قصـة ثورة 21 أكتوبر 1964م الشعبية
مصعب المشرّف:
20 أكتوير 2015م
(الجــذور والمــآلات)
هل كتب علينا أن نجتر كل عام ذكرى ثورة 21 أكتوبر 1964م المجيدة . ونتباكى على الماضي وحده . أم هل نستخلص من هذه الثورة الشعبية الدروس والعبر على أمل ورغبة جادة في إيقاف ساقية جحا هذه التي تدور فتملأ من النهر وتفرغ في النهر بلا طائل؟
تشييع جنازة المرحوم أحمـد القرشـي (رمز ثورة أكتوبر)
من المؤسف أن يقدّم الشعب التضحيات ويظهر البسالة والإقدام ، وهو عاري الصدور والأيدي خلال ثورة أكتوبر . ثم تنتهي هذه الثورة إلى واقع أن القوى التقليدية وحدها هي التي ترث في نهاية المطاف الحكم وتنعم بالثروة وفق اللعبة الديمقراطية ومخرجات صناديق الإنتخابات ما بين أغلبية مقاعد لحزب الأمة ، ومعارضة لحزب الوطني الإتحادي تارة ... أو بالعكس في حالة تحالف الوطني الإتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي تارة أخرى ،،،، وهلم جرا من تجمعات الطوائف .. ثم وليخرج بقية الشعب الثوار الأحرار من المولد بلا حمص ، ودون تمثيل حقيقي في مثل هذه البرلمانات الديمقراطية العرجاء التي تغلب عليها أحزاب العائلة الواحدة الطائفية. وغياب دستور دائم للبلاد منذ إستقلالها عام 1956م وحتى تاريخه.
وبعد كل تجربة ديمقراطية على علاتها . قد لا تمر سوى أربع أو ست سنوات حتى يكرر التاريخ نفسه دائماً . فيخرج المغامرون من وسط ضباط الجيش ليعيدوا الكرّة مرة أخرى بالإستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة ..... ويكون الذي يشجعهم ويستدعيهم طبقة من النخب المثقفة العقائديين الذين ييأسون من إمكانية الوصول لكراسي الحكم عبر صناديق الإنتخابات الحرة النزيهة . فينجح الإنقلاب أو يفشل لا يهم .... لكن تبقى الحقيقة الكارثية الماثلة في أن من يرفعون شعارات الديمقراطية ويحملون مشاعل الحرية وقيادة الثورات الشعبية وسط الشارع ؛ يصبح خيار هؤلاء المفضل لاحقاً هو تصعيد العسكر بإنقلاب ؛ والركوب إلى جوارهم بوصفهم سبيلهم الوحيد لتذوق طعم السلطة ، واللحس من عسل الثروة.
جميع الإنقلابات العسكرية الفاشلة منها ؛ أو التي أفلحت في الوصول إلى مقاعد السلطة مابين عامي 1958م و 1989م . كانت بتدبير ودعم وتحريض من النخب السياسية والمثقفة.
يأتون كل مرة بضابط مغمور أو مشهور . ثم يوهمونه على مر الأيام أنه نسيج وحده .... قائد الثوار الأحرار والزعيم العربي الهجين الجديد الملهم المنتظر ، وعبقري السودان المنسي والجدني المجهول يمشي على قدمين.
وهكذا ينغسل دماغ صاحبنا وينتفخ ويشمر عن ساعد البطش والتدمير . ويظل يعبث ويخرب لعدم درايته بأمور السياسة والحكم ... ولا يذهب إلا بعد أن يحيل البلاد إلى خرابة ينقع فيها البوم ويلمع في قيعانها السراب.
في 17 نوفمبر 1958م جاء اللواء إبراهيم عبود للسلطة على إثر إنقلاب عسكري بإيعاز من عبد الله خليل رئيس الوزراء آنذاك . أطاح بحكومة حزب الأمة التي كان هو نفسه على رأسها . وكان الهدف حرمان الطائفة الختمية من جني ثمار عمالتها لمصر بالتآمر على سحب الثقة من حكومته.
في 25 مايو 1969م جاء القوميون العرب والإشتراكيون والشيوعيون بالعقيد جعفر نميري. بعد أن صوت البرلمان (في اعهد الديمقراطية الثانية) بحـظـر نشاط الحزب الشيوعي وإغلاق مقراته في العاصمة والأقاليم.
