لماذا يغير بعض العرب من السوداني في الخارج؟
مصعب المشرّف
28أبريل 2015م
الصورة الأصلية (يمين) .. والمغشوشة (يسار)
فجأة وعلى غير ميعاد تداولت مواقع الإنترنت والتواصل الإجتماعي العربية صورة غريبة من نوعها مفبركة على طريقة الفوتوشوب ؛ تظهر مواطن سوداني مغترب بالزي الوطني (الجلباب والعمامة) يستلقي نائما على أرض مطار دبي ، وأمامه صف "واقـف" من الوافدين العرب للعمل.
إن أكبر دليل على فبركة هذه الصورة هو أن سلطات المطار في دول الخليج كافة لا تسمح للمسافر بأن يستلقى لينام بهذه الطريقة على الأرض ..
إن الذي يمعن التأمل في هذه الصورة الحاقدة المغشوشة يلاحظ أن الأشخاص الواقفين في الصف لا ينظرون إلى الشخص المستلقي تحت أرجلهم .. ..
وقد أفلح بعض النشطاء من الشباب السوداني في مواقع الإنترنت من فك شيفرة رابط هذه الصورة المفبركة ؛ والحصول على الصورة الأصلية ؛ ثم نشرها في مواقع التواصل الإجتماعي .
على أية حال فإن العقدة التي يعاني منها بعض الوافدين العرب للعمل (مصري فلسطيني سوري أردني لبناني .. إلخ) تجاه السوداني في دول الخليج العربي الثرية ملحوظة ومرصودة .... ولكنها اليوم أصبحت تحتاج إلى تحليل وتفسير أوسع. بعد أن فعل نشر الصورة المفبركة المشار إليها فعل السحر في رفع درجات سخط وشجب الشباب السوداني لهذه الظاهرة الغير مبررة.
إن أبواب الرزق والعمل في دول الإغتراب والمهجر الجاذبة . (ومن بينها دول الخليج العربي الثرية) لا أعتقد أنها مفتوحة للكسالى ؛ بقدر ما أنها متاحة لكل وافد مؤهل وملتزم بأداء واجباته الوظيفية على أكمل وجه.
إذن كان ولايزال الهدف من فبركة هذه الصورة بتقنية الفوتو شــوب هو تنفيس عن غيرة وحسد تجاه المواطن السوداني . الذي جاء مثله مثل غيره من فقراء العرب المصريين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين واليمنيين .. إلخ . للعمل وإكتساب الرزق الحلال في دول الخليج العربي البترولية الثرية .
مشكلة العرب الوافدون للعمل في الخليج أنهم يستخسرون على السوداني وضعه المميز لجهة الوظيفة والمهنة ، والتقدير والحفاوة والإحترام الملحوظ من جانب الإنسان الخليجي العربي ؛ سواء أكان هذا الوافد السوداني أستاذ عام أو جامعي ، أو مدير أو طبيب أو مستشار قانوني أو مهندس ومترجم .. وحتى راعي الأغنام والغفير .
وكـأنِّي ببعض هؤلاء الحاسدون لا يتوقعون من السوداني سوى أن يعمل بـوّابـاً (على طريقة السينما المصرية) ؛ وغير ذلك من أشكال وأنواع المهن والحرف البسيطة والهامشية ... وأن لا يكون موقعه سوى قاع المجتمع ، ومنزويا في الأزقة الرطبة والطرقات والشوارع الخلفية.
هناك إنطباع خاطيء انغرس في مخيلة عامة العرب بأن السوداني لا يصلح سوى للعمل بواب ؛ وأنه يعاني من المجاعة... والحروب الأهلية ... وأنه كسول كثير النوم ... وجميع هذه الصفات وأكثر كرستها السينما المصرية طوال عقود منذ نشأتها قبل مائة عام أو يزيد.
ولايسعنا هنا سوى الإشارة إلى مقولة (كما تدين تدان) .. فمثلما نعى علينا بعض الإخوة كثرة حروبنا الأهلية والمجاعات . فقد وقع هؤلاء في نفس المهلك .. وأصبحت الحروب الأهلية والمجاعات وصناعة الإرهاب إفطار وغذاء وعشاء معظم الدول العربية اليوم.
