"إحترامــي للحـَــرامِي"
مصعب المشرّف
5 يناير 2015م
قصيدة الأمير عبد الرحمن بن مساعد آل سعود بعنوان " إحترامي للحرامي" ؛ والتي قيل أنه كتبها عام 1998م .. هذه القصيدة ظلت متجددة شابة كأنها تكتب من جديد كل يوم .
ولا تزال هذه القصيدة تلاقي صدى وإستحسانا منقطع النظير في كافة أنحاء العالم العربي ، ولما جاءت تحمله من جديد معالجة ساخرة لظاهرة بات الناس في حيرة من أمرها. وهي إقبال شرائح واسعة على التكسب والثراء الحرام من الوظيفة العامة والخاصة على حد سواء. دون أن يطرف لها جفن أو يصدها وازع من ضمير. وبلا مخافة من عــذاب قـبــر وجهنم اليوم العظيــم ؛ يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.
يقول مطلع هذه القصيدة العامية:
إحترامي للحرامي
صاحب المجد العصامي
صبر مع حنكة وحِيطة
وابتـدأ بسرقة بسيطة
وبعـدها سرقة بسيطة
وبعـدها تعـدى محيطه
وصار في الصف الأمامي
++++++++++++++++
عنوان هذه القصيدة "إحترامي للحرامي" إنما جاء من باب "المدح الذي يراد به الذم" .... وبالتالي فإن المعنى الذي أراد الشاعر إيصاله إلى المتلقي إنما هو "إحـتقـاري للحرامي".
تأتي " ظاهرة السرقة " كعنوان كبير تكتنفه عديد من التفاصيل لطرق وسبل التربـح والثراء الحرام من التجارة والوظيفة الحكومية ، والإنابة البرلمانية ؛ أو في قطاع البنوك والشركات ... ثم وهناك سرقات أخرى بعضها أشد وأنكى مثل سرقة أموال الزكاة ، وأكل أموال اليتيم والسفيه والضعيف . والتلاعب في الأوقاف.
واقع الأمر فإن ظاهرة التاجر والمسئول والموظف الحرامي ذكرا كان أم أنثى لاتقتصر على عصر محدد . فهي قديمة قدم الزمان .... والدليل على ذلك أن الكتب السماوية والرسل والأنبياء على مر العصور إستهجنوها وحاربوها وحذروا منها لما يؤدي إرتكابها للتعرض إلى إنتقام الله في الدنيا وعذابه في الآخرة ؛ كونها جريمة مركبة ترتبط بحقوق الناس ، ويدفع ثمنها كافة أفراد المجتمع.
سرقة التاجر معروفة وتدور أغلبها في التهريب والإحتكار ؛ وإخفاء السلع والسحت ودفع الرشى ، والغش التجاري . والتلاعب في الأسعار والعملات الحرة بالبيع والشراء في السوق السوداء.
وسرقة المقاول والمتعهد لا تخفى على أحد هي الأخرى . وليس أقلها الغش والتلاعب في المواصفات ، ودخول المزادات والحصول على العطاءات بطرق ملتوية... وحيث تكاد "الرشوة" تشغل 90% من لوازم أنشطة معظمهم.
سرقات الموظف تتعدد هي الأخرى بحكم منصبه ما بين الإختلاس والعمولة والتزوير والشراكة النائمة . وإستغلال النفوذ وقبض الرشى .. وفرض الأتاوات ... ومختصر جميع ذلك يشار إليه بمصطلح التربُّـح الحـرام والثراء الغير مشروع من الوظيفة.
وأما سرقة المال العام بمعناها العريض ؛ فهي ظاهرة وجريمة يشارك فيها الكافة .. الفقير والغني .. منهم من يرتكبها بحسن نية وجهل . ومنهم من يرتكبها بسوء نية وعن بصيرة ....
وبإختصار فإن جريمة سرقة المال العام وفق معناها الشامل تتكامل أركانها لمجرد أن يأخذ الفرد أو يحوز ويختص لنفسه سائل أو منقول أو ثابت من أملاك الشعب (الدولة) العامة ؛ دون ترخيص قانوني من ولي الأمر... ويقصد بولي الأمر هنا المسئول على إختلاف مسمياته ودرجاته في السلطة .
ويجب التركيز هنا على مصطلح ترخيص (قانوني) .. لأن بعض المسئولين يمنحون رخصاً للغير بالتصرف في المال العام المملوك للدولة كالأراضي الفضاء والزراعية والسكنية ، والإعفاءات من دفع المقابل النقدي والرسوم والجمارك بدون وجه حق أو سند قانوني يسمح بتكافؤ الفرص ؛ وإنما لغرض المحاباة والعنصرية أو قبض عمولة .. إلخ.
