهشة غير مسبوقة . تخلى فيها الرجال عن وقارهم ..... تثنت وتمايلت النساء والعـذارى على وقعها كتمايل أغصان البان الندية.
عارفني منك
لا الزمن يقدر يحول
قلبي عنـك
لا المسافة ولا الخيال
يبعدني منك
واقع الأمر فإن الذي نطلبه هنا هو تكريس "التوجه العام" بتحليل وتفسير أسباب هذا اللغط والجلبة التي أحدثها منذ البداية إعلان منتصر هلالية عزمه تخصيص هذا الحفل الغنائي لتقديم أغنيات مختارة من مصنفات مصطفى سيد أحمد ؛ سواء أكانت من أدائه أو إلحانه وأدائه معاً.
لماذا هاجت الكثير من الأقلام والأصوات المعادية لمصطفى سيد أحمد ؛ واعترضت على إعادة تقديم إنتاجه ؟
يحقد هؤلاء على مصطفى سيد أحمد لا لشيء سوى أنه قد إختار البقاء صامدا في معارضته وإنتقاده للنظام الحاكم ؛ ومارس هذا الصمود بعناد لم يثنيه عنه حتى يقينه التام بأنه سيفضي إلى وفاته صبراً جراء قلة الإمكانات المالية المتوفرة لديه لعلاج مرض الفشل الكلوي الذي أصابه.
وينشد هؤلاء من إعتراضهم أن يظل إنتاج مصطفى سيد أحمد حبيس العلب دون تجديد عل وعسى يعلوه الصدأ وتفتك به جرثومة الإغتراب ؛ وينتهي به المطاف إلى غياهب النسيان أو حتى حين على أقل تقدير.
وفي المعسكر الآخر ينشد هؤلاء أن تبقى أغنيات مصطفى سيد أحمد كما هي عليه من أسلوب وجمل لحنية غير مجددة حتى تظل معبرة عن موقف مصطفى سيد أحمد المعارض للنظام الحاكم ..
إنهم يدركون أن منتصر هلالية غير مقولب سياسياً ولا يحمل أجندة من هذا النوع ... .. وعليه ؛ يخافون أن تعصف وتذهب رياح منتصر هلالية بهذه الأغاني إلى معارج ومسالك عاطفية ووجدانية أخرى تنفي عنها بعدها السياسي المنطبع في أذهان الجماهير.
وبالجملة .. نستطيع الإستنتاج بأن رغبة منتصر هلالية في تقديم أغنيات مصطفى سيد أحمد ....... نستطيع القول بأنه قد تواطأ على عرقلة ومنع تنفيذ هذه الرغبة كلا المعسكران الموتور سياسياً من جهة .. والمتحفظ الموالي لمصطفى سيد أحمد من جهة أخرى على حـد ســواء.......
وما بين حراس المعبد و الراغبين في هدم المعبد إنحشر منتصر الهلالية مغلوباً على أمره .... ولا يسعنا في هذا المقام سوى الدعاء له بالقول "أعانك الله".
في اللقاء الذي أجرته معه مذيعة قناة النيل الأزرق . قال منتصر هلالية أن هناك جهات لم يرضيها إعلانه عن رغبته تخصيص حفله الغنائي هذا لإعادة تقديم أغنيات مصطفى سيد أحمد ... ولكنه كان مصراً على موقفه حتى لو إقتصر ذلك على أدائه أغنيتين فقط ... فكان له ولجمهوره ما أراد كحل توافقي على ما يبدو .... وأكمل منتصر هلالية المساحة الزمنية المخصصة للحفل بأدائه لبعض أغنياته الخاصة.
نحن هنا لا نتحدث عن فشل أو نجاح .. فمنتصر هلالية قد تجاوز مرحلة الإختبار منذ زمن طويل . ولم يعد هناك إثنان يجادل أحدهما أو كلاهما الآخر في موهبته وجماهيريته .... ولكن الذي لفت الإنتباه في ترديده لأغنية مصطفى سيد أحمد الخالدة "الشجن الأليم" .... الذي لفت الإنتباه أن منتصر هلالية قد أفلح في تقديم هذه الأغنية بأسلوب أداء جديد يلفه الشجن على خلاف مع الأسلوب الذي أدى به مصطفى سيد أحمد هذه الأغنية ؛ أداء مصطفى سيد أحمد الذي تميز بنبرات القوة والتحدي والتركيز والضغط على مخارج الحروف ... وعلى نحو ربما يكون هو السبب الأعظم في تحميل أغنياته محامل سياسية محضة.
أعاد لنا أداء منتصر هلالية إذن تلك اللمسة السحرية الرقيقة التي تميز بها أداء المطرب الظاهرة الراحل "محمود عبد العزيز" الذي تمكن من إعادة صياغة وإستنباط معاني ورسائل حديدة من خلال ترديده لبعض الأغنيات القديمة والحديثة على نحو من الصقل والمراجعة الوجدانية ؛ جعل معظمها يعيد طرق آذان الشعب السوداني وكأنه يستمع إليها لأول مرة في حياته.
رحل محمود عبد العزيز في الثلث الأول من مشواره الفني .... ونرجو أن يسد منتصر هلالية الفجوة ويملأ الفراغ . لاسيما وأن أداءه لأغنية "الشجن الأليم" تشير إلى أنه يحمل في دواخله قدرات متعاظمة تربأ به عن مجرد التقليد والترديد . وترفعه إلى مصاف تؤهله لإعادة تقديم العديد من الأغنيات الخالدة بأسلوب جديد ؛ يضيف إليها أبعاداً مفتقدة وجمل لحنية تبرز مواهب عازفين على آلات موسيقية حديثة لم تأخذ نصيبها المفترض لإثراء الموسيقى السودانية....
كذلك نرى لمنتصر هلالية حظوظا أوفر في جانب الألحان ؛ لما يتميز به من موهبة إبداعية في هذا الجانب حباه بها الله ـ لم يكن يتمتع بها محمود عبد العزيز رحمه الله.
وفي الختام ربما نكون قد إقتربنا بعض الشيء من الإجابة على تساؤلات تتعجب عن مسببات هذه المعارضة المحمومة ، والعراقيل الإستثنائية التي وضعها البعض أمام تنفيذ منتصر هلالية لحلمه الشخصي في إعادة تقديم أغنيات لمصطفى سيد أحمد بأداء مختلف وإثراء موسيقى يعرفه هؤلاء جيداً في ألحان منتصر هلالية.