العلاقة بين مصر والسودان مرت خلال العصر الحديث بعدة مراحل ؛ قد يكون في إيضاح أبرزها نوع من التقريب بما يفسر مرجعية هذا التحليل:
1) في عام 1821م إحتلت جيوش الخديوية المصرية السودان . وتم ضمه رسميا لأملاك الخديوية المصرية بموافقة الباب العالي ... وكانت الأهداف الأبرز من هذا الغزو والإحتلال السيطرة على منابع النيل ، فتح طرق آمنة لتسهيل تجارة الرقيق من أفريقيا إلى بلاد الغرب والشرق ، وتعزيز جيوش محمد علي باشا بجنود شرسة لتلبية طموحاته في إحتلال الجزيرة العربية ، ووضع اليد على مناجم الذهب في منطقة بني شنقول شرق السودان.... وقد إستمر حكم الخديوية المصرية للسودان حتى يناير 1885م.
2) في يناير 1885م تم تحرير السودان بحد السيف ومشاعل النار من حكم الخديوية المصرية ؛ على يد ثوار سودانيون معظمهم طلاب علوم دينية (على شاكلة طالبان اليوم) بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي رضي الله عنه . الذي أعلن قيام الدولة السودانية الإسلامية الموحَّدة لأول مرة.
3) في عام 1898م تم إعادة إحتلال السودان على يد الجنرال البريطاني كتشنر .. وكان ذلك بإتفاق ثنائي بين بريطانيا والخديوية المصرية . وجرى إعلان ما سمي بإتفاقية الحكم الثنائي (البريطاني/المصري) للسودان.
4) في نوفمبر 1924م جرى (في محطة مصر للسكة حديد) إغتيال السير لي إستاك حاكم عام السودان ؛ وهو يهم بركوب القطار متوجهاً من القاهرة إلى الخرطوم ... فإتخذت بريطانيا قرار من جانب واحد بالإنفراد بحكم السودان ؛ ووافقت عليه مصر لاحقاً بشكل رسمي .
5) في يوم 19 ديسمبر 1955م ؛ جرى التصويت وإعلان إستقلال السودان من داخل البرلمان السوداني.
6) في 1 يناير 1956م تم الإعلان رسمياً عن إستقلال السودان.
الإمام محمد أحمد المهدي رضي الله عنه
لم يكن السودان جزءاً من مصر أو تابعاً لها في يوم من الأيام ..... ولكن الشاهد أن العقلية المصرية لم تتقبل بوجه عام فكرة إستقلال السودان عن مصر .
ومنذ ذلك التاريخ ؛ وعلى وقع ذلك الحدث الذي اعتبره المصري بمثابة "إنفصال" للسودان عن مصر .. ما فتئت كافة الأعمال المصرية الأدبية والسينمائية ، والمنتجات والمصنفات الفنية والإعلامية الأخرى تحرص على تقديم المواطن السوداني في صورة البواب والكسول والأحمق وغير المتعلم .. إلخ من كل ما يمكن وصفه بإستراتيجية ممنهجة هدفها " التقليل " من قـدر الإنسان السوداني ... والحط من شأنه ... وغرس الإنطباع بأنه غير مؤهل لحكم نفسه بنفسه... وأن مكانه الطبيعي هو "البدروم" وأسفل السِـلِّــم .. أو أن يعيش على الفتات وسط الحُـفَــر.
دور الإعلام المصري السلبي في إقامة الحواجز النفسية ... وبذر أسباب الخلافات والأحقاد والضغائن البينية في المجال القومي العربي ليس بجديد .... لا بل ونراها أضرت بمصر نفسها قبل غيرها من الشعوب العربية المستهدفة خاصة.
وإذا كان بعض العرب يوجهون أصابع اللوم (اليـوم) للإعلام المصري . ويصفونه بالفرعنة والسطحية ، وأحادية المأخـذ والفكرة والعرض والتبرير . وأنه يمارس (بتهريج) دور سلبي فاعل في التحريض وبث الفرقة في كل مناسبة وحادثة ، وإختلاف في الرؤى ووجهات النظر ... فإنه من جانبنا لا نرى نحن السودانيين في توجيه هذا الإنتقاد واللوم والتقريع بجديد ... فقد كنا أول من إكتوى بناره .... وكنا أول من حذرهم منه ونصحناهم بتوخي الموضوعية في الحكم على قدرات الغير... وعدم بخس الشعوب الأخرى أشياءهم.
لقد أسهم هذا الإعلام البليد في تشويه العلاقة بين الشعبين السوداني والمصري منذ عام 1881م ... وحولها إلى متلازمة من عدم الثقة والشكوك في صدق النوايا ... ولايزال الرأي العام السوداني يوجه لهم أصابع الإتهام بالرغبة المرضية في "المصادرة" .... و "الوصاية" .... أو فليكن "تكسير العظام" من جانبٍ واحد.