وعادة ما يستصغر البعض حقيقة إرتكابه لسرقة المال العام أو تبديده ؛ رغم أنه محاسب على ذلك وإن كان المسروق والمُبدّد عود من أراك (مسواك) ؛ لما جاء عن عبد الله بن كعب الأنصاري عن أبي أمامة رضي الله عنهما :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبا من أراك وإن كان قضيبا من أراك} قال أبو أمامة : قالها ثلاث مرات.
وهكذا إن كنت أيها الحرامي لاتخاف من النار . فأفعل ما تشـاء .. ولن ينفعك في ذلك اليوم الحـق مال ولا بنون ولا حميم.
وربما يستغرب البعض إذا أدرك مثلاً أن التأخر في الوصول إلى مقر العمل ، والتلكؤ في إنجاز واجبات وظيفته يعتبر جانباً من جوانب سرقة المال العام أو الخاص ... وكذلك الإهمال المتعمد والتغيب بدون عذر . وإستخدام وسائل الإتصال والمواصلات الخاصة بالعمل لأجل أداء وتخليص أمور شخصية.
وعلى أية حال فإن العقوبة في الدنيا والآخـرة تبقى دائما على قدر الجرم المرتكب . ولا نتوقع مثلاً أن تكون عقوبة من يسرق "عود أراك" أو "قلم رصاص" هي نفس العقوبة التي تطال من يسرق المليارات السائلة أو المنقولة والثابتة .... ولا نتوقع في الدنيا أن تكون عقوبة الجنحة مثل المخالفة .. أو الجناية مثل الجريمة ... كما لا نتوقع في حساب الآخرة أن يكون اللمم مثل الذنب .. أو تكون الخطايا مثل الكبائـر ... أو المعصية مثل الموبقـة... وهكذا.
ويظل المطلوب من رجال الدين دائماً هو التنبيه والتحذير من مغبة إرتكاب جرائم سرقة المال العام بوجه خاص .. وكذلك التنبيه إلى مغبة تبديد المال العام .
والملاحظ في هذا المجال أن رجال الدين ـ لاسيما عندما يخرجون إلى شاشات القنوات الفضائية والراديو ؛ يتحاشون الحديث عن سرقة المال العام أو تبديده .. وهم إنما يتحاشون ذلك خوفاً من غضب أصحاب النفوذ عليهم . وحيث درج المفهوم دائماً أن أصحاب النفوذ وكبار الأثرياء هم وحدهم الذين تستطيع أيديهم أن تمتد لسرقة المال العام.
ورجال الدين اليوم اختلف وضعهم عن الذين من قبلهم .. ففي الوقت الذي كان فيه قليل منهم فقط هو الذي يلتحق ببلاط السلطان . وتظل الأكثرية تعتمد على مواردها الخاصة من عمل يدها ؛ والجرايات من ذوي الفضل لوجه الله .. فإن رجال الدين اليوم أصبح معظمهم موظفون من موظفي الدولة ..
وبالتالي إرتبطوا جميعاً بلوائح وقوانين تحتم عليهم الإنصياع لأوامر الدولة . وناطقين بإسمها ؛ ومحافظين على أمنها الإجتماعي وسمعتها وسلامتها ، وعلى صيانة مصالحها ... ومن ثم فلا نتوقع منهم سوى الإنحياز للدولة بوصفها "رب العمل".
ولعل سابقة إنصياع "هيئة علماء السودان" لأوامر الحكومة في يوم من الأيام لفبركة وتخريج فتوى بإباحة وتحليل الـربـا (والعياذ بالله) ...... لعل في ذلك ما يغني عن كل إيضــاح وشـرح.
وجانب آخر من الجوانب التي تشجع على سرقة المال العام وتلقي الرشي وقبض العمولات ؛ هو تراخي الدولة المتعمد ، وعدم رغبتها أحياناً كثيرة في ملاحقة أو محاسبة ومعاقبة منسوبيها من الذين تورطوا في سرقة المال العام.
وفي هذا السياق فقد دأبت الدولة على تبرير موقفها هذا بأنه ما من مستندات تؤكد سرقة هذا المسئول أو ذاك للمال العام .