في 30 يونيو 1989م جاء (الإسلام السياسي) خلف دبابة العميد عمر البشير بعد أن يئسوا من قدرتهم على الوصول إلى كراس الحكم عبر صناديق الإنتخابات ... وحتى يجهضوا توقيع إتفاق مبدئي بين محمد عثمان الميرغني و جون قرنق بشأن حل مشكلة الجنوب في إطار سودان موحد.
ولا ندري من أي مليشيا متمردة سيأتي (مستقبلاً) الزعيم الملهم المخرِّب القادم؟
..............
إذن تحل اليوم الإثنين 21 أكتوبر الجاري ذكرى أكبر ثورة شعبية سودانية نسبت إلى تاريخ 21 أكتوبر1964م كونه اليوم الذي شهد قمة أحداثها عندما تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة ؛ فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب. فتدخل أمن النظام وأدت الصدامات إلى مقتل إثنين من الطلاب كان أولهم الشهيد أحمد القرشي الذي أصبح ملهم الثورة.
ولهذه الثورة وقعها وصداها الخاص في ضمير الشعب السوداني باعتبارها اول ثورة شعبية بعد استقلال السودان عام 1956م تطيح بحكومة عسكرية وطنية هي حكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود ؛ الذي جاء إلى السلطة إثر إنقلاب عسكري أبيض في فجر يوم 17 نوفمبر 1958م لإنهاء صراع داخل الجمعية التأسيسية أبان العهد الليبرالي الأول بين أكبر حزبين متنافسين على السلطة في ذاك الزمان هما حزب الأمة الحاكم ؛ والحرب الوطني الاتحادي المعارض . وحيث كان حزب الأمة (ولا يزال) ممثلا لطائفة المهدية ذات التوجهات الوطنية الخالصة والرافضة لفكرة الوحدة مع مصر بأي شكل من أشكالها . في حين كان الوطني الإتحادي موالياً لطائفة الختمية الموالية بدورها لمصر وتتلقى الدعم والتمويل المالي منها منذ بداية الإحتلال المصري للسودان (عام 1821م) على عهد عائلة محمد إبراهيم أغا باشا (وهو إسمه الحقيقي ... وحيث أسهم موقف الطائفة الختمية المعارض للثورة المهدية .. أسهم على نحو واضح في إتساع الهوة بين الطائفتين لاحقا وإلى يومنا هذا.
وتعود اسباب تصاعد الصراع والخلاف في ذلك الوقت بين حزب الأمة من جهة وحزبي الوطني الإتحادي وحليفة حزب الشعب الديمقراطي من جهة اخرى . تعود إلى إعتراض حزبي الوطني الإتحادي والشعب الديمقراطي على الأسلوب (الوطني) الذي إنتهجه عبد الله خليل تجاه مصر بعد محاولة جمال عبد الناصر الفاشلة التسلل بجيوشه إلى داخل منطقة حلايب .
ومن ثم فقد سعت الطائفة الختمية إلى إسقاط وزارة عبد الله خليل ، بسحب الثقة عنها في الجمعية التأسيسية (البرلمان) ظهر يوم 17 نوفمبر 1958م وفق ما كان مؤملاً .
وكان نجاح الطائفة الختمية في إسقاط حكومة عبد الله خليل مضموناً .. فقد كان سحر أكياس الأموال التي جلبتها المخابرات المصرية للسودان ، ووزعتها الطائفة الختمية (بأمانة) على أعضاء البرلمان أمضى من كل عزيمة وطنية .
كذلك فقد كانت حاجة مصر لتوقيع السودان إتفاقية جديدة تسمح لها ببناء السد العالي ، ومكملة لإتفاقية عام 1929م بشأن تقسيم مياه النيل التي وقعتها بريطانيا نيابة عن السودان .. كان لها هواجسها الإستراتيجية لدى المصريين .. وكانوا لا يشكون في أن اللواء عبد الله خليل سيعارض ويرفض التوقيع على هذه الإتفاقية بشروطها المجحفة التي تكشفت فيما بعد .
وعلى أية حال نجح إنقلاب عبود الأبيض . وفرغ بسرعة من تشكيل حكومته العسكرية المطعمة ببعض الوجوه المدنية الموالية لمصر ... وكان ملحوظاً أن هناك أعضاء في المجلس العسكري موالون لمصر . ولا يخفون واقع إنحدارهم العرقي من صلب الشعب المصري.