على اية حال ؛ فإن الذي ساعد الإعلام المصري الرسمي على تكريس مثل هذا الإنطباع السلبي عن الإنسان السوداني في ذهنية الشعب المصري خاصة والمواطن العربي عامة ؛ هو أن مصر ظلت طوال الفترة التي إمتدت من بداية الإنتاج السينمائي المصري الذي يؤرخ له في يونيو 1907م وحتى تاريخنا المعاصر .... ظلت تحتكر الإنتاج الأضخم في صناعة السينما العربية .. ثم كانت إلى عهد قريب تحتكر إنتاج المسلسل التلفزيوني العربي قبل أن تنافسها سوريا والكويت..... كذلك كان الحال في الصحافة المقروءة ... ولكن الحال تغير وانقلب كل شيء رأساً على عقب ؛ منذ بداية الطفرة النفطية .. مروراً بالفضائيات التلفزيونية ... وإنتهاءاً بثورة المعلوماتية... فتنوعت المصادر وانداحت الموضوعية والشفافية .... وبذلك زال الإحتكار الإعلامي من على وجه الأرض قاطبة إلى غير رجعة.
نسلم بالقول إذن أن الإعلام المصري الرسمي ؛ وفي ركابه السينما المصرية قد فعل المستحيل (بعد إختيار السودان حق تقرير مصيره بنفسه) لتكريس مزاعم بأن السوداني غير قادر على إدارة شئونه بنفسه .. وأنه يظل الخاسر الأكبر جراء قراره الإستقلال .. وحيث لا تزال الدولة المصرية حتى يومنا هذا تسعى في كل المحافل العربية والعالمية للإنفراد بمصير السودان بإعتباره حديقتها الخلفية .... فلا يكون أمنه إلا من خلال القاهرة .. ولا يكون الإستثمار فيه والتنمية إلا عبر القاهرة ..... مـــــاذا وإلاّ.
وأما المنطلق الإستراتيجي من كل ذلك ؛ فهو أن الدولة المصرية تعتبر "مسألة السودان" بمثابة ملف أمني بالغ الحساسية ؛ لجهة أنه المعبر لمياه نهر النيل سبب الحياة فيها .. وبالتالي فلا مناص من أن يكون إزدهار السودان بقدر .. وأن يكون نهوضه بقدر .. وأن مصر بالجملة إذا تركت السودان في حاله فهو لن يتركها في حالها .. فـمد السودان هو إنحسار لمصر . وإمتلاكه لأسباب القوة بأشكالها تهديد مباشر لأمنها الحيوي ؛ وإحتفاظها مطمئنة بحصتها المتفق عليها (وزيادة) في مياه النيل.
الملفت للنظر والإنتباه في ردود أفعال المثقفين من أبناء الشعب السوداني إزاء الفوتوشوب الذي روجته أيدي خفية للسوداني النائم ... الملفت أنهم جميعهم توجهوا بأصابع الإتهام مباشرة نحو الدولة المصرية – وبالإمكان مراجعة التعليقات المكتوبة في مواقع الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الإجتماعي حتى يتبين للقاريء ذلك -..
ومن ثم فإنني أحرص على التنبيه هنا إلى مدى خطورة نشر وتداول مثل هذه الصور المفبركة ؛ كونها تؤدي إلى تعميق الخلافات والتوجسات بين أبناء الشعوب العربية التي تجاور حدودها السياسية بعضها البعض على نحو خاص... ثم أنها لا تفيد في شيء .. ولن تكون سبباً في تغيير واقع معاش في ظل ميثاق الأمم المتحدة.
وبتسليط الأضواء على نحو أكثر تجاه أسباب ومكامن الغيرة والحسد (العام) تجاه المغترب السوداني العامل في دول الخليج العربي . نفيد أنه وعقب الطفرة البترولية وتوافد العرب من كل حدب وصوب تجاه دول الخليج العربي للعمل فيها وكسب الرزق . فقد كان بالضرورة أن يحتك هؤلاء القادمون من كافة الدول العربية التي توصف بأنها طـاردة .. كان بالضرورة أن يحتك هؤلاء ببعضهم وبرصيفهم السوداني في العمل والسكن والأسواق . وليجدوا فيه الأستاذ الموهوب ، والمدير الخلاق ، والمستشار والطبيب العام والمتخصص ، والمحامي والمهندس والمحاسب ، والفني والعامل الماهـر في شتى المهن الصناعية والزراعية والحرفية ....