كل هذا في الوقت الذي ترى الحكومة وتشاهد ، وتقع بين يديها مستندات وتقارير تثبت على سبيل المثال أن هذا المسئول لم يكن يمتلك بيتاً قبل إلتحاقه بالمنصب .. وأنه بعد ست سنوات من وصوله للمنصب أصبحت له أكثر من زوجة جامعية حسناء في أعمار أنجاله من زوجته الأولى التي اقترن بها (على مضض) أيام الفقر والشلهتة .... ثم أصبح اليوم وما بين عشية وضحاها يمتلك أكثر من فيلا ، ومباني وأراضي لا تقل قيمتها عن 50 مليون دولار أمريكي... فمن اين له كل هذا؟
كذلك نلفت الإنتباه إلى ظاهرة تقلد بعض المسئولين من أصحاب المناصب الرسمية الحكومية مناصب تنفيذية وإستشارية في شركات وبنوك بصفتهم الشخصية .... وحيث لايوجد لدينا حتى اليوم قانون يمنع متقلدي المناصب الحكومية من ممارسة التجارة أو الدخول شركاء في شركات تجارية . والجمع بنحو عام بين المنصب العام والخاص ؛ نظراً لتعارض ذلك مع مصلحة الدولة العامة.
وتبقى "الهدية" هي آخر ما يتشبث به ذوي الأيادي الصفراء .. ويفترون على المعاني بترديدهم أن النبي قبل الهدية .... والله سائلهم عن حق رسوله الكريم يوم القيامة في هذا الإفتراء ولي عنق الحقائق بترديدهم كلمة حق أرادوا بها باطلا.
وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه التبريرات الإلتوئية في حادثة إبن اللتبية المشهورة .
فقد جاء مرفوعا عن أبي حميد الساعدي : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ " , فَلَمَّا جَاءَ ، قَالَ : " هَذَا لَكُمْ , وَهَذَا أُهْدِيَ لِي " , فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: { مَا بَالُ رِجَالٍ نُوَلِّيهِمْ أُمُورًا مِمَّا وَلَّانَاها اللَّهُ فَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ , أَفَلَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّةٌ إنْ كَانَ صَادِقًا }.
نأتي أخيراً إلى قصيدة "إحترامي للحرامي" التي جادت بها قريحة الشاعر الأمير عبد الرحمن بن مساعد آل سعود فنوردها أدناه .. وهي من الطرافة بمكان ؛ ثم أنها تكتسب رونقها وصداها من واقع أن كاتبها أمير ينتمي إلى أسرة حاكمة .. وهو ما يعطي الإنطباع بأن ظاهرة سرقة المال العام تلقى إستنكاراً في قطاعات عريضة.
ونلاحظ أن هذه القصيدة إنما تتناول جانباً واحداً من جوانب سرقة المال العام . وهي التكسب والثراء الحرام من الوظيفة العامة .. لكنها برغم ذلك تلبي نذراً من شغف القاعدة العريضة الشرفاء من أبناء هذه الأمة الإسلامية ، الذين يتطلعون إلى تسليط المزيد من الأضواء لفضح هذه الظاهرة ... وسعياً لتكريس ما يمكن تكريسه من مجتمع مستنير ؛ يربأ بنفسه عن وضع أمثال هؤلاء اللصوص والحرامية في الصف الأمامي .... وإحتقاري دائماً للحرامي.
[قـصــيدة إحترامي للحرامي]
إحترامي للحرامي
صاحب المجد العصامي
صبر مع حنكة وحِيطة
وابتـدأ بسرقة بسيطة
وبعـدها سرقة بسيطة
وبعـدها تعـدى محيطه
وصار في الصف الأمامي
++++++++++++++++
إحترامي للحرامي
صاحب النفس العفيفة
صاحب اليـد النظيفة
جاب هـا الثروة المخيفة
من معاشه في الو ظيفة
وصار في الصف الأمامي
++++++++++++++++
إحـترامي للحـرامي
صاحب المجد العصامي
يُـوْلِـي تطبيق النظام
أولوية وإهتمام
ما يقـرِّب للحــرام
إلا في جُـنح الظــلام
صـار في الصـف الأمـامي
إحترامي للحــرامي
++++++++++++++++
إحترامي للحرامي
صاحب المجـد العصامي
يسـرق بهـمّـة دؤوبــة
يقــدح ويـمــلأْ جـيـوبه
يعــرق ويــرجـىَ المثــوبة
ما يخــاف من العـقـوبـة
صـار في الصـف الأمـامي
إحــترامـي للحــرامي
++++++++++++++++
إحــترامـي للحــرامي
صـاحـب المجــد العصـامي
صــار يحـكــي في الفضــا
عـــن نــزاهــة ما مـضـــى
وكـيف آمــن بالقـضـاء
وغير حقـه ما ارتضــى
صــار في الصــف الأمــامي
إحــترامي للحـرامي
++++++++++++++++
إحــترامــي للنـكــوص
عــن قـوانين وعـن نصــوص
إحــترامـي للفـســاد
وأكــل أمـوال العبــاد
والجـشــع والإزديـــاد
والتحـــوُّل في البــلاد
مـن عمـومي للخصـوص
إحــترامي للصــوص
++++++++++++++++++