والمدهش أن عبد الناصر الذي بدأ وكأنه الخاسر الأول من إنقلاب عبود في البداية ؛ إذا به يحول خسارته إلى (ربح العمر والعصر) بالنسبة له ولمصر ؛ حين استغـل تورط حكومة عبود في حرب الجنوب ؛ فأبدى وقـوفه (نظرياً) إلى جانبه . وقام معه بزيارة إلى بعض مناطق الجنوب الآمنة للدلالة على مناصرته له .
واعتقد عبود واهما أن موقف عبد الناصر الداعم له كفيل وحده بتعزيز موقف حكومته المتشدد تجاه متمردي الجنوب ؛ رغم أن مطالب هؤلاء في ذاك الوقت لم تكن بحجم وتعقيد ما صار لاحقا يعد وصول جعفر نميري للسلطة في 25 مايو 1969م ، ثم تمرد جون قرنق عام 1983م. وإنتهاءاً بنيفاشا وتقرير المصير والإنفصال.
وعلى اية حال فقد أخذ عبد الناصر من عبود كل ما أراد ويشتهي وأكثر ؛ سواء من حيث التوقيع عام 1959م على اتفاقية بناء السد العالي وإمضاء العمل بإتفاقية 1929م التي أكل الدهر عليها وشرب ، وقد نتج عن توقيع إتفاقية 1959م تهديد خطير للأمن القومي السوداني بإغراق مدن وقرى وادي حلفا السودانية .. وبالتالي إخلاء أقصى شمال السودان من السكان بالترحيل القسري وتدمير حضارتهم أساس إرتباطهم بالأرض. في حين لم تفي مصر بأية عهـود أو وعود قطعته للسودان . خاصة فيما يتعلق بتزويد السودان بالنسبة المتفق والمنصوص عليها (30%) من كهرباء السد العالي أو حرية السودان في إقامة مشاريع زراعية تعتمد على الري الإنسيابي من مياه النهر حسب ما يرغب جنوب بحيرة السد . فتعطلت بذلك العديد من مشاريع زراعية كبرى كان مخطط لإقامتها (آنذاك) في كنانة والرهد وسنار لزراعة قصب السكر وإنتاجه من أموال المعونات الأمريكية والغربية . وأقيمت عوضاً عن ذلك مصانع فاشلة مثل تعليب الألبان في بابنوسة ، وتعليب اللحوم واو .. إلخ . وكان على السودان أن ينتظر سنوات طويلة لتنفيذ مشاريع زراعية منتجة وذات جدوى في الرهد وسنار .. لكنها تم تنفيذها بقروض مستحقة الدفع مع الفوائد عوضاً عن أموال وهبات معونات غربية .
وكان من ضمن أهم نتائج إغراق وادي حلفا وتهجير سكانه السودانيين إلى منطقة خشم القربة ؛ أن حدث فراغ سكاني إستراتيجي خطير نجم عنه لاحقاً سهولة إحتلال مصر رلحلايب وشلاتين . وتمددها الإستيطاني تجاه جنوب بحيرة السد العالي . وإحتكارها صيد الأسماك في البحيرة . في الوقت الذي تصل فيه أسعار الأسماك داخل السودان إلى أرقام فلكية.
لقد غاب عن ذهن عبود ومجلسه العسكري أن السودان بالنسبة لمصر ليس سوى "ممتلكات تابعة" ..... وهناك فرق كبير بين أن إحساسك أن هذه الأرض ملك تابع لك .. وبين إحساسك أن تلك الأرض وطن لك .
وغاب عنهم أيضاً ؛ أن الإستراتيجية المصرية الدائمة ترى دائماً وأبداً أن لا تسمح بقيام أية دولة قوية في حوض النيل متاخمة لمصر تهدد مصالحها وحصتها الأوفر في مياه النهر . وأما خيار الحكومات السودانية المتعاقبة حيال مصر فلم تكن سوى إستراتيجية البلاهة المليودرامية المتجددة بوجه عام ..... وأن بعض الساسة لدينا يكتفون بتحقيق مصالحهم الخاصة وكفى . والتي تأتيهم على هيئة أموال وعقار ومومسات وراقصات وليالي حمراء وويسكي تدمنه النخب المتعلمة والسياسية الحاكمة لدينا.....