ثم ولأسباب أخرى متشابكة من أبرزها تحلي السوداني بصفات محببة لدى المواطن المدني والبدوي من أبناء دول الخليج العربي ؛ مثل الصدق وحفظ الجميل ، والمروءة والأمانة والعفة والنزاهة ، والإخلاص والتفاني في العمل .. وقـلة الكلام والتضجر والشكوى والتأفف ... ثم والتواضع والبساطة والتلقائية .... والشجاعة في الحق . فقد تم تقريب السوداني في كثير من المواقع والمؤسسات الإقتصادية والخدمية الجادة الحساسة ... وأفردت لهم كراسي الإدارة العليا والوسطى بلا منازع ... وجرى إئتمانهم على الأموال والثروات والممتلكات وحتى الأعراض بأنواعها في المدن والخـلاء والمراعي.
وحيث تجدر الإشارة بهذه المناسبة ؛ أنه وفي تقرير هو الأحدث من نوعه فقد جاء المواطن السوداني الوافد للعمل في السعودية على رأس قائمة الوافدين الأقل إرتكاباً للمخالفات والجنح والجرائم.... وحيث تظل أمانة السوداني وعفته مضرب الأمثال أينما ذهب وحيثما حل .
وربما لو لم يكن السودان قد سبق ومنح الجنسية السودانية وجوازات السفر لبعض اللاجئين من مواطني ومواطنات دول أفريقية أخرى مجاورة وعلى رأسها أثيوبيا وأرتريا والصومال لأسباب إنسانية وغيرها .. لربما وصلت نسبة ومعدلات أمانة السوداني وعفته وطهارته إلى درجة الإعـجـــاز البشري.
من جهة أخرى نلحظ أن مهارة وكفاءة الوافد السوداني للعمل في منطقة الخليج قد كان لها السبب المنطقي العملي في إنفراده بالكثير من المزايا التي حسده عليها رصفائه من بعض الوافدين العرب..
عقب عام 1973م الذي إرتفعت فيه أسعار البترول العربي .. وتزايد معدل النمو الخرافي في هذه الدول الخليجية ؛ وبما عرف لاحقا بمصطلح "الطـفرة النفطية" ... الذي فرض أشكالاً متعددة من الإتصال والتواصل مع الدول الغربية الصناعية ؛ والعديد من دول العالم عامة ونمور آسيا خاصة . فقد برزت الحاجة الماسة إلى كوادر عربية تتقن اللغتين العربية والإنجليزية معا .. ولم يكن متوفراً وقتها من بين كافة أبناء الدول العربية من يتقن هاتين اللغتين تحدثا وكتابة سوى السوداني والفلسطيني واللبناني لاغير..... ولكن أعداد السودانيين كانت أوفر بسبب أن التعليم النظامي والتربوي السوداني كان معظمه باللغة الإنجليزية مع الإحتفاظ باللغة العربية والتربية الإسلامية كمواد أساسية ... ثم لتعدادهم السكاني الذي بلغ خلال تلك الفترة 30 مليون نسمة.
ومن ثم ؛ يحق لنا هنا أن نتساءل لماذا تحرص السينما المصرية على تقديم السوداني في شخصية البواب الأبله الأحمق الكسلان فقط ؟
أين هي صورة السوداني الذي أسس مملكة وحضارة "نبتة" ، وهب ّلاحقاً بقيادة "بعنخي" لتوحيد مصر (عام 715 ق.م) التي تفككت إلى أكثر من 20 إمارة ..
ثم أين هو السوداني الذي دافع عن مصر بقيادة الملك "ترهاقا" في مواجهة الآشوريين (669ق.م) حتى طردهم ؟
الملك السوداني "تـرهـاقا" - مملكة نبتة
أين هو السوداني الذي تخلى لشعب مصر طواعية عن مدن وقرى وأراضي زراعية وآثار لا تقدر بثمن غمرتها مياه بحيرة السد العالي بطول 130 كيلومتر داخل أراضيه؟
.. ولولا ذلك لما كان بالإمكان قيام السد العالي.
لا بل وأين صورة السوداني الجندي الذي دافع عن شرف مصر على خط قناة السويس بعد هزيمة يونيو 1967 ؟
في استقبال جمال عبد الناصر بالخرطوم (مؤتمر الصمود)
وأين هو السوداني الذي آل على نفسه جمع الصف العربي وتوحيده في الخرطوم بعد هزيمة يونيو 1967م وبما عرف لاحقاً بمؤتمر الصمود العربي ؟
لمـاذا يتنكر الإعلام المصري للجميل ؛ وينسى أفضال شعب السودان وتضحياته لأجل مصر على مر العصور؟
لماذا يقف الإعلام المصري هذا الموقف تجاه السودان ؛ وعلى طريقة الكلب الذي إن حملت عليه يلهث أو تتركه يلهث؟
من بين التعليقات التي شارك وساهم بها أبناء السودان في معرض ردود أفعالهم على هذه الصورة المفبركة . لفت نظري قول أحدهم :
- أن هناك حاقدون من دولة عربية مجاورة ؛ يستغلون في السوداني تواضعه في التعامل وبساطته في الهيئة والملبس وعفويته في علاقته مع الآخر ... وجنوحه للسلم والموادعة . فيجعل هؤلاء الحاقدون من كل هذه الطباع السودانية الفطرية مدخلاً للسخرية من السوداني . وإلصاق قبائح الصفات فيه.