وبعد أن جاهر جمال عبد الناصر بالعداء للغرب والولايات المتحدة . وتحول بكامل مصر إلى الكتلة الشيوعية بقيادة الإتحاد السوفيتي . فقد راهن الغرب والولايات المتحدة على إستخدام "السودان" ورقة من أوراق الضغط على جمال عبد الناصر ... وتلقت حكومة الفريق إبراهيم عبود الكثير من المعونات والإعانات من الغرب . والتي كان من الممكن أن تحوله إلى دولة أفريقية عظمى في مجال الزراعة والإنتاج الصناعي الزراعي والرعوي .... ولكن بقي الفساد المالي والإداري من جهة .. وقلة التجربة والمعرفة ، وسوء التخطيط وإنعدام دراسات الجدوى من جهة أخرى .. ونزيف الحروب الأهلية من جهة أخرى .. والصراع السوداني السوداني لجهة الولاء التام والتبعية لمصر من جهة رابعة ..... بقي كل ذلك وغيره من فروع وتفاصيل العوامل المجهضة لأية محاولات سودانية للتطور واللحاق بركب الأمم حتى يومنا هذا.
والشاهد إن حكومة عبود قد شرعت وقتها في تنفيذ ما سمي بالخطة الاقتصادية العشرية والتي تميزت بمعالمها الراسمالية السافـرة ... ولكن وجراء الأسباب المشار إليها أعلاه فقد فشلت هذه الخطة .. وإنكشف نظام إبراهيم عبود عارياً من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه.
على سبيل المثال أضاعت البلاد مواردها في مصانع لم يتم التخطيط وإعداد دراسات الجدوى لها . ففشل مصنع تعليب اللحوم في واو (الجنوب سابقا) .. وتبعه فشل مصنع النسيج في أنزارا بالجنوب أيضا .. وكذلك فشل مصنع تعليب الحليب في بابنوسة .. وصناعة الكرتون في أروما (شرق السودان) ... وصادف مصنع إنتاج السكر في خشم القربة خسائر مزمنة ... وكذلك لم يكن مصنع إنتاج السكر في الجنيد يحقق أرباحاً في ذلك الوقت بسبب أن أسعار السكر المستورد كانت أرخص بكثير من أسعار المنتج محليا ....
كذلك لم تضع خطط حكومة إبراهيم عبود العسكرية في أولوياتها إنشاء مشاريع البنية التحتية المؤهلة لإنشاء المشاريع الزراعية الضخمة والمصانع ، من شبكات مواصلات وإتصالات وخدمات عامة ومعاهد زراعية وصناعية .. إلخ.
وهكذا تكشفت مهازل في مجال التنمية لم تكن تدور بخلد أحد ولا يمكن تصور فداحتها.
ولكن . وعلى نحو ظاهري هــش فقد ساهم الرخاء العالمي . وتدفق المعونات المالية المباشرة من دول الغرب . ساهم في الحفاظ على الحد من التضخم ... وظلت الطبقة الوسطى متماسكة واضحة الملامح ، ولها سطوتها ودورها الفاعل المناط بها في الحفاظ على نسيج المجتمع.
ولكن ما كان بالإمكان أن يستمر الحال على هذا المدى الهش من الإعتماد على المعونات الأجنبية . فقد بدأت تتزايد لاحقاً وتيرة ومعدلات البطالة وسط خريجي المدارس الوسطى والثانوية والجامعات أنذاك داخل المدن الرئيسية .. وحيث لم تكن ثقافة العمل في المجالات الأخرى غير المكتبية والإدارية قد سادت وسط شباب الخريجين أو يتقبلها المجتمع لأبنائه من الخريجين ...
وكذلك لم تكن الطفرة النفطية في دول شبه الجزيرة العربية قد بدأت بعد .... ومن ثم فام تكن ظاهرة الإغتراب متوفرة أو مطروحة كبديل للشباب آنذاك ، ولكونها تساهم في إزالة الإحتقان وتمنح بصيصاً من الأمل يأتي أو لا يأتي لا يهم .
كذلك لم تكن هناك تكنولوجيا رخيصة متوفرة ؛ تجعل بإمكان الشباب البحث عن سبل كسب العيش في التعدين عن الذهب.
كانت الدولة خلال تلك الحقبة ؛ هي المسئول الأول والأكثر أهمية وفاعلية في توفير فرص العمل.
ومن ثم فقد ترتب على هذا الواقع حالة شبيهة بتلك التي نطق بها القائد طارق بن زياد : "العدو أمامكم والبحر خلفكم" ...... وهكذا بدأ التململ يتسلل رويداً رويداً إلى الشارع والدم يغلي في صدور العطالى والطلاب ....
واختار نظام عبود العسكري الأسلوب الأمني في المجابهة . وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات والبطش والتنكيل في كاس واحدة؟
لم يترك نظام الفريق عبود العسكري السافر مجالاً للقوى الوطنية الناهضة . أو للأحزاب وخلفها الطوائف مجالاً تتنفس من خلاله .... فابتدأ المرجل يغلي والكيل يفيض.
وهكذا ... بدت الظروف والعوامل المتاحة لإندلاع ثورة شعبية تلوح في الأفق ... ولم يكن الأمر في حاجة سوى إلى إنطلاق الشرارة.
وعليه فإنه يمكن القول أن أهم الأسباب التي تحالفت فيما بينها وأدت إلى نشوب ثورة 21 أكتوبر 1964م كانت الآتي:
1) الكشف عن الظلم الفادح الذي تعرضت له مصالح السودان جراء توقيع حكومة إبراهيم عبود على إتفاقية عام 1959م بشأن السد العالي مع مصر . والذي كان من بعض خسائرها للسودان تشريد أبناء وادي حلفا جميعهم . وفقدان السودان لأراضيه بإمتداد 130 كيلومتر غرقت تحت مياه بحيرة السد بلا طائل.
2) إتباع حكومة عبود سياسة تكميم الأفواه منذ البداية ... فقد اعلنت حالة الطوارىء وحلت الأحزاب والنقابات . كما قامت بتعطيل الصحف ومنع أي نشاط سياسي . وفتحت ابواب السجون في وجه كافة الساسة والنقابيين المطالبين بالحريات السياسية وعودة الليبرالية إلى الساحة السودانية .. وأما حرية التعبير عن الرأي فقد كانت مرفوضة تماماً .. وإنتشر "البوليس السري" وسط العاملين وكافة قطاعات الشعب والأسواق . وكان مجرد الحديث الهامس المعارض لنظام الحكم في الونسات والجلسات الخاصة مدعاة للإعتقال والفصل من الخدمة...
وفي عام 1961م نلحظ أن المناهضة السياسية لنظام 17 نوفمبر قد شهدت أولى إفرازاتها التنظيمية على إثر تكوين (جبهة الأحزاب) التي ضمت حزب الأمة والوطني الاتحادي والحزب الشيوعي . وتكونت مثيلتها أيضا من الأحزاب السياسية في جنوب السودان (آنذاك) . وقد واجه نظام عبود تلك التحركات بحزم وعنف. وألقى القبض على العديد من رموز الحركة السياسية الحزبية وقتها .......
3) الفشل في إيجاد حلول سياسية لمشكلة جنوب السودان . والإكتفاء بمجابهة التمرد الجنوبي بالقوة العسكرية.
وحين استفحل الأمر وتطاير شرر الحرب إلى شمال وخارج السودان. وتناقلت وكالات الأنباء ما يجري في الجنوب ؛ عمدت الحكومة إلى تحاشي التسييس بتشكيل لجنة "تقصي حقائق" تضم في عضويتها بعض الموظفين الحكوميين من غير ذوي التوجهات السياسية ؛ ظناً منها بأن هذه الخطوة كفيلة بتبييض وجهها وغسل يديها دون أن تمنح فرصة للأحزاب السياسية الخروج بنقاط لمصلحتها . وتم إعلان تشكيل "لجنة الأفندية" هذه رسمياً في يوم 7 سبتمبر 1964م.
كان من بين ما إرتأته تلك اللجنة إقامة ندوات لجذب المثقفين إلى المشاركة بآرائهم . وكانت ابرز أماكن عقد تلك الندوات هو جامعة الخرطوم . ولكن سرعان ما ضاقت بها السلطة ذرعا وأصدرت في 10 أكتوبر1964 قراراً بوقفها نهائياً ....
لكن القرار على ما يبدو قد جاء متأخرا ، وبلغ السيل الزبى حين تقدم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بمذكرة للحكومة مطالبا السلطة العسكرية بالتنحي ؛ وكان رد السلطة السريع هو اعتقال أعضاء الاتحاد والزج بهم في السجن ... فتصاعدت وتيرة الأحداث والمظاهرات الطلابية مطالبة بإطلاق سراح أعضاء إتحادهم .