الأمثلة على تواضع السوداني لا حد لها ولا فاصل ... وهذا التواضع يظل "ثقافة" و "سُـنّـة" سودانية قد لا يعيها ولا يتفهمها ويحسن تقديرها وإحترامها ، والتعاطي معها سوى السوداني نفسه... ولن تجدوا لسنة السوداني في هذا المقام تبديلا.
حكى لي أحدهم أن هناك مستشفى متخصص ضخم في إحدى الدول الخليجية العربية الثرية . ممتاز السمعة ، وعلى قدر إستثنائي ملحوظ من كمال الإنضباط . يديره أخصائي جراحة سوداني ؛ كان يعمل أستاذا في جامعة الخرطوم بدرجة البروفيسور .. ولكنك إذا صادف وشاهدته متجولاً يتفقد مسار العمل (بمفرده) داخل ممرات هذه المستشفى وبين طوابقها المتعددة ؛ يحترم الصغير قبل الكبير ، ويعامل مرؤوسيه سواسية كأسنان المشط . ويلقي السلام والتحايا على هذا وذاك .... لو كنت رأيته لحسبت من الوهلة الأولى أنه باشتمرجي أو طبيب إمتياز في أفضل الأحوال.
ثم أردف محدثي ضاحكاً:
- لو كان ده واحد تاني من البلد الفلاني ؛ لكان يمشي في الأرض مرحاً منتفخ الأوداج مصعراً خدّه للناس ، ويزهو بريشه كالطاؤوس وسط شهود من أهله ؛ وحاشية تسعى بين يديه وتهرول خلفه ..... وحتما لن يرد عليك السلام إذا حييته بتحية ؛ ناهيك أن يبادرك به .
نعم ؛ الفرد السوداني يعي ويدرك كل هذا . وبإمكانه أن يفعل مثله وأكثر منه زهواً وخيلاء .. ولكنها ليست ثقافته ولا مزاجه .. وهو لن يتغير بتغير الظروف والأحوال ..
ولأجل ذلك فإننا نرغب دائما أن يرتفع الكثير من العرب إلى مصاف الشخصية السودانية ، ويحسنون تفهمها فلا يبخسونها أشياءها ... وإنها وإن كانت متواضعة تلقائية بسيطة حليمة ، مترفعة عن الصغائر وتوافه المظاهر؛ إلا أنها ليست بوضيعة أو قابلة للإستهتار وتقليل القـدر بأية حال من الأحوال.
ويبقى بعد كل هذا هو التساؤل عن ماهية العقلية العربية .. وما هي مساهماتها في مجال التكنولوجيا والصناعة حتى اليوم؟
من أي المنطلقات الإنتاجية والتكنولوجية يسخر بعض العربي من السوداني؟
من العبث السخرية من المواطن السوداني ظلما . وبهتانه بالكسل وعدم الإنتاجية في الوقت الذي خرجت به الدراسات والأبحاث الحديثة عن حقيقة مفادها أن معدل إنتاجية العامل الآسيوي تبلغ 16 ضعف معدل إنتاجية العامل العربي ....
وحيث لم نسمع حتى تاريخه بشعب عربي صنع صاروخا ومسدسا ودبابة وسيارة وحاصدة زراعية وتراكتور .. أو حتى إبرة ولمبة جاز وورق وأقلام حبر جاف أو رصاص ... فجميع الصناعات العربية حتى يومنا هذا تظل "صناعات تحويلية" و "فابريقة" أجنبية الأصل غير موطّنة.
عن أي كسـل وتراخي ، وعشق للنوم خصوا بها السوداني وحده بينهم ، يتندر أمثال هؤلاء الحمقى ويشيعون؟
من الطريف أن بعض هؤلاء العرب يسخر من السوداني عبثاً ؛ في الوقت الذي يستورد فيه هذا العربي سرواله وطاقيته وعصاته ومسبحته وسجادة صلاته من الصين .. ناهيك عن المايكرفون والسماعات ، ومنابر مساجده وفوانيس رمضان التي يستوردها هي الأخرى من الصين ..... وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى .. وحيث وصل الإستيراد إلى سلعة القمح ... والفول المدمس.