في يوم 21 أكتوبر 1964م .... تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة . فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب . فما كان من قوات الأمن إلا أن تدخلت مستخدمة الذخيرة الحية لفض الندوة بالقوة . فسقط جراء ذلك إثنين من الطلاب صرعى هما أحمد القرشي و بابكر عبد الحفيظ وجرح العشرات . وعلى إثر ذلك تقدم الأساتذة السودانيون في هيئة التدريس باستقالات جماعية معلنة أن لا عودة إلا بعد زوال نظام الحكم العسكري .....
وشهد يوم 22 أكتوبر 1964م تجمع الجماهير السودانية في الخرطوم لحمل جثمان الطالب أحمد القرشي من مستشفى الخرطوم للصلاة عليه ونقله إلى مسقط رأسه "قرية القرّاصة" ؛ حيث تحول هذا التجمع فيما بعد إلى مظاهرات عارمة اندلعت في العاصمة وشملت كل مدن السودان فيما بعـد.
وعلى ضوء نجاح الحشد الجماهيري للنزول إلى الشارع . أعلنت اللجنة المنسقة للثورة الشعبية العصيان المدني الذي شل حركة البلاد بأكملها . فأعلن الرئيس إبراهيم عبود في 26 أكتوبر1964م حل أعمدة السلطة آنذاك وهي المجلس العسكري ، ومجلس الوزراء ، والمجلس المركزي.
وبتاريخ 27 أكتوبر1964م تكللت المفاوضات التي جرت جوار قبة الإمام المهدي بأمدرمان بين كبار ضباط الجيش وممثلي الأحزاب السودانية . تكللت بالاتفاق على تكوين حكومة انتقالية مدنية ، عرفت فيما بعد بحكومة سر الختم الخليفة الأولى التي أعلنت يوم 30 أكتوبر 1964م .
كانت حكومة سر الختم الخليفة الأولى من الضعف بمكان . وبدأت عاجزة عن أية مبادرة خلا الأماني العذبة ، والإنشغال بالسهر حتى ساعات الفجر الأولى على طاولات القمار وقرع كؤوس الخمر التي كانت ملح ليالي المثقف والسياسي والمهني السوداني الرفيع تلك الأيام .
وسرعان ما جرى حل هذه الحكومة بعد مجزرة أمام أسوار القصر الجمهوري التي تسبب بها أحد ضباط الجيش من أعضاء مجلس الثورة المنحل ، وأودت بحياة 36 من المتظاهرين المطالبين باستقالة عبود من رئاسة الجمهورية.
على إثر تلك المجزرة قدم الفريق إبراهيم عبود إستقالته من الرئاسة . واحتفظ لنفسه بمنصب وزير الدفاع وقائد الجيش مؤقتاً حفاظاً على تماسك الجيش وأمن البلاد.
تلفت الناس حولهم ؛ فلم يجدوا أحداً يتفقون عليه . فجاءوا مرة أخرى بسر الختم الخليفة ليرأس ما عرف لاحقا في التاريخ السياسي السوداني بـحكومة (جبهة الهيئات) ... وسميت بذلك كونها قد ضمت ممثل للعمال وممثل للمزارعين وممثل لكل حزب من الأحزاب الرئيسية ؛ وهي حزب الامة ، الوطني الاتحادي ، الأخوان المسلمين ، الشيوعي ، الشعب الديمقراطي ... بالإضافة إلى ثلاثة ممثلين للجنوب ..
لكن سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء ؛ ليعلن سر الختم الخليفة حل هذه الحكومة وأعقبها بتشكيل ثالثة تنحى في ظلها الرئيس عبود عن جميع سلطاته بشكل نهائي ... وذهب ليقضي يقية عمره داخل بيته في سلام ......
والطريف أن التاريخ عاد وأنصف الفريق إبراهيم عبود ؛ كونه كان "نظيف اليـد" أميناً فلم تمتد يده إلى المال العام قط .. فسبحان الله الذي جعل من الأمانة ونظافة اليد لاحقاً ميزة نادرة في الساسة والمسئولين جديرة بأن يتوقف التاريخ كثيراً عندها ؛ رغم أنها كانت على أيام الفريق إبراهيم عبود وإسماعيل الأزهري من الأمور العادية والمسلمات في أخلاق الرجــل السوداني.
بعد تخلي إبراهيم عبود عن جميع مناصبة ومسئولياته ؛ أعقب ذلك حكومة رابعة أيضا برئاسة سر الختم الخليفة أيضاً ...
ولم تستقر الأوضاع السياسية في السودان إلا بعد 25/4/1965م إثر إعلان نتائج الانتخابات الديمقراطية التي فاز فيها حزب الأمة بخمسة وسبعين مقعدا ، وتلاه الحزب الوطني الاتحادي بعدد 54 مقعدا . وتقاسمت بقية الأحزاب المقاعد بأعداد ضئيلة كان أبرزها أحراز الحزب الشيوعي 11 مقعد ، والإخوان المسلمين 5 مقاعد.
أثر الخلافات الحزبية على إجهاض ثورة أكتوبر:
شهدت حقبة الديمقراطية الثانية التي إمتدت ما بين أبريل 1965م و مايو 1969م ... شهدت من الخلافات السياسية والطائفية بين الأحزاب الرئيسية الحاكمة ما جعل الشعب يكفر بمثل هكذا ديمقراطية ....
ففي داخل طائفة الأنصار التي يتبع لها "حزب الأمة" نشبت خلافات عائلية بين أحفاد الإمام محمد أحمد المهدي بسبب الطموح إلى "منصب الإمام" . وإلحاح الصادق المهدي أن يكون هو رئيس مجلس الوزراء ومعارضة عمه الإمام الهادي المهدي لمطلبه هذا بحجة صغر سن الصادق المهدي وقلة تجربته السايسية وقتها . وتفضيل الإمام الهادي بالتالي دعم محمد أحمد المحجوب لرئاسة الوزارة .... وهو ما تحقق بالفعل .. فكان أن جاءت ردود الصادق المهدي أشد إنفعالاً حين أعلن منازعته لعمه على منصب "الإمامة" . وهو ما أدى إلى إنشقاق حزب الأمة إلى قسمين "حزب الأمة جناح الهادي" و "حزب الأمة جناح الصادق".
في معسكر حزب الوطني الإتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري المنافس الرئيسي لحزب الأمة .. فقد واجه الحزب إنقسامات ساهمت فيها تدخلات السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية آنذاك . خاصة فيما يتعلق بمحاصصة المناصب الوزارية والتنفيذية العليا.
وكذلك كانت مشكلة حاجة الحزب الوطني الإتحادي الملحة للتمويل المالي سببا في إضطرار زعيمه إسماعيل الأزهري إلى التسليم بالشراكة "البغيضة" مع حزب الشعب الديمقراطي برئاسة القاضي الشرعي علي عبد الرحمن . وقد كان حزب الشعب الديمقراطي هو الجناح السياسي للطائفة الختمية. وكان موالياً على طول الخط لمصر.
فكان أن نشب الخلاف بين أقطاب حزب الوطني الإتحادي جراء موافقة إسماعيل الأزهري على الإتحاد (تحت مظلة الختمية) مع حزب الشعب الديمقراطي ..
وغلب في النهاية تيار الأزهري على غيره من شركائة المعارضين فتم الإندماج وتحول إسم الحزب رسميا إلى "الحزب الإتحادي الديمقراطي" برئاسة الأزهري ونائبه علي عبد الرحمن .... وهو ما أدى إلى إنسلاخ طائفة الشريف حسين الهندي عن الحزب وخروج العديد من رموز الحزب عن عضويته ، إو إعتزالهم الحياة السياسية.
وقد كان من أكبر الأخطاء التي جرى إرتكابها في تلك الفترة من العهد الديمقراطي هو تآمر الصادق المهدي وحسن الترابي لدفع البرلمان لإتخاذ قرار بحل الحزب الشيوعي وتعديل الدستور لطرد نوابه العشرة من البرلمان .. وهو ما تم في جلسة البرلمان بتاريخ 25/11/1965م. فكان صدى ذلك مدوياً . وأفقد تجربة الأحزاب في مجال ممارسة الديمقراطية مصداقبتها ..... وأدى في نهاية المطاف إلى تحالف الشيوعي مع القوميين العرب وتنظيم الضباط الأحرار بقيادة العقيد حعفر نميري . فكان إنقلاب 25 مايو 1